تقارير
تهديدات الحوثيين.. هل تتعايش السعودية مع الخطر بدلا من إنهائه؟
يكرر الحوثيون تهديداتهم بقصف الأراضي السعودية منذ سنوات، رغم مساعي السلام بين الطرفين والزيارات المتبادلة وقطعهما شوطا بهذا الخصوص قبل اندلاع الحرب في قطاع غزة، غير أن تلك المساعي توقفت بعد اندلاع الحرب، إذ انخرط الحوثيون بشكل أعمق في المحور الإيراني تحت شعار "وحدة الساحات" و"مساندة غزة"، مما علق جهود التهدئة التي كانت قد حققت تقدما ملحوظا.
وبعد توقف الحرب في قطاع غزة، عاود الحوثيون تهديداتهم بقصف السعودية، التي لم تبدِ أي تعليق على تلك التهديدات، ويبدو أنها تعمل من وراء الكواليس لاحتواء الحوثيين، عبر وساطات وحوارات لا يُعرف ما مضمونها، ومن المحتمل أن تهديدات الحوثيين الهدف منها الابتزاز أو تحقيق مكاسب إضافية في حال أنهم يُجرون حاليا مفاوضات سرية مع السعودية بوساطة عمانية أو غيرها.
- بداية التهديدات
بدأت تهديدات الحوثيين ضد السعودية منذ ما قبل عملية "عاصفة الحزم"، كما هددت إيران أيضا بقصف الأراضي السعودية في السنوات الأولى من تدخل السعودية عسكريا في اليمن، علما بأن من أبرز أسباب تدخل الرياض في اليمن تهديدات الحوثيين حينها بغزو المملكة وتنفيذهم مناورة عسكرية بالقرب من حدود السعودية مع اليمن، بمشاركة قوات من "الحرس الجمهوري"، التي كانت حينها متماسكة وعلى ولائها لعلي عبد الله صالح.
ومنذ ذلك الحين، حدثت متغيرات ميدانية وإقليمية كثيرة، كما شهدت السياسة الخارجية السعودية عددا من التحولات، لكن الأخطر في الأمر هو أن الأراضي السعودية أصبحت كالكلأ المباح أمام الصواريخ والطائرات المسيرة إيرانية الصنع التي كان يطلقها الحوثيون باتجاه المنشآت الحيوية للسعودية، ولم يعد أمن المملكة خطا أحمر كما كان سابقا، فمع تراجع المظلة الأمنية الأمريكية، وجرأة الحوثيين وغيرهم من المليشيات التابعة لإيران على قصف المنشآت السعودية قبل سنوات، كل ذلك أسقط هيبة المملكة وكشف هشاشتها أمنيا.
وتمثل تهديدات الحوثيين للسعودية ابتزازا لواشنطن بقدر ما هي ابتزاز للرياض، وتعد في مضمونها نهجا إيرانيا معروفا، يركز على التهديد بإغلاق مضيق هرمز وخنق التجارة العالمية كلما تعقدت المفاوضات النووية بين إيران والمجتمع الدولي، أو أرادت إيران ابتزاز جيرانها العرب. ومع أنها توصلت إلى مصالحة مع السعودية، لكنها ستوجه مليشياتها المنفلتة لتهديد السعودية بهدف إبقائها تحت ضغط مستمر.
وإذا كانت السعودية قد استطاعت خلال سنوات سابقة امتصاص كثير من الهجمات الحوثية وتحييدها، فإن ذلك لا يعني أن التهديد قد زال، لأن الحوثيين اكتسبوا خبرات ميدانية وتقنيات أكبر، وراكموا ترسانة واسعة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة المهربة من إيران.
وفي المقابل، لا يمكن فصل تهديدات الحوثيين عن الحسابات السياسية، فهم يدركون أن توجيه ضربة مباشرة للسعودية حاليا سيضعهم في مواجهة مكلفة، وقد ينسف أي تفاهمات أو قنوات خلفية تسعى لتخفيف التوتر، ولذلك تظل التهديدات أداة ضغط أكثر منها قرارا جاهزا للتنفيذ.
- السعودية ومبررات الفشل
من جانبها، تجري السعودية عملية إعادة تموضع واسعة على مستوى سياستها الخارجية، إذ انتقلت في السنوات الأخيرة من المواجهة المباشرة إلى التهدئة وتخفيف التوترات، سواء مع إيران أو الحوثيين أو غيرهم، وهذه التحولات تعكس فشل السعودية وعجزها عن مواجهة خصومها، فهي وإن بررت ذلك بفتح المجال أمام مشاريع اقتصادية كبرى تتطلب مناخا آمنا ومستقرا، لكن هذا يعكس سوء تقدير، فالمناخ الآمن والمستقر يتطلب القضاء على التهديدات وليس التعايش معها وترويضها.
