مقالات
أبو الروتي 36
بسبب تضرر دُور السينما من فرض حظر التّجول، اضطرت بعض الدُّور إلى عرض أفلامها نهارا. وعندما عرفتُ أن 'سينما بلقيس' تُعرِض أفلاما في الصباح، فرحتُ.
وبدلا من الذِّهاب إلى كلية 'بلقيس'، في 'الشيخ عثمان'، صرت أذهب إلى 'سينما بلقيس' في 'حُقّات' بمدينة 'كريتر'. ولم يعد عندي فرق بين الذِّهاب إلى 'بلقيس' الكلية أوالذِّهاب الى 'بلقيس' السينما، والفرق الذي بدالي بين "البلقيسين" هو أن 'بلقيس السينما' أفضل من 'بلقيس الكلية'، رغم بُعد المسافة، ورغم المرور بالكثير من نقاط التفتيش.
ثم، وقد تكرر غيابي عن الكلية، طلبت مِنِّي الإدارة إحضار ولي أمري، وحضر أخي سيف، وشكا له المدير سعيد قايد كثرة تغيُّبي، وسأله عن السبب الذي يدفعني إلى التغيُّب!!
وتفاجأ أخي بحديث الغياب، وأخبرهم بأنني أحضر كل يوم، وأنه يراني بعينيه كل صباح وأنا مُتّجه إلى الكلية، وقال للمدير سعيد قايد:
"عبد الكريم عمره ما غاب، وكل يوم أبصره بعيني وهو رايح الكلية".
قال له المدير:"عبد الكريم يخرج من عندك لكن ما يحضر إلى الكلية".
وبعد خروجنا من الإدارة، سألني أخي سيف عن الجهة التي أذهب إليها في الصباح، وقال لي:
"أين تروح؟".
قلت له: "أروح بلقيس".
قال، وهو مستغرب: "المدير يقول إنك تغيب وما تحضر".
ورحت أصرُّ على كلامي، وعلى أنِّي كل صباح أذهب إلى 'بلقيس'. وعند أخي سيف ليس هناك سوى 'بلقيس' الكلية، لذلك فقد بدا منزعجا من المدير سعيد قايد، وقال لي:
"قدنا أشوفك بعيوني وأنت رايح الكلية، ويشتينا أصدِّقه".
لكنِّي من بعد استدعاء ولي أمري توقفت عن الذهاب إلى سينما 'بلقيس'، وصرت أذهب إليها صباح الجمعة.
وفي ذات جمعة، ركبت الحافلة المتجهة من المنصورة إلى 'كريتر'، وبعد نزولي تفاجأت بنقطة تفتيش عند البنك الأهلي، وبصف من المواطنين واقفين في الرصيف، ظهورهم للشارع ووجوههم ملصقة بجدار المبنى المقابل للبنك الأهلي. وعند وصولي أوقفوني، وألصقوا وجهي بالجدار، وتركوني هناك، وكان الوقت يمر وأنا واقف مع الواقفين..
وعندما انتهوا من توقيفنا وتفتيشنا وإذلالنا، كان وقت السينما قد مرَّ، ولم يعد بمقدوري أن ألحق الفيلم.
ثم، وقد فاتتني السينما، تذكرت البنت 'كافيتا' في شارع 'الاتحاد'، وخفق قلبي، واشتقت إليها. وقلت أمرُّ عليها، وأقضي ساعة أو ساعتين. وعلى طريقي اشتريت لها مشطا من سوق الطويل، أما لماذا المُشط؟ فقد كنت أعرف أن المُشط هو أفضل هدية يقدَّم للبنات.
وكنت مازلت أتذكَّر بنات القرية وهن يستوقفنني وأنا في طريقي إلى 'الراهدة' أو إلى سوق 'حيفان'، ويطلبن منِّي أن اشتري لهن أمشاطا من السوق.
وتذكَّرت البنت شمس (شمس الوادي) في وادي الشويفة، وهي تقول لي:
"يا عبد الكريم اشتري لي مشاط من الراهدة".
وبالنسبة للبنت 'كافيتا'، فالسبب الذي جعلني أشتري لها مشطا هو أنني حين وقعت في حبِّها، وقعت بعد أن رأيتها تقف أمام المرآة وتمشط شعرها. ومن محل في سوق الطويل اشتريت مشطا جميلا يليق بشعرها. وعند وصولي تفاجأتُ بها وحدها، وعندما سألتها عن أمها قالت لي إن أمها مريضة في غرفتها.
وكانت تلك أول مرة أصل وأمها مريضة، وممددة فوق سرير نومها. كانت قد نحلت بفعل المرض، ونقص وزنها، وضعف صوتها، وتزايد شعر رأسها الأبيض، لكنها كانت ماتزال جميلة، وقد فرحت أمها برؤيتي، وتهللت أساريرها، وسألتني عن حالي، وعن السبب في انقطاعي عن زيارتهما؟ وقالت إن طُول غيابي دليل على أنني لم أعد أشتاق إليها وإلى 'كافيتا'.
ولأنها كانت متعبة، عدنا إلى الصالة، وأحضرت 'كافيتا' لي عصير 'ليمون'. وبعد أن انتهيت من شربه، أخرجتُ المشط، وقدَّمته لها، وتفاجأت 'كافيتا' بهديّتي، وشكرتني عليها. وكانت 'كافيتا' تعرف مدى إعجابي بشعرها.
ثم، وقد رأيتها تضع المشط على الطاولة، ظننت أنه لم يعجبها، وحين طلبت منها أن تجرِّبه، وتمشط به شعرها، قالت لي إنه لا يليق بالبنت -وقت مرض أمها أو أبيها أو أي من إخوتها- أن تمشط شعرها.
وكان واحد من أجمل أحلامي، وأنا طفل هو أن أمسك بالمشط، وأمشط شُعور البنات. وأما 'كافيتا'، التي كان شعرها يسقط إلى ما تحت ركبتيها مثل شلال، فقد كان حلمي بمشط شعرها يبدو لي حلما مستحيل التحقق، لكني وبعد أن اعتذرت عن مشط شعرها بذريعة أن أمها مريضة، قلت لها: "أمشط لك أنا".
وترددت 'كافيتا'، في البداية، ثم ما لبثت أن أعطتني المشط، ورحت أمشط لها، وأنا غير مصدِّق أنَّ حلمي تحقق. وحين لاحظت رعشة يدي، وسألتني عن سبب الرَّعشة؟ لم أدرِ ماذا أقول لها، ولا بماذا أرد على سؤالها، لكن الرَّعشة ما لبثت أن خفَّت ثم تلاشت. وفيما بعد اعترتني مشاعر غاية في الرّوعة. وشعرت وأنا ألامِس شعرها كما لو أني ألامِس الغيوم ونجوم السماء، بيد أن 'كافيتا' أفسدت مُتعتي حين راحت تكلمني عن قُرب عودتها وأمها إلى 'كشمير - الهند'. وأجهزت على كل تلك الأحاسيس والمشاعر الجميلة والرائعة التي تملكتني..
ولحظة شعرتْ بأن كلامها عن الرَُحيل قد أفسد مُتعتي، توقفتْ عن الحديث، ثم ما لبثت أن أخذت المشط من يدي، وراحت تمشط لي، وتضحك على شعري.
لكني، وعلى الرُّغم من أن ضحكها كان يؤذيني، إلا أنني شعرت -وهي تمشط شعري- بمتعة تفوق متعتي وأنا أمشط شعرها. ثم تفاجأتُ بها تصرخ، وتطلق صرخة مُفزعة أفزعتني، وكان سبب صرختها تلك هو أنها وجدت قملة في رأسي، حتى إن أمها -وقد سمعت صرختها- فزعت هي الأخرى. وحين سألتَها عما جعلها تصرخ بتلك الطريقة؟ لم تقل لها إنها وجدت قملة في رأسي، وإنما قالت لها إنها أبصرت حشرة تسعى في الغرفة. واستغربت أمها ذلك؛ لأن غرف بيتها كانت من النظافة إلى درجة أن الحشرات يستحيل أن تعيش وتتعايش مع تلك الدرجة العالية من النظافة.
وبالنسبة لي، فقد شعرت بالخجل، ورحت أتساءل: من أين، وكيف وصلت تلك القملة إلى رأسي؟!!
ثم إن كافيتا، وقد أحست بخجلي، قالت لي -لتخفف عني- إن أمها وهي تمشط لها شعرها كانت تجد قملا في رأسها، وبعد اعترافها بوجود قمل في رأسها، ذهب خجلي، وأنكرت وجود قمل في رأسي وقلت لها: "مافيش قمل برأسي؟".
وحين سألتني عن القملة التي وجدتها، ومن أين أتت؟! قلت لها: إن صاحب المحل باع لي المشط مع القمل.
وبمجرد أن قلت لها ذلك حتى انفجرت تضحك من هبالتي بصوتٍ عالٍ. وعندما سألتها أمها عن سبب ضحكها؟ قالت لها:
"عبد الكريم يضحكني".وكان أن ألهمني ضحكها، وشجَّعني على قول كلام مضحك، واختلاق مواقف مضحكة عن نفسي؛ بهدف الاستمتاع بموسيقى ضحكها، حتى إن 'كافيتا' قالت لي يومها: "كلامك يضحك يا عبد الكريم".
ولكثرة ما راحت تضحك، قالت أمها من غرفة نومها: "ضحكوني معاكم".
لكن 'كافيتا' بعد أن أشبعت حاجتها للضحك، خرجت من غرفة الاستقبال، وذهبت إلى غرفتها، ووضعت أحمر الشفاه. وعند عودتها، راحت تسألني عن السينما، وعن الأفلام التي شاهدتها في الفترة التي انقطعت فيها عن زيارتها.
وكان الحديث عن السينما يروق لي، خصوصا مع البنات.
وبعد أن حدثتها عن أفلام إسماعيل ياسين، لم تتجاوب معي بما يكفي، ولم تتحمس، وقالت لي وقد شعرت بالملل:
"كلمني -يا عبد الكريم- عن الحب والبوس بالسينما".
ولحظتها خطر في بالي رُشدي أباظة، ورحت أكلمها عن أفلامه، وعن الممثلات اللاتي أحبهن بوسهن. وراحت 'كافيتا' تصغي إليٍَ بشغف، وتسألني أسئلة محرجة لم أكن أتوقعها منها. ثم تفاجأت بها تقول لي:
"علمني -يا عبد الكريم- البوس اللي تعلمته بالسينما".
ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة رعب، وقلت لها:
"أمك موجودة -يا كافيتا- ولو دخلت وشفتنا أعلمك البوس، والله لا تقتلنا".
لكن 'كافيتا' قالت إن امها المريضة لا يمكنها أن تنهض من فوق فراشها، وراحت تصر وتهدد أنها ستزعل مني، وتقول لي:