تقارير
مهدي.. قصة رجل ستيني يعيش على حفر القبور منذ 30 عاما
تبدو مهمّة عمل الرجل الستيني "مهدي" في حفر القبور مختلفة عن بقية الأعمال والمهام التي يقوم بها الآخرون في مجالات الحياة المتعددة على خطى المضي قُدماً.
بينما فرضت الظروف المعيشية على مهدي الذّهاب الباكر إلى المقبرة للقيام بمهمته في حفر القبور مذ أزيد من 3 عقود زمنية قضاها في حفر مدافن الموتى.
يقول مهدي لبلقيس: "لي 35 سنة، وأنا أحفر قبور هنا، أجي الصباح من بدري، وأجلس إلى بعد الظهر وأضوي، وأرجع العصر لو في متوفي".
تقدم العُمر بحفار القبور، الذي بدأ مزاولة عمله عندما كان شاباً، لكنه ما يزال ملتزماً بالحضور إلى المقبرة بصورة يومية للقيام بدور إشرافي على أبنائه الثلاثة الذين يعمل جاهداً معهم في محاولة نقل خبرته الكاملة عن كيفية حفر القبور، وحثّهم على اتباع تفاصيل عملية الحفر المتّبعة في كافة مقابر صنعاء. لكأنّ أبناءه الثلاثة: علي (36 عاماً)، محمد (38 عاماً)، حسن (33 عاماً)، يخضعون لدورات مكثّفة في عملية حفر القبور على يد الحفار الماهر والدهم، الذي لم تعد تقوى يداه على القيام بمهمة الحفر.
يقول مهدي لبلقيس: "خلاص أنا ما عاد أقدر أحفر، بين أعلِّم عيالي الثلاثة كيف يحفروا ويسووا القبور، أسير وأجي معهم يومياً للمقبرة".
إذْ عاش الرجل وأسرته، وما يزالا، من الأجور التي يقبضها لقاء عمله في حفر القبور.
يقول نجله علي لبلقيس: "نعيش كلنا في الأسرة من بيع القبور، وكل فترة يكون سعر القبر فيها مختلف، حالياً نبيع القبر الواحد بـ50 ألف ريال". ما يعادل 83 دولارا سعر الصرف في مناطق سيطرة مليشيات الحوثي الانقلابية.
الحياة من القبور
تعوّد الرجل على العيش مع كافة أفراد أسراته من ثمن الجهود التي يبذلها في حفر القبور طيلة فترة عمله المستمرة حتى اللحظة، بمعاونة أبنائه الذين ورّث لهم مهنة الحياة من المقابر.
يقول لبلقيس: "أنا ما تعلّمت، ولا توظّفت، وأعيش من الشقى هنا، حتى جهالي ما معهم وين يسيروا، لأنهم ما زلّجوا تعليمهم، ما به الا المقبرة يعيشوا منها، ويصرفوا على عيالهم ونسوانهم".
إذْ لا يعير الرجل وأبناؤه أي اهتمام لنظرة المجتمع حيال عملهم في مهنة حفر القبور، والعيش من المقبرة.
يقول نجله محمد لبلقيس: "بعض الناس يحالوا يسيئوا لنا، لكن نحن نتجاهل كلامهم، والعمل شرف لنا أننا نأكل لقمة حلال، بدل ما نسرق والا نفعل عمل غلط".
يقضون أغلب أوقات النهار داخل المقبرة، التي يعملون فيها مع والدهم حفار القبور الأول، حيث لا تنتهي مهمتهم عند حفر القبر فقط، بل يقومون بدورهم الكامل في عملية دفن الموتى حتى يتم الانتهاء من العملية، بحسب الإجراءات المتّبعة للشريعة الإسلامية.
يقول مهدي لبلقيس: "نحن نوسّد الميت، ونقوم بكل شيء أثناء الدّفن، حتى نخلص الدّفن، وضروري نخطى على الشريعة الإسلامية، ونوفّر الماء والطين والبلوك".
ويعتبر حفار القبور ملزماً بتوفير كل الاحتياجات الخاصة لعملية دفن الموتى، كالماء والطين وغيره. إضافةً إلى ذلك فهم يحصلون على أجور إضافية في حالة تحسين القبر بالأحجار من الخارج، مع وضع علامة: ما يُعرف بـ"الشاهد"، على القبر لتمييزه فيما بعد، ليبقى معروفاً لدى أقارب المتوفي، وحتى لا يتعرّض للهدم أو التخريب.
الموتى زادوا
في بلدٍ كاليمن، لا تبدو مظاهر الحياة شبه متوقّفة، لكن حالة الموت المسيطرة على المشهد العام في البلد فتكاً باليمنيين ضاعفت افتتاح عدد من المقابر، خصوصاً في مناطق سيطرة الانقلابيين الحوثيين بما في ذلك صنعاء.
يقول مهدي لبلقيس: "الحرب والأمراض قتلت الناس، وكثير من المقابر أصبحت شبه ممتلئة من كثرة الأموات، ما عاد فيها فسح لحفر قبور جديدة، ضروري يفتتحوا مقابر بدل الأوَّلات".
وازدحمت المقبرة، التي يعمل فيها مهدي وأبناؤه، بشواهد قبور كثيرة، نتيجة ارتفاع أعداد الوفيات لأكثر من سبب، لعلَّ أبرزها الحرب والأمراض الفتاكة طيلة سنوات العقد الأخير. كما شهدت أسعار القبور ارتفاعاً لافتاً في مناطق سيطرة الانقلابيين الحوثيين. وبحكم أن المقابر تتبع رسمياً وزارة الأوقاف، سعت سلطة الأوقاف الحوثية إلى تحديد أسعار القبور بحسب كل فِئة عمرية، بعد مضاعفة أسعارها مرات عما كانت عليه في السابق، حتى يتسنّى لها أخذ نسبة محددة عن كل قبر باعه حفارو القبور.
إذْ امتنع مهدي وأبناؤه عن الخوض في تفاصيل توزيع المبلغ، وكم النسبة التي تقبضها المليشيات عن كل قبر، مكتفين بقولهم لموقع بلقيس: "المقابر أسرار وأمانات، حرام نتحاكى عن الموتى".