إن التهديدات المتكررة من الحوثيين دون رد سعودي حاسم تسهم في تآكل قدرة المملكة على الردع، وتمنح الحوثيين شعورا بأن لديهم هامش حركة أكبر، الأمر الذي قد يشجعهم على رفع سقف التهديدات أكثر، أو استخدام الورقة العسكرية كلما احتاجوا إلى تحسين شروطهم السياسية في أي مفاوضات مقبلة.
- لماذا الآن؟
إن عودة مليشيا الحوثيين للتصعيد الكلامي ضد السعودية بعد توقف الحرب في قطاع غزة ليست مصادفة، فالمرحلة تشهد إعادة تقييم واسعة للمحور الإيراني، الذي يسعى لاستعادة نفوذه بعد تراجعه، ورفع كلفة الضغط الدولي عليه. والحوثيون، بصفتهم الحلقة الأكثر تحررا من القيود داخل هذا المحور، يتحركون بخفة أكبر، ولديهم ذرائع جاهزة لتبرير أي تصعيد جديد.
وفي الحقيقة، فإن ما بعد الحرب في قطاع غزة يختلف عما قبلها، فإسرائيل والولايات المتحدة نجحتا في إعادة تشكيل البيئة العسكرية والأمنية في المنطقة، وأصبح أي استهداف مباشر للسعودية أو الإمارات جزءا من حسابات أكبر بكثير، بعد أن أحاط الحوثيون أنفسهم بعدد كبير من الأعداء داخليا وخارجيا، وهذا يعني أنهم قد يطلقون التهديدات، لكن تنفيذها الآن يحمل مخاطر أكبر مما كان عليه الوضع قبل عامين.
أما إيران فإنها تدرك ما تمثله السعودية من ثقل سياسي واقتصادي، ولذلك تحرص على أن تبقى علاقتها معها في حالة "استقرار مضطرب"، يسمح لطهران باستخدام أوراقها في اليمن دون الوصول إلى قطيعة كاملة، فإطلاق التهديدات أو تنفيذ هجمات محدودة عبر الحوثيين يحقق هدفين لإيران: الأول، التذكير بأنها تملك القدرة على التأثير في أمن الخليج وممرات الطاقة. والثاني، الضغط على واشنطن والغرب في الملفات النووية والعقوبات. ولذلك، فإن أي تصعيد حوثي ضد السعودية، سواء وقع فعلا أو بقي مجرد خطاب، يكون جزءا من لعبة إيرانية محسوبة.
- السعودية.. فرص ضائعة في مواجهة المحور الإيراني
رغم تعدد التهديدات، ومقاومة المليشيات الطائفية المرتبطة بإيران لضغوط نزع أسلحتها، فإن السعودية لم تستغل اللحظة الذهبية التي كان يمكن خلالها تطويق نفوذ المحور الإيراني إلى الحد الأدنى. فخلال السنوات الأخيرة، مر الإقليم بمحطات كانت تمثل فرصة ثمينة للرياض، خصوصا عندما تعرضت إيران لعقوبات خانقة، وتراجع دور أذرعها في العراق وسوريا ولبنان، وانشغال طهران بأزماتها الداخلية، لكن السعودية اختارت الانسحاب وتهدئة الجبهات بدلا من استغلال تلك الفرص.
هذا النهج الذي تبرره الرياض بأنه "سياسة واقعية" أو "تفرغ لمشاريع التنمية"، كان له ثمن واضح يتمثل في تمدد نفوذ إيران مقابل انكماش أدوار خصومها. فالمسألة بالنسبة لطهران لا تقتصر على النفوذ السياسي، لأنها عقيدة ثورية مترسخة تتمثل في تصدير الثورة الخمينية وفرض "معادلة الردع" عبر المليشيات، وليس عبر الدولة الإيرانية ذاتها، وهذه العقيدة تتغذى من كل مساحة أمنية يتركها خصومها فارغة.
- تراجع المظلة الأمريكية
ظلت السعودية، لعقود كثيرة، تستند إلى المظلة الأمنية الأمريكية، التي وفرت لها حماية خلال مراحل صعبة. لكن بعد بروز تحديات أمنية جديدة أمام المملكة في أعقاب فترة من الهدوء، شهدت السياسة الخارجية الأمريكية تحولات زادت المشهد تعقيدا، فالمظلة الأمنية التي اعتادت دول الخليج الاعتماد عليها منذ منتصف القرن الماضي لم تعد بالصلابة نفسها، وأمريكا ذاتها لم تعد تنظر إلى المنطقة كما كانت تفعل في السابق.
