مقالات
أبو الرُّوتي (31)
بعد انتقالي إلى حي المنصورة، وفي أول يوم أذهب فيه إلى كلية "بلقيس"، حدث الموقف نفسه الذي حدث معي في 'كريتر' عند ذهابي إلى المعهد العلمي الإسلامي، مع الفارق أن الذين تعرضوا لي هذه المرَّة لم يكونوا طلبة، وإنّما كانوا من صعاليك الحارة: اعترضوني في الشارع أمام قصر المنصورة، وأرادوا منعي من الذهاب إلى الكلية، وكانت ضحكاتهم قد وصلتني قبل أن أبصرهم، وسمعتهم يقولون: "إنْدَكُّوْ أبو الرُّوتي".
ثم رأيتهم يقتربون منِّي، ويسألونني عن وجهتي:
"فين رايح يا بو الرُّوتي؟".
وحين قلت لهم: إنني ذاهب إلى المدرسة،
قال كبيرهم؛ واسمه منير:
"ممنوع -يا بو الرُّوتي- تروح المدرسة".
ظننته في البداية يمزح معي، لكنه كان جاداً، وطلب مني العودة إلى الفُرْن.
وحين رفضتُ، وقف أمامي وحال بيني وبين مواصلة السير، وكنت كلما اتجهت يميناً أو يساراً أجده قد سبقني، واعترضني. وحال بيني وبين مواصلة السير.
وكان صاحباه يضحكان من حركاته، وكان ضحكهما يزيد من حنقي وتوتري. وكان أن رحتُ أسترجع كل المعارك التي شاهدتها في شاشة السينما بين أبطال الأفلام الطيبين وبين أولئك الأشرار والمجرمين.
ولشدة ما كُنت مستفزاً وغاضباً، وضعتُ حقيبتي جانباً، ورحتُ أنقض عليه وأكيل له اللكمات والركلات إلى أن أسقطته أرضاً.
وعندما أبصره صاحباه مطروحاً في الأرض، ورآني أواصل ضربه، راحا يصرخان بي، ويقولان لي:
"أمير يمزح معك يا بو الرُّوتي، أمير يمزح معك".
وكان أمير هذا ولدا صعلوكا، وزعيم عصابة في الحارة، وكانت وسامته هي التي أهلته للزعامة، فقد كان وسيما في غاية الوسامة.
وبعد مرور يومين على ضربي له، وأثناء ما كنت راجعا من 'الشيخ عثمان'، وبحوزتي كتاب 'مأساة واق الواق' للشاعر محمد محمود الزبيري، تفاجأتُ به وخمسة من أفراد عصابته ينقضون عليَّ ويوسعوني ضرباً ولكماً وركلاً، حتى إنني بعد ذهابهم لم أستطع النهوض من مكاني، وإنما نهضتُ بمساعدة رجلين مرَّا بالصدفة من المكان نفسه، وبالكاد استطعت النهوض والوقوف على قدميَّ.
ثم وقد نهضتُ، تبين لي أن أفراد العصابة لم يكتفوا بضربي، وإنما قاموا بتمزيق الكتاب (مأساة واق الواق)، وكنت قد اشتريته من المكتبة نفسها التي اشتريت منها رواية 'البُؤساء' للأديب الفرنسي 'فيكتورهيجو'، الواقعة تحت 'مسجد النور'.
ولشدة الضرب، كنت أشعر بوجع في كل مفاصلي، وفي كل أنحاء جسدي، وبصعوبة واصلت طريقي. وعندما وصلت إلى الفُرْن استغرب العمَّال حين أبصروا وجهي مهشَّماً، ولما سألوني عمن ضربني؟ لم أقل لهم، ورجوتهم أن لا يكلموا أخي سيف، فقد كنتُ أعرفُ بأنه لن يتركني أنام قبل أن ينتقم لي.
وعن نفسي، لم يكن لديَّ رغبة في الانتقام، وكل ما كنتُ أرغب فيه لحظتها هو أن يعفوني من قيام الليل لتسليط البتر، ويتركوني أنام.
وبعد أن أبدوا استعدادهم للقيام بالعمل بدلا عني، شكرتهم، وصعدتُ إلى غرفتي في سقف الفُرْن، واستلقيت فوق فراشي، ومن شدة الألم والقهر أجهشت بالبكاء، ثم ما لبثتُ أن استغرقت في النوم، ونمت بدون عشاء.
وكان من حسن حظي أن اليوم التالي كان يوم جمعة، وهو ما جعلني أواصل النوم، وأشبع نوما. وفي يوم السبت، وقد لاحظ زملائي في الكلية آثار العدوان، راحوا يسألونني عما حدث، ومع من تشاجرت، وحين قلت لهم إنني تشاجرت مع العمال في الفُرْن، لم يصدقوني.
