تقارير
في ذكرى ثورة 26 سبتمبر.. مفارقات لها دلالات
في صبيحة 26 سبتمبر 1962 اندلعت أعظم ثورة غيرت وجه اليمن، وتمثل محطة فارقة في تاريخ البلاد، وأما الانتكاسة الحاصلة اليوم بعد ستة عقود من اندلاع تلك الثورة، وعودة الإمامة وسيطرتها على العاصمة صنعاء ومعظم محافظات شمال البلاد، فهي تعكس مدى فشل النخب السياسية التي وصلت إلى السلطة بالصدفة، وأن "الجمهورية" التي أتت بها ثورة 26 سبتمبر وصلت إلى أيدي انتهازيين يفتقرون إلى العقيدة الوطنية، كما أن استمرار سيطرة الحوثيين على محافظات عدة منذ تسع سنوات، يؤكد حاجة البلاد الماسة إلى قيادة ثورية لاستعادة الجمهورية، وليس قيادة فاشلة وفاسدة ومرتهنة للخارج.
ورغم تزايد الاهتمام الشعبي بثورة 26 سبتمبر والاحتفالات الشعبية اللائقة في ذكرى اندلاعها، لكن تلك الاحتفالات واستعادة وهج الثورة وأهدافها وتسليط الضوء على القيادات الوطنية الثورية التي أشعلتها، كل ذلك لم يحفز القيادات السياسية والحزبية الحالية لإشعال ثورة جديدة ضد مليشيا الحوثيين الإمامية، وهكذا يتجسد مأزق القيادة السياسية للبلاد المتمثل في الافتقار إلى قيادة سياسية ذات عقيدة وطنية وثورية.
ويعاني الشعب اليمني خلال العقود الأخيرة من أزمة القيادة بشكل أثر كثيرا على وضع البلاد، ذلك أن معظم الانتكاسات كانت بسبب أزمة القيادة، فأزمة القيادة كانت السبب في تغلغل الإماميين السلاليين داخل النظام الجمهوري، وأزمة القيادة هي التي سلمت "الجمهورية" للحوثيين بعد أن رحبت بهم واستقبلتهم في العاصمة صنعاء، وأزمة القيادة هي التي جعلت الحوثيين يبسطون سيطرتهم بشكل سلمي على عدد كبير من محافظات البلاد، وأزمة القيادة هي السبب في استمرار سيطرة الحوثيين وعدم توحيد الصفوف لإنهاء انقلاب الإمامة بنسختها الحوثية واستعادة الجمهورية.
- مفارقات بين الأمس واليوم
عند التأمل في عجز وفشل النخبة الحاكمة اليوم، وعدم مبادرتها إلى الدفاع بجدية عن المنجزات والمكتسبات التي حققتها ثورة 26 سبتمبر 1962، يتبادر إلى الذهن عظمة الثوار الذين أشعلوا ثورة سبتمبر بالرغم من إمكانياتهم المحدودة، بل فقد أشعلوا تلك الثورة ضد الإمامة من داخل جيش الإمامة ذاتها، وهي مغامرة لا يقدم عليها إلا أبطال شجعان وضعوا أرواحهم على أكفهم وشكلوا نموذجا نادرا في حركات التحرر الوطني.
وبلغة اليوم: لم يكن لدى الثوار حينها جيش وطني، ولا سلاح، ولم يكن هناك أمل في ظهور مقاومة شعبية بسبب الجهل الذي كان يشكل عائقا أمام انتشار الوعي بخطورة الإمامة، ولم تكن فكرة الثورة واردة لدى الشعب، وهناك جهل بفكرة النظام الجمهوري والتمييز بينه وبين الإمامة، وكانت النخبة الوطنية التي أشعلت الثورة محدودة العدد، ومع ذلك تمكنت من تشكيل تنظيم الضباط الأحرار سرا من داخل جيش الإمام، وأشعلت ثورة بأسلحة الإمامة، وكان لافتا ذاك الالتفاف الشعبي حول الثورة رغم الجهل ومحدودية الوعي السياسي.
أما اليوم، فالحكومة الشرعية لديها جيش وطني (سبع مناطق عسكرية)، وهناك مقاومة شعبية، وحاضنة اجتماعية كبيرة، ووعي شعبي بخطورة عودة الإمامة، وغضب يتنامى ضد الحوثيين في مناطق سيطرتهم، وأدوات نشر الوعي والتعبئة الوطنية متوفرة، وكل ما كان يفتقر إليه ثوار الأمس، اليوم موجود ومتوفر بكثرة، كالجيش والسلاح والموارد والإعلام والوعي الشعبي بخطورة الإمامة وأهمية الجمهورية والديمقراطية كطوق نجاة للبلاد، إذن فما الذي يمنع الحكومة الشرعية ومختلف مكونات الصف الجمهوري من العمل على استعادة الجمهورية والقضاء على الإمامة التي تمثل الحوثية أسوأ وأبشع نسخة منها؟
قد يفسر البعض عجز النخبة الحاكمة اليوم بسبب سطوة التدخل الأجنبي وهيمنة السعودية على قرار الحكومة الشرعية، بالإضافة إلى الخلافات والانقسامات بين مكونات الصف الجمهوري، لكن حتى مثل هذه التعقيدات فإنها كانت قد ظهرت بعد ثورة 26 سبتمبر، والفرق يكمن في نوعية القادة وليس في سطوة التدخل الأجنبي أو الخلافات، والأصل أنه في اللحظة الثورية تكون "أخوة البندقية والنضال" مقدمة حتى على أخوة الدم والنسب، لأنه في أخوة الدم والنسب قد يكون لكل فرد توجه مغاير للآخر، أي قد يكون أحدهم جمهوريا والآخر إماميا.
وبالتالي فالأخوة الثورية وأخوة البندقية والنضال تنحي الخلافات السياسية والأيديولوجية تماما وتؤجلها إلى ما بعد حسم الثورة، أو إذا كانت ستعرقل مسار الثورة، فالمجال مفتوح لعقد المؤتمرات بين أخوة النضال للمكاشفة والمصارحة وتقريب وجهات النظر، وهذا ما حدث أثناء الحرب بين الجمهوريين والإماميين بعد ثورة 26 سبتمبر، حيث عقد الثوار العديد من المؤتمرات التي نجحت في رأب التصدعات فيما بينهم بشكل مكنهم من المضي في الدفاع عن الثورة حتى نجاحها.
وأما ما يتعلق بسطوة التدخل الأجنبي، فالتدخل كان قائما أيضا بعد ثورة 26 سبتمبر، فجمهورية مصر، في عهد جمال عبد الناصر، دعمت الثورة بقوة، والسعودية ودول ملكية وغربية أخرى كانت تدعم الإماميين بقوة، ويكمن الفرق في أن ثوار سبتمبر تعاملوا مع التدخل الأجنبي الداعم للثورة بندية، ولهذا السبب نشبت خلافات كثيرة، وكانت الثورة والجمهورية خطا أحمر بالنسبة للثوار، بدليل أن الثوار رفضوا اتفاق جمال عبد الناصر مع الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود خلال قمة جدة المنعقدة بتاريخ 22 أغسطس 1965 في السعودية.
وكان سبب الرفض اتفاق جمال عبد الناصر والملك فيصل على عرض فكرة الجمهورية واسم الدولة الجديدة للاستفتاء الشعبي، وهو ما أثار استياء الثوار الجمهوريين الذين رفضوا أن تعرض "الجمهورية" للاستفتاء الشعبي مقابل "الإمامة"، كما رفضوا جميع مقترحات الإماميين والأطراف المساندة لهم بشأن اسم الدولة وهويتها واستثناء النظام الجمهوري، ولهذا السبب فشل مؤتمر حرض، 23 نوفمبر 1965، الذي عقد تنفيذا لبيان مؤتمر جدة بين عبد الناصر والملك فيصل، وتجدد القتال بين الجمهوريين والإماميين، بسبب رفض الجمهوريين التنازل عن النظام الجمهوري مهما كان الثمن.
وهناك مفارقة مهمة تكشف الفرق بين قادة ثورة 26 سبتمبر والنخبة التي تقود البلاد اليوم، فقادة ثورة سبتمبر تجرعوا كل المرارات في ميادين القتال ضد الإمامة ومنهم من ارتقى شهيدا، ولم يكن يوجد حينها من يفضلون التجول في خارج البلاد إلا للضرورة وفيما يخدم الثورة وأهدافها وسرعان ما يعودون إلى البلاد، على العكس من النخبة التي تقود البلاد اليوم، والتي آثر أعضاؤها طيب الإقامة في الفنادق المريحة والأموال التي يحصلون عليها مقابل السكوت عن كل ما يدور في البلاد خدمة لأهداف وأجندة البلد الذي يستضيفهم، وبالتالي تحولوا إلى معوقات أمام معركة استعادة الدولة.
وكان الأجدر بتلك النخبة الفاشلة أن يقدموا استقالاتهم من مناصبهم إذا كانوا غير مستعدين للنضال الوطني والتضحية ضد الإمامة الجديدة من الميدان أو حتى الإقامة داخل البلاد وقيادة معركة استعادة الدولة من مكاتبهم، لكنها الخشية على المصالح الشخصية التي قدموها على الجمهورية ومستقبل البلاد، وإلا في حال عجز النخبة السياسية الحاكمة عن النضال من الميدان فالأجدر بها تسليم السلطة إلى مجلس عسكري في الميدان وتكليفه بمسألة استعادة الدولة وحماية النظام الجمهوري، وليس تقييد الجيش بالأوامر العسكرية أو الانضباط العسكري، واستخدام ذلك الانضباط في تقييد الجيش وتكبيله بعجز وفشل القيادة السياسية وعملها وفق حسابات الخارج وليس وفق حاجات ومتطلبات الداخل.
- الحاجة إلى عقيدة وطنية وثورية
لعل أبرز خلل قاتل يعاني منه الشعب اليمني في هذه المرحلة هو عدم وجود قيادة سياسية محنكة تتصف بالعقيدة الوطنية والثورية وترقى إلى تحديات المرحلة، وأما غياب العقيدة الوطنية والثورية في أوساط النخبة الحاكمة فهو ناجم عن الخلل في آليات فرز النخب السياسية وطريقة صعودها إلى السلطة، وتكمن خطورة وصول الفاشلين إلى السلطة في أنهم يقفون حجر عثرة أمام التطور الطبيعي للدولة، وليسوا مستعدين للتضحية ضد أي مخاطر تهدد البلاد ونظامها السياسي، وهذا طبيعي لأنهم بلا عقيدة وطنية وثورية.
وتعد العقيدة الوطنية والثورية بمنزلة القوة المحركة للثورة ضد المليشيا الحوثية الإمامية، والحارسة للدولة من عوائق تطورها سواء كانت عوائق محلية أو أجنبية، ومع توحش مشاريع تفتيت اليمن وإضعافها وتهديد كيانها ومصيرها، فإن الحاجة اليوم ماسة أكثر من أي وقت مضى لتطوير عقيدة وطنية وثورية للقضاء على الإمامة واستعادة الدولة وحماية النظام الجمهوري.