ورغم أن واشنطن لا تزال القوة الوحيدة القادرة على حماية الخليج إستراتيجيا، فإن طريقة إدارتها للأزمات تتغير، فهي أصبحت أقل ميلا إلى التدخل العسكري المباشر وأكثر اعتمادا على الردع غير المعلن والاحتواء الدبلوماسي، وهذا النمط يترك خصوم الخليج، وعلى رأسهم إيران، أكثر جرأة في اختبار حدود الرد الأمريكي.
تشعر دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، بقلق بالغ جراء تراجع الحماية الأمريكية، ولذلك بدأت بطرق أبواب بديلة لكن دون جدوى، فرحلات قادة السعودية إلى بكين وموسكو وأخيرا إلى باكستان، والحديث عن اتفاقات دفاعية وصفقات أسلحة، كلها خطوات تحمل رسائل سياسية أكثر مما تحمل انتقالا فعليا إلى تحالفات بديلة.
فالصين، رغم قوتها، ليست مهتمة بالدخول في صراعات المنطقة، وروسيا تخوض حرب استنزاف طويلة في أوكرانيا، أما أوروبا فهي لا تستطيع حماية نفسها دون أمريكا، فكيف يمكنها حماية الخليج، ولذلك فإن الحديث في الخليج عن "بدائل" ليس سوى ورقة ضغط لتحسين شروط العلاقة مع واشنطن على أمل رفع مستوى الحماية الأمنية، وليس خيارا إستراتيجيا حقيقيا.
لكن المشكلة حاليا تكمن في غياب الردع وليس في غياب البدائل، فالسعودية تراهن حاليا على التهدئة، في وقت يحتاج فيه الخليج إلى إستراتيجية مزدوجة تتمثل في شراكة أمريكية أكثر صلابة، وسياسة خليجية أكثر حزما.
صحيح أن الثقة الخليجية في واشنطن تراجعت، لكن لا يمكن الشك في حقيقة أنه لا يوجد بديل فعلي للمظلة الأمنية الأمريكية. فمثلا، الهجمات الإسرائيلية على العاصمة القطرية الدوحة كانت جرس إنذار للخليج وإحراجا لواشنطن، بصرف النظر عن كونها استهدفت قيادات لحركة حماس، لكنها أعادت التأكيد على أن غياب الدور الأمريكي يعني بالضرورة انكشافا أمنيا هائلا لا تستطيع أي دولة التعامل معه بمفردها، مهما بلغت قوتها الاقتصادية أو العسكرية.
وحتى مع الانتقادات التي توجهها الرياض وأبوظبي وقطر لطريقة واشنطن في إدارة الأزمات، فإن دول الخليج تدرك أن الولايات المتحدة تظل القوة الوحيدة القادرة على توفير بنية أمنية مستقرة تشمل: قواعد عسكرية دائمة ومتعددة المواقع، وبنية دفاع صاروخي هي الأكثر تقدما عالميا، وقدرات تدخل سريع لا يملكها أي طرف آخر، وهذه المنظومة غير قابلة للاستنساخ في المدى المنظور.
- الردع.. المعادلة المفقودة
تتمثل المشكلة الرئيسية للسعودية ودول الخليج بشكل عام في غياب الردع وليس في غياب البدائل، وهي حاليا تراهن على التهدئة، في وقت يحتاج فيه الخليج إلى إستراتيجية مزدوجة تشمل شراكة أمريكية أكثر صلابة، وسياسة خليجية أكثر حزما.
ويمكن القول إن تهديدات الحوثيين اليوم ليست خطرا بحد ذاتها بقدر ما هي مؤشر على فراغ الردع، ذلك أن المليشيا التي كانت تفر وتتخفى عند أول تحليق لطائرة إف-15، أصبحت اليوم تفاوض وتهدد بالقصف في الوقت نفسه، وتلوح بضرب السعودية كلما احتاجت طهران إلى تفعيل ورقة الضغط تلك.
في المحصلة، يمر أمن السعودية والخليج بشكل عام بمرحلة دقيقة، فالمظلة الأمنية الأمريكية باقية لكنها لم تعد كافية وحدها، والتهدئة مع إيران مهمة لكنها ليست ضمانا، والمشاريع الاقتصادية الكبرى في السعودية تحتاج بيئة صلبة لا تتحقق إلا عبر خلق معادلة ردع جديدة تبدأ بالقضاء التام على مليشيا الحوثيين واستعادة الدولة في اليمن، واستثمار اللحظات التي يتراجع فيها خصوم الخليج، بدلا من الجهود المرهقة للتعايش مع الخطر والامتصاص الدائم للتهديدات.