ثم إن الأمر تكرر، وكل يوم كنت أصل الكلية وأزا ممرغ بالتراب، وثمة خدوش طرية في وجهي، وأحيانا أصل وقميصي منزوع الأزرار، وسرعان ما أدركوا أن هناك من يعبث معي، لكني لم أعترف لهم بالحقيقة.
والحقيقة هي أن الولد أمير كان ما ينفك يتحرش بي، ويعترض طريقي، ويتربَّص بي، ويقف لي كل يوم بالمرصاد، حتى أني -لشدة خوفي منه ومن أفراد عصابته- صرت أغير طريقي، وبدلا من الطريق المستقيم رحت أسلك طرقاً دائريةً.
وذات يوم، وقد عثروا عليَّ، ضربوني بنهمٍ شديد، ويومها طلب مني الولد البدوي أمجد الشبواني، وكان زميلا لي في صف أول إعدادي، ويسكن في حي المنصورة قريبا من الفُرْن، أن أخبره الحقيقة، وأقول له من هم هؤلاء الذين يعبثون معي. وبعد أن أخبرته، طلب مني أن أنتظره في الصباح.
وفي صباح اليوم التالي، حضر بصحبة طالبين اثنين من شبوة، وكانا يدرسان معنا في كلية "بلقيس" صف ثالث إعدادي، وهناك عند قصر المنصورة برز الولد أمير مع أفراد عصابته، وعندما أبصر البدو معي راح يناديني، ويقول لي:
-"يا بو الروتي، هؤلاء البدو اللي جبتهم معك، ما با ينفعوك".
وقال لي كلاما سفيها، لكن الولد البدوي أمجد الشبواني انقض عليه كما ينقض النمر على فريسته، وراح يضربه بضراوة شديدة. وحين حاول أصحابه التحرك لإنقاذه، هجمنا عليهم، وأوسعناهم ضربا. وكانت تلك هي المعركة الفاصلة والأخيرة، ومن بعدها توقفوا عن التحرش بي، ولم تمضِ سوى أسابيع حتى رأيت الولد أمير يتملّقني، ويناديني باسمي (عبدالكريم).
والسبب في تغيُّر موقفه نحوي هو أن البريطانيين، مع اشتداد هجمات الفدائيين، أعلنوا حظر التجول من وقت المغرب، وبسبب الحظر كان الزبائن يحتشدون، ويتزاحمون في باب الفُرْن، كلٌ يريد حصته من الخبز؛ ليعود إلى بيته قبل أن يهبط الظلام.
ومن المفارقات أن كل أفراد العصابة الذين كانوا يتحرشون ويتربصون بي كل صباح، وأنا في طريقي إلى الكلية، صاروا أصدقاء لي.
وذات يوم، وصلت إلى باب الفُرْن، والزحمة في أشدها، فتاة جميلة، وراحت تناديني من وسط الزحام باسمي، وتقول لي:
"يا عبد الكريم، أني أخت أمير".
وكانت ذات جمال يدير الرؤوس، وبمجرد أن سمعتها تناديني باسمي، ورأيت قوامها الممشوق، حتى خفق قلبي لها، ونسيت كل الذين أتوا قبلها، وقدمتُ لها الرُّوتي، وقدمتها عليهم؟ وحينها ارتفعت أصواتٌ غاضبةٌ ومزمجرةٌ، وكانت الفتيات أكثر غضباً من تصرفي، لكني -في كل مرة تأتي- كنت أميِّزها، وأقدمها رغم كل الاحتجاجات.
كان اسمها "أميرة"، وكان حضورها يفرحني، وغيابها يوجعني، وأمرها يهمني، وكنت أتعامل معها كما لو أنها أميرة حقيقية، وبمجرد أن تأتي وتطلب مني حاجتها من الرُّوتي كنت أسرع في تلبية طلبها، وأقدمها على كل من حضر قبلها.
وفي عصر ذات يوم، لقيتها في الشارع مع زميلة لها، وحين اقتربتْ مني، وسلمت عليّ، فرحتُ، وشعرتُ بزهو الولد المراهق وهو يتقمّص دور العاشق.
وفيما كان كفي قد حط مثل عصفور في عش كفها الدافئ الرطب، قالت مخاطبة زميلتها:
"هذا أبو الرُّوتي".
ولحظتها شعرت بالدُّنيا تدور في رأسي وأحسست كما لو أنها وجهت لي صفعةً، ومن حينها كنت كلما أتت لشراء الرُّوتي أتجاهلها، وأتركها تنتظر دورها.
وذات يوم قالت لي:
"ليش -يا عبد الكريم- كدا تعاملني؟!!".
قلت لها: "أعاملك مثلما أعامل غيرك".
قالت: "من أول كنت تميِّزني".
قلت بيني وبين نفسي:
"من أول كان اسمي عبد الكريم، والآن اسمي أبو الرُوتي".