منوعات
باولو فريري وكتاب تعليم المقهورين.. حين يتحوّل الصف إلى ساحة مقاومة
هل يمكن للتعليم أن يكون محايدًا؟ يجيب البرازيلي باولو فريري في كتابه الأشهر تعليم المقهورين (1968) بلا تردّد: التعليم إمّا أن يكون أداة للتحرر أو وسيلة لإدامة القهر. هذه الفكرة التي قد تبدو صادمة للوهلة الأولى جعلت من الكتاب نصًا كلاسيكيًا في الفكر التربوي والسياسي، وأحد أهم الكتب التي لا تزال تثير الجدل منذ أكثر من نصف قرن.
من البرازيل إلى العالم
ولد فريري عام 1921 في مدينة ريسيفي الفقيرة، وعاش طفولته في أجواء من الحرمان جعلته قريبًا من واقع المقهورين. عندما بدأ مسيرته في محو الأمية بين الفلاحين، اكتشف أن الجهل ليس عجزًا فرديًا، بل نتاج بنية اجتماعية تريد إبقاء الفقراء على الهامش. ومن هذه التجربة ولدت قناعته: أن التعليم ليس مجرد تلقين، بل عملية سياسية مرتبطة بالسلطة والحرية.
الكتاب كُتب أول مرة أثناء منفى فريري في تشيلي بعد انقلاب البرازيل العسكري (1964)، ما منحه بُعدًا أكثر مرارة وتجذرًا: كان يتأمل في علاقة القمع بالدولة والتعليم، وكيف يمكن للمقهورين أن يصنعوا مصيرهم عبر الوعي والمعرفة.
التعليم البنكي… صناعة الطاعة
ينتقد فريري بشدة النموذج السائد الذي يسميه التعليم البنكي. في هذا النموذج، المعلم “يودع” المعلومات في أذهان الطلبة كما يودع النقود في المصارف، والطلاب متلقون سلبيون. النتيجة: جيل يعرف كيف يكرر ولا يعرف كيف يسائل. هذا التعليم ينتج مواطنين مطيعين، لا أحرارًا، ويعيد إنتاج بنية السلطة في المجتمع.
التعليم الحواري… ولادة الوعي النقدي
في مواجهة ذلك، يطرح فريري بديلاً هو التعليم الحواري. هنا، يصبح الفصل الدراسي ورشة للتفكير الجماعي، حيث يتبادل المعلم والطالب الأدوار. الطالب ليس متلقيًا فحسب، بل شريك في صناعة المعرفة. والمعلم بدوره يتعلم من خبرات الطلاب. الحوار، وفق فريري، ليس مجرد تقنية تربوية، بل ممارسة حرية، فعل تحرري ينبع من الحب والتواضع والثقة المتبادلة.
التعليم كآلة لإعادة إنتاج القهر
أخطر ما في التعليم القمعي أنه لا يقتصر على إسكات الطالب داخل الصف، بل يحوّل المدرسة إلى مصنع لإعادة إنتاج القهر جيلاً بعد جيل.
• على مستوى الفرد: يتعلم الطالب أن السلطة لا تُسائل، بل تُطاع. يُقتل فضوله الطبيعي، فينشأ بوعي مستلب يرى العالم بعيني القاهر لا بعينيه. وعندما يكبر، يمارس القهر ذاته في موقعه، سواء كان موظفًا أو رب أسرة أو مسؤولًا صغيرًا.
• على مستوى المجتمع: يترسخ منطق الامتثال، وتُخنق ثقافة المبادرة والمساءلة، فيزدهر الاستبداد وتضمحل روح الابتكار. وهكذا تُعاد صياغة العلاقات في كل مؤسسة–من البيت إلى الدولة–وفق منطق القاهر والمقهور.
• دائرة القهر: يبدأ القهر من السلطة، يتسرب إلى المدرسة، يتجذر في الأفراد، ثم يعود هؤلاء الأفراد ليغذوا النظام القاهر ذاته. ومع كل جيل جديد، تُعاد صياغة الحلقة المغلقة، ويتحول الاستبداد إلى “ثقافة اجتماعية” يصعب كسرها.
أدوات القهر وأفعال التحرر
يكشف الكتاب عن ترسانة القاهرين: الغزو، التلاعب، التقسيم، والغزو الثقافي. وهي أدوات تُستخدم لإبقاء المقهورين أسرى الخوف والجهل والانقسام. لكن فريري يقترح أدوات مضادة: الوحدة، التعاطف، التنظيم، والتفاعل الثقافي. وهي مسارات تبني وعيًا نقديًا جماعيًا، يمكّن المقهورين من كسر دائرة القهر والانخراط في مشروع تحرري شامل.
أبعد من الصف: السياسة والثورة
ما يميز تعليم المقهورين أنه ليس نصًا تربويًا تقنيًا فحسب، بل مشروعًا فلسفيًا وسياسيًا. فريري يحذّر حتى الثوار من أن يتحولوا إلى قاهرين جدد إذا أعادوا إنتاج أدوات السيطرة نفسها. التحرر في نظره لا يكتمل إلا حين يُعاد بناء إنسانية الجميع–المقهورين والقاهرين–ضمن أفق جديد للعدالة والمساواة.
أثر عالمي ومحلي
منذ ترجمته إلى لغات عديدة، أصبح الكتاب حجر زاوية في كليات التربية، ومرجعًا للحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا. ألهم برامج محو الأمية، حركات الدفاع عن حقوق الإنسان، وحتى بعض المناهج الجامعية في العالم العربي. في السياق العربي، وجد صدى خاصًا في النقاشات حول التعليم والسلطة بعد الهزائم والانكسارات السياسية، حيث يُقرأ الكتاب كصرخة ضد التلقين والاستبداد.
لماذا ما زال حيًا؟
اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، يبدو الكتاب أكثر راهنية: في عالم تهيمن فيه وسائل الإعلام الكبرى والخوارزميات، يعيدنا فريري إلى السؤال الجوهري: هل التعليم أداة للوعي والتحرر، أم وسيلة لتطويع الإنسان في نظام استهلاكي قاهر؟
خلاصة نهائية
تعليم المقهورين نصّ مركّب: هو كتاب في البيداغوجيا، وبيان سياسي، وصرخة إنسانية. يضع القارئ أمام معادلة لا مفر منها: إما أن يتحول التعليم إلى أداة مقاومة وبناء وعي، أو يظل مصنعًا لإنتاج الطاعة. وفي زمنٍ يعاد فيه طرح أسئلة الحرية والكرامة، يبدو فريري كمن يهمس في آذاننا: الصف ليس مكانًا محايدًا، والكلمة ليست بريئة، وكل درس إمّا أن يحرر أو يقيد.