منوعات
العصا البيضاء.. كيف تساعد ذوي الإعاقة البصرية على الاستقلالية والاندماج؟
في زاوية هادئة من العاصمة صنعاء، كان "صدام" 35 عامًا يمسك بعصاه البيضاء بحنان يشبه حنان أم على طفلها الصغير، يمررها أمامه بخطوات واثقة، وكأنه يقرأ بها الطريق لا يلمسه.
بصوت يغلبه الوقار يقول صدام: "العصا البيضاء بالنسبة لنا ليست أداة فحسب؛ إنها نصف نظر، وتمام كرامة"، تحدث صدام عن عصاه كما يتحدث المبصر عن عينيه.
يقول صدام - وهو كفيف منذ ولادته - لقناة "بلقيس": "هذه العصا هي التي تمنحنا القدرة على الحركة باستقلالية، نتلمس بها طريقنا، ونتجنب الحفر والمطبات، ونحس بها بما لا تبصره العين".
يتوقف قليلًا ثم يضيف بنبرة تأمل: "هي أيضًا رمز للسلام والإنسانية، حين نرفعها أمامنا يعلم الناس أن هناك كفيفًا يسير بينهم، فيتخذون حذرهم ويساعدوننا إن لزم الأمر".
لكن خلف هذه العصا التي ترمز للنور، تختبئ معاناة طويلة في سبيل الحصول عليها، يوضح صدام أن صندوق رعاية وتأهيل المعاقين هو الجهة الوحيدة التي تستورد العصا البيضاء، ويتم توزيعها عبر جمعيات المكفوفين في أمانة العاصمة والمحافظات، غير أن الكميات، كما يقول، "لا تكفي".
يضيف صدام: "أحيانًا نطلب ثلاثمائة عصا، فيأتينا مائة فقط، أو أقل، والجمعية توزعها حسب الأولوية، وكثير من المحتاجين لا يحصلون عليها"، مشيرًا إلى أنها تقدم مجانا للكفيف.
يستدرك حديثه بالقول: لكن الجمعيات تتحمل خسائرها أثناء المعاملات، وتضطر أحيانًا لشرائها من السوق لتغطية النقص؛ لأنها "مسؤولية تتحملها الجمعية؛ لأنها ليست عصا فحسب؛ بل وسيلة حياة"، يقول صدام.
ويستطرد بأسى: "العصي التي تصلنا هنا في اليمن بسيطة، عادية جدًا، لا تقارن بتلك التي يستخدمها المكفوفون في الخارج".
يشير صدام إلى أن "هناك عصي ذكية، توزع للمكفوفين في الدول الأخرى، تهتز وتصدر أصواتًا وتعمل بالخرائط، تساعد الكفيف على التنقل بأمان ووعي كامل، أما نحن في اليمن فنعتمد على عزيمتنا وصبرنا فقط".
حين أنهى حديثه، رفع صدام عصاه البيضاء، وضرب بها الأرض كمن يؤكد لنفسه أنه ما يزال واقفًا رغم العتمة، قال بصوت مفعم بالإيمان: "العصا لا تفتح أعيننا؛ لكنها تفتح لنا الطريق"، حسب وصفه.
- تاريخ
يمتد تاريخ العصا البيضاء إلى قرون بعيدة، حين كان المكفوفون في العصور الوسطى يستخدمون عصيًا بسيطة تساعدهم على التحرك بين الطرقات، دون أن تحمل أي دلالة رمزية أو اجتماعية.
ومع مرور الزمن، بدأ الوعي بأهمية هذه الأداة يتشكل ببطء، حتى تحولت من وسيلة مساعدة إلى رمز إنساني عالمي.
حيث بدأ التحول الحقيقي في عام 1921، عندما قرر المصور البريطاني جيمس بيغز، الذي فقد بصره، طلاء عصاه باللون الأبيض بهدف لفت انتباه السائقين والمارة أثناء سيره في شوارع مدينته المزدحمة، فكانت فكرته البسيطة بداية لتاريخ جديد.
بعد سنوات قليلة، التقطت الشرطة الفرنسية الفكرة وبدأت توزع العصي البيضاء على المكفوفين لتسهيل التعرف عليهم في الأماكن العامة، ومن هناك انتشرت الفكرة إلى أوروبا وأمريكا، ليصبح اللون الأبيض رمزًا عالميًا يعرف بالعصا الخاصة بالمكفوفين.
وفي الولايات المتحدة، عزز الاتحاد الوطني للمكفوفين (NFB) هذا المفهوم خلال الأربعينيات والستينيات، إلى أن جاء عام 1964 ليشكل محطة مفصلية، حين وقع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قرارًا رسميًا يعلن 15 أكتوبر يومًا وطنيًا للعصا البيضاء، عرف في بدايته بـ"يوم الأمان بالعصا البيضاء".
ومنذ ذلك التاريخ، تحولت العصا البيضاء إلى اعتراف عالمي بحق المكفوفين في الحركة بأمان واستقلالية.
- اليوم العالمي للعصا البيضاء
في الـ 15 أكتوبر من كل عام، يحتفل العالم بـ"العصا البيضاء" كرمز للقدرة والاستقلالية والكرامة، باعتبار أن هذه العصا تمنح المكفوفين وسيلة للتحرك بأمان وثقة، وتتيح لهم الانتقال من التبعية إلى المشاركة في المجتمع.
مع استخدام هذه العصا، أصبح الكفيف قادرًا على تحديد مساراته، واستخدام المباني ووسائل النقل العامة، وحتى عبور الشوارع الصاخبة، معتمدًا على إرشادات العصا وحدها، كونها تنبه الآخرين إلى وجود شخص كفيف يحتاج المساعدة.
ويرى خبراء التأهيل أن العصا البيضاء تمنح الكفيف القدرة على تحسس الطريق، واكتشاف العوائق، وتقدير المسافات، وتمنحه شعورًا بالثقة في الأماكن المألوفة وغير المألوفة، ومن خلال التدريب والممارسة يصبح الكفيف قادرًا على قراءة محيطه، والتفاعل مع الحياة اليومية بشكل طبيعي، كما لو كانت العينان تتحدثان بصمت.
ولذا جاء اليوم العالمي للعصا البيضاء كرسالة تذكير للمجتمع، أن المكفوفين قادرون على الحركة، والتعلم، والعمل، والمساهمة في المجتمع بنفس الحقوق والفرص التي يتمتع بها الجميع، وإذكاء الوعي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية.
- تنقل ذاتي
وفي هذا الصدد، قالت رئيسة جمعية الأمان للكفيفات ليزا الكوري، إن اليوم العالمي للعصا البيضاء، والذي يصادف الخامس عشر من أكتوبر من كل عام، يسمى أيضًا اليوم العالمي للكفيف.
وأكدت الكوري في تصريح لقناة "بلقيس"، إن هذا اليوم يمثل رمزًا للاستقلال والاعتماد على الذات للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، ويجسد حق الكفيف في الحركة بأمان وكرامة داخل المجتمع.
وأوضحت أن جمعية الأمان للكفيفات تحرص على توزيع العصا البيضاء لجميع المستفيدات ضمن برامجها الداعمة، مشيرة إلى أن صندوق رعاية وتأهيل المعاقين يساهم كذلك في توفير العصا البيضاء لطلاب الجامعة المكفوفين.
وأضافت، في مركز الأمان ومعهد الشهيد فضل الحلالي للكفيفات بأمانة العاصمة، قمنا بإضافة مادة دراسية إضافة إلى المنهج الدراسي المعتمد من وزارة التربية والتعليم، هي مادة "فن الحركة والتوجه".
وأشارت إلى أن هذه المادة تدرس من قبل مختصات بمعدل حصة أسبوعيًا لكل فصل، بهدف تدريب الطالبات على استخدام العصا البيضاء وتمكينهن من الحركة بثقة واستقلالية.
وبينت أن هذه المهارات تهيئ الطالبات للانتقال إلى مدارس الدمج التعليمي والتي تبدأ من الصف الخامس الأساسي، ليصبحن قادرات على التنقل الذاتي داخل المدرسة ومحيطها، حتى في الأماكن الضيقة أو المزدحمة، مما يعزز من قدرتهن على الاندماج والمشاركة الفاعلة في الحياة التعليمية والمجتمعية.
- معاناة الكفيف
يشار إلى أن الحرب فاقمت معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية في اليمن، إذ لم تعد الجهات المتخصصة تقدم لهم الحد الكافي من الرعاية في الوقت الراهن، لاسيما وقد تسببت الحرب في زيادة نسبة الأشخاص المكفوفين في اليمن.
وحسب الجمعية اليمنية لتأهيل ورعاية الأشخاص المكفوفين، فإن جزءًا من معاناة ذوي الإعاقة البصرية يكمن في عدم وجود مبان أو طرقات مؤهلة، وهو ما يعرض هذه الفئة من المجتمع للخطر والحوادث المرورية أثناء عبور الشوارع على سبيل المثال.
وتؤكد الجمعية أن عدد الأشخاص المكفوفين المسجلين لديها يصل إلى نحو 1500 كفيف، منهم نحو 100 تخرجوا من الجامعات دون عمل، رغم أن القانون كفل نسبة خمسة في المائة من الوظائف الحكومية للأشخاص ذوي الإعاقة.