منوعات
إفلاس الفنانين.. هل قدر المبدع أن يموت فقيرا؟
نجوم لمعوا في سماء الفن، عايشوا البذخ على الشاشات وفي الأذهان، ثم بغتةً يختطفهم الموت معدمين، لا يملكون قيمة كفن!
تتجدد هذه المأساة، وتفجّر سؤال الحيرة: كيف ضاع عائد إنتاجهم؟ ولماذا هذا المآل المفجع؟
قصة الراحل كرامة مرسال تختزل المشهد، فقد شهد نجله صبري بمرارة على حياة عاشها والده ببذخ “كأنها عيد”، ليجد في جيب أبيه عند الوفاة سبعة آلاف ريال فقط، مبلغًا لم يكفِ حتى لشراء الكفن أو استخراج شهادة الوفاة.
يبوح لنا صبري بأن الوعود التي تُقدَّم بعد الرحيل تتلاشى، والأسرة وحدها تواجه الواقع الصعب، مؤكدًا أن التقدير العاطفي لا يتماشى أبدًا مع الدعم الفعلي، فمرتب والده من مكتب الثقافة، الذي لا يتخطى 30 ألف ريال، انقطع منذ عام 2017، أي بعد رحيل مرسال بثلاث سنوات.
لكن مرسال، كنموذج نقترب به لفكّ لغز شخصية الفنان، لم يكن بحاجة إلى هذا الراتب أو أسرته من بعده، فهو ظل لنحو نصف قرن الأكثر دخلًا بين جميع الفنانين في حضرموت. فلماذا لم يدّخر؟
سيكولوجيا العبقرية: اصطدام الروح بالمادة
ليس كرامة مرسال سوى تجسيد حيّ لظاهرة أعمق، إذ تتكرر المعاناة ذاتها مع فنانين كثر. البعض يجد التفسير في طبيعة المبدع ذاته، قياسًا بأنماط السلوك البشري.
فالنهم الذي يدفع الأغنياء إلى تكديس الثروة عبودية، والاستبداد الذي يدفع المجرمين إلى إزهاق الأرواح عبودية أيضًا. بيد أن عبودية الفنانين بعيدة عن المال والدم، مرتبة روحية سامية، وهي إسراف في الفن، جشع مقدّس لاستكشاف خبايا الموهبة، وهوس نبيل ببذل الجمال للناس حتى آخر ومضة في الروح.
بكلمتين موجزتين يكشف النجم السوري عابد فهد أبعاد الجدل حول سلوك الفنان ونفسيته، حين سُئل خلال لقاء تلفزيوني عن أسوأ صفاته: “قلة النوم وقلق وجيبتي مبخوشة”.
ينسحب هذا على كل من يشتغل بالحواس: الأديب، العازف، الممثل، المصوّر، الصحفي، الرسّام وغيرهم.
سيكولوجية الفنان تدفعه للتمرد على الالتزامات والتخطيط، يوغل في تقديس موهبته وينشد الكمال، وهي دوافع لا ترتبط بالمال يومًا، غايتها تحرير الطاقة وفرزها عبر أي وسيلة: قماش، لوحة، قلم، جيتار، عدسة.
لا يبدو فقر الفنان نتيجةً لظرف اجتماعي أو سياسي فحسب، فهو في الأصل سلوك متأصل في تكوينه الإنساني، يكاد يتناسخ في كل زمان ومكان.
فالفنان، سواء عاش في صنعاء أو باريس أو طشقند، يميل بطبعه إلى البذخ في العاطفة كما في العيش، يصرف روحه قبل ماله، وينفق على لحظة الإلهام أكثر مما يدّخر لغده.
إنها سمة كونية ترافق المبدع، لا تميّز شعبًا دون آخر، بقدر ما تعبّر عن طبيعة العبقرية ذاتها حين تصطدم بالمادة.
الزهد المقدس والنزعة البوهيمية
يحاول محمد علي باعيسى، الكاتب والمذيع بتلفزيون حضرموت، تفصيل هذه الروح لنا عبر تشبيهها بالصياد، الذي تتجلّى سعادته في الزهد والتخفف من المظاهر، وقد يختار توزيع محصوله مجانًا مقابل “شعوره بالنصر” بعد رحلة شاقة قضاها وحيدًا في عرض البحر.
يؤكد باعيسى بهذه المقاربة أن الفنان يشارك ذات المشاعر في مشواره.
لكن في المقابل، يذهب الممثل زيدون العبيدي في تحليله إلى أن الفن ليس مهنة مستقلة في واقعنا، ومن يظن أنه سيعيل عياله بالإبداع “فهو بلا عقل”.
العبيدي يشدّد في حديثه معنا على أن البقاء في هذا المجال القاسي يرتكز على الاحترافية والانضباط، ويشير إلى تناقض صارخ: رغم قدرة اليمن على إنتاج 26 مسلسلًا في موسم واحد، بكلفة إنتاجية تصل للعمل الدرامي من جزأين إلى ما يزيد على مليون دولار، فإن الكثير المنقطع لا يجدي نفعًا.
والواقع أن السواد الأعظم من العاملين في التمثيل باليمن يعيشون في ضنك. ويضيف زيدون بأن “الفنان المزاجي عمره قصير”، وغالبًا ما يُسلّم نفسه للفقر والكسل.
بطبيعتهم يهرب الفنانون من كل ما يشبه “العمل”، يرونه قيدًا يطفئ الإلهام، تجدهم في جدل دائم مع الالتزام، يبرعون في العطاء حين يكون المزاج صافياً، ويغيبون كليًا حين تستدعيهم المسؤولية.
وهكذا، بفعل نزعتهم البوهيمية وطقوس الفقر والبساطة، يُسرفون بلا قياس على السهر والسفر والحياة الاجتماعية، ولو على حساب الطعام والإيجار، ويغرقون في الديون، كل ذلك من أجل لحظة متعة عابرة.
قسوة البيئة: الفن بين الرفاهية والنزاع
الزهد الروحي وحده أو البذخ المادي لا يفسّر كل شيء، فالفنان يعيش أيضًا في بيئة قاسية ترفض الاعتراف بالفن كقيمة إنتاج.
هذا ما يعتقده الروائي وجدان الشاذلي، حيث لا يمكن حصر المسؤولية في الفنان وحده، إذ تقف أمامه منظومة ثقافية واقتصادية مجحفة تزيد الإفلاس حتمية.
ينظر الشاذلي إلى واقع الأدب كـ”نوع من الرفاهية الزائدة”، فلا يجد الكاتب مفرًّا من البحث عن وظيفة تضمن له الأمان المادي. النظرة المثالية “الفن للفن” ترتطم بمتطلبات الحياة.
أما الكاتب صقر الصنيدي، المقيم في أوروبا حاليًا، فيسترجع تجربة شاقة في اليمن. الكتابة في تقديره لا ترقى لتكون مهنة مدرّة للدخل، خاصة مع وجود قارئ اعتاد على اعتبار الكتاب “نسخة مجانية” يحصل عليها من المؤلف ومع التوقيع أيضًا.
هذا التجاهل المجتمعي يقابله جفاف رسمي لا يقل قسوة.
يشير محمد أنور بن عبدالعزيز، الرئيس السابق لجمعية فناني حضرموت، إلى حجم الإهمال المحزن الذي يطال الفنانين، كاشفًا أن رواتب المدرجين في مكتب الثقافة لا تتجاوز مئة وخمسين ريالًا سعوديًا، وهم قلة أصلًا.
ويضيف أنور أن الأقسى من ذلك هو غياب صناديق خاصة لدعم المرض والعجز، كما هو معمول به في نقابات الخارج.
ويقرّ بمرارة أن المشهد الثقافي بات يتصدره أشخاص لا صلة لهم بالفن، وفي غياب الكفاءة، يظل المبدأ القديم هو الحاكم: “فاقد الشيء لا يعطيه”.
ومع ذلك، ليس العتب كله بالمطلق على دول بعينها أو جمعيات أو صناديق، طالما أن الموسيقي أو التشكيلي أو الشاعر، هنا أو في أستراليا أو في أي مكان على الأرض، غالبًا ما يكون محبًا لكل الفنون إلا فن التعامل مع المال.
الشظف الحتمي
في كل بريد عزاء أو مأتم لمبدع، تلوح الحكاية نفسها. ليست حوادث معزولة، بل نجوم يغادرون الحياة فقراء رغم أثرهم المسافر في الأجيال ومكانتهم في قلوب الجماهير، وهو ما يجعل الحسرة مضاعفة.
بوضوح تتجسّد قسوة هذه النهاية في رثاء الصحفي أحمد الزرقة لصديقه الكاتب حسن عبد الوارث بكلمات نازفة، مذكّرًا بأنه رحل “بطريقة مهينة للموت… بدون رعاية”، رغم زهده وعيشه على القليل.
هذا الرحيل يطلق الاستفهام المرير: هل يقع اللوم على الآخرين، على الدولة مثلًا، عندما يُفلس المبدع؟ أم أن السبب الأكبر يكمن في نفسه، حين قرر التمرّد على التزامات الحياة والغرق في الفوضى؟
بيد أن هذا الإسراف الجمالي لا يُلغي مسؤولية المجتمعات، ولا يُعفي الهيئات الثقافية من القيام بواجباتها تجاه من منحونا الفن والجمال.
الفاتورة الأخيرة للعبقرية
لا قيمة للشهرة بدون ربح، كما يقول ثيربانتس.
أما عند محاكمة الأسباب، فإن الإفلاس ليس مصيرًا أزليًا للفنان، بقدر ما هو نتيجة لتفاعل معقّد بين سيكولوجية الزاهد غير المخطط، وقسوة واقع لا يحترم الفن كمهنة، ولا يؤمن له الحماية.
المبدع، هذا الكائن الذي يفضّل أن يخسر ماله كي يربح لحظة صدق، لا يحتاج إلى من يرثيه بعد موته ويُباهي به، بقدر حاجته إلى وطن لا يدفنه حيًّا.
وقد لا تكون أوطانهم هي من ظلمتهم، فمأساتهم ربما أنهم يريدون العيش خارج القوانين. فبينما يتسرب منهم المال والوقت والصحة، يطالبون العالم بأن يفهمهم.
فهل سيستمر هذا العالم في بكاء الفنانين بعد رحيلهم؟ ومتى سيتعظون قبل أن يُضطروا إلى التسوّل أو مواجهة نهايتهم وحيدين مفلسين؟