تقارير

حين يصرخ الصمت في اليمن.. وجع نفسي يفتك بالمجتمع المنهك بالحرب

17/10/2025, 07:32:57
المصدر : قناة بلقيس - خاص

في اليمن الذي أنهكه الحرب، لم تعد أصوات الرصاص وحدها تعبّر عن الألم، بل صارت هناك أصوات صامتة تروي مآسي اليمنيين بطريقتها القاسية؛ إنها حكايات المُنتحرين الذين وجدوا في الموت مهربًا من حياة أثقلتهم بالفقر واليأس والخذلان.

في اليمن، تتكاثف المآسي كغيوم سوداء: أطفالٌ بلا مدارس، نساء محاصرات بالخوف والابتزاز، شباب بلا عمل ولا أمل، كل ذلك جعل الانتحار يتحوّل من فعل فردي إلى ظاهرة اجتماعية تعبّر عن حجم الانكسار الذي يعيشه شعب يواجه الحرب والجوع والحرمان منذ أكثر من عقد من الزمن.

ألم تتقاسمه فئات المجتمع

تؤكد التقارير الحقوقية أن الانتحار في اليمن لم يعد مأساة شخصية؛ بل مرآة لألم جماعي تتقاسمه فئات المجتمع كافة.

الموظف الذي حُرم من راتبه، والمعلم الذي أُهمل صوته، والفتاة التي واجهت الابتزاز، والطفل الذي أُغلق أمامه باب المدرسة؛ جميعهم خسروا الإحساس بالجدوى، ووجدوا أنفسهم على حافة الانهيار النفسي والاجتماعي.

وتفاقم المشهد مع انهيار منظومة الدعم النفسي، إذ لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في البلاد 60 طبيبًا فقط، بينما أُغلقت 80% من العيادات والمراكز المتخصصة، لتترك آلاف اليمنيين في مواجهة وحدهم مع معاناتهم، وفقا لتقارير إنسانية.

انتحار أكثر من 13 ألف شخص

كشف تقرير صادر عن مؤسسة تمكين المرأة اليمنية مطلع الشهر الجاري عن تسجيل ما بين 13 و16 ألف حالة انتحار خلال الأعوام 2015–2025، معظمها في مناطق سيطرة الحوثيين، لتجعل اليمن ضمن أعلى دول المنطقة في معدلات الانتحار.

وحسب تقرير المؤسسة أطلعت عليه قناة "بلقيس"، فإن الفريق الميداني للمؤسسة وثّق 200 حالة بأسماء وتفاصيل دقيقة في 18 محافظة، بينها أطفال ونساء ومعلمون وموظفون حكوميون.

وتصدّرت محافظات إب وتعز وصنعاء وذمار قائمة المناطق الأعلى، فيما أرجع التقرير 22% من حالات انتحار النساء إلى الابتزاز الإلكتروني والعاطفي.

وفي ملحق التقرير، قصص موجعة، طفل أنهى حياته بعد حرمانه من التعليم، طالبة سقطت ضحية ابتزاز رقمي، معلم فقد راتبه واعتُقل، ومخترع شاب أُحبط حتى الموت، كل قصة منها كانت شهادة حية على وجع يمنيٍّ لا يُحتمل.

الحرب والفقر

وفي هذا الصدد، تؤكد الإخصائية النفسية وعضو المجلس الاستشاري اليمني فاطمة الحرازي، أن "الحرب الطويلة والفقر المدقع صنعا بيئة مثالية لليأس"، مضيفة أن ضعف الوعي المجتمعي وغياب الخدمات النفسية جعل الانتحار نتيجة طبيعية لحالة الانكسار العام في البلاد.

تقول فاطمة الحرازي لقناة "بلقيس"، "المجتمع لا يزال يرى المرض النفسي وصمة، ولهذا يواجه الضحايا الوحدة بدل الدعم"، مؤكدة أنها من أخطر الظواهر النفسية والاجتماعية.

تصف الحرازي، هذه الظاهرة بأنها "أخطر انعكاسات الحرب"، مؤكدة أن ضحاياها في الغالب من الشباب والمراهقين، لكنها بدأت تمتد إلى فئات أخرى، حتى الأطفال وكبار السن.

وترى أن الأسباب تتوزع بين الفقر، والبطالة، والعنف الأسري، والابتزاز، والانفصال الاجتماعي، فضلًا عن الاكتئاب الحاد، والأزمات الاقتصادية، وضعف تقدير الذات وفقدان المعنى والهوية، ناهيك عن المشاكل الأسرية كالانفصال والطلاق وغيرهما.

كما أشارت إلى أن الانتحار قد يكون مرتبطًا بأسباب نفسية مباشرة، مثل الاكتئاب الحاد، اضطرابات الشخصية، ضعف الإيمان، ضياع الأهداف، وضعف تقدير الذات.

وأضافت أن هذه العوامل قد تختلف في طبيعتها ونتائجها، لكنها جميعًا تعكس آثار الحرب وفقدان الاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي والقيمي على المجتمع اليمني. حسب تعبيرها.

وتعزو دراسات علمية ظاهرة الانتحار بين اليمنيين إلى مضغ القات؛ لكونه يسبب أمراضًا نفسية أهمها "انفصام الشخصية" وهو النقيض المباشر للاكتئاب؛ لكنه في حالات معينة يجتمع الاكتئاب والانفصام ويؤديان للانتحار.

وتقدر بعض الدراسات، أن انفصام الشخصية في اليمن يشمل شخصًا من كل 40 شخصًا، ما يعني وجوده في معظم الأسرة اليمنية. 

أزمة نفسية 

تُظهر تقديرات حديثة، أن نصف سكان اليمن يعانون اضطرابات نفسية، أبرزها القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، وفقا لخبراء الصحة النفسية المشاركون في المؤتمر الأول للباحثين اليمنيين الذي نظمته مؤسسة توكل كرمان.

وفي هذا الصدد، أكدت الدكتورة نجاة خليل، أستاذة علم النفس الاجتماعي، أن سنوات الحرب المتواصلة "خلقت مجتمعًا مثقلًا بالقهر والظلم، يفتقد العدالة والمساواة، ويعيش في بيئة تُغذي الانكسار النفسي".

وأضافت في حديثها لقناة "بلقيس"، أن جهود المنظمات الدولية، رغم أهميتها، تبقى محدودة، داعية إلى تأهيل الكوادر المحلية وتفعيل دور الإعلام في نشر الوعي النفسي.

وأشارت الدكتورة نجاة خليل إلى أن "الصحة النفسية في اليمن ما زالت تُعامل كترف فكري، بينما هي في الحقيقة شرط أساسي للتعافي الوطني". حسب وصفها.

بحث عن ضوء

وفي محاولة لفتح نافذة أمل، نظّمت مؤسسة المرأة الآمنة للتنمية في تعز مطلع الأسبوع الجاري المؤتمر العلمي النفسي الأول، بالتزامن مع اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف الـ 10 من أكتوبر من كل عام.

المؤتمر دعا إلى دمج خدمات الدعم النفسي في المدارس والمراكز الصحية، وإطلاق حملات توعية مجتمعية تكسر حاجز الصمت والوصمة المرتبطة بالمرض النفسي، باعتباره البوابة الرئيسية للانتحار.

ورغم أهمية المؤتمر والأوراق العلمية التي قُدِّمت خلاله، إلا أن ظاهرة الانتحار لم تنل نصيبها الكافي من البحث والدراسة في مثل هذه الفعاليات، التي تركز في الغالب على الأسباب النفسية الناجمة عن الحرب، وهي ذاتها التي تدفع كثيرين إلى الانتحار، بحسب ما أوضحته رئيسة المؤسسة، ابتهال الأغبري.

وأشارت الأغبري في تصريح لقناة "بلقيس"، إلى أن المؤتمر جاء استجابةً لتداعيات الحرب مشيرة إلى أن انهيار الروابط الأسرية وانتشار الصدمات النفسية وتزايد التسرب المدرسي للفتيات جميعها مؤشرات "تستدعي تحركًا عاجلًا لإنقاذ المجتمع".

وأكدت أن المؤتمر، شهد ورش عمل متخصصة حول أحدث تقنيات معالجة الصدمات، منها تقنية EMDR، إضافة إلى دراسات ميدانية عن واقع الدعم النفسي والاجتماعي في اليمن.

وأوصى المشاركون في المؤتمر بضرورة وضع خطط طويلة المدى لبناء الثقة وتعزيز الأمان النفسي والاجتماعي، باعتبارها من أهم متطلبات التعافي من الأزمات النفسية التي قد تدفع الشباب إلى الانخراط في ممارسات خاطئة، بما في ذلك الانتحار.

نظام وطني للصحة النفسية

في السياق ذاته، دعا المؤتمر الأول للباحثين اليمنيين الذي نظمته مؤسسة توكل كرمان في إسطنبول، إلى إنشاء نظام وطني متكامل للصحة النفسية والبدنية، باعتباره ركيزة أساسية لإعادة بناء المجتمع بعد الحرب.

وأكد المشاركون ضرورة توسيع الخدمات لتشمل المناطق الريفية، وتفعيل التأمين الصحي الشامل، ودمج الصحة النفسية ضمن السياسات العامة، معتبرين أن الاهتمام بها "ليس رفاهية بل أولوية وطنية عاجلة".

تأتي هذه المبادرات في ظل غياب الدور الحكومي الفاعل، وانقسام مؤسسات الدولة، واستمرار الحرب، حيث تؤكد التقارير أن الانتحار في اليمن بات صرخة مجتمع بأكمله يعاني بصمت ووجع وألم دون أمل.

وهكذا، يظل الانتحار في اليمن وجعًا يصرخ من بين الركام، لا يبحث عن شفقة، بل عن فهمٍ واحتواء، وهو المرآة التي تعكس هشاشة الروح حين تُنهكها الحروب، وحين يفقد الإنسان معنى البقاء في وطن يضيق عليه حتى الهواء.

لكن وسط هذا الظلام، لا تزال ومضات الأمل ممكنة، متى ما تذكّرنا أن إنقاذ حياة واحدة هو إنقاذ لوطن بأكمله، وأن بناء الإنسان نفسيًا هو الخطوة الأولى لبناء السلام الحقيقي والتعافي الوطني.

تقارير

هجمات البحر وحرب أهلية.. إنقاذ اليمن من خطر مزدوج

"مجموعة الأزمات الدولية"،تقول إن وقف إطلاق النار في غزة يخلق فرصة لتخفيف أزمة البحر الأحمر، إلا أن البناء على هذه الفرصة سوف يتطلب دبلوماسية شاملة، سواء لضمان استمرار الهدنة أو للبحث عن مخرج من الحرب الأهلية في اليمن.

تقارير

مركز القلب وزراعة الكلى في تعز.. قصة إنجاز طبي تتحدى الحرب

كان الستيني اليمني سلطان سعيد يمارس أعماله اليومية كالمعتاد، قبل أن يفاجأ بألم حاد في صدره. وبعد نقله إلى عيادة أحد الأطباء في ريف محافظة تعز، تبيّن أنه مصاب بجلطة قلبية حادة. وبناء على توصية الطبيب، تم إسعافه إلى مركز القلب والأوعية الدموية وزراعة الكلى بمدينة تعز، ليبدأ هناك سباق مع الزمن لإنقاذ حياته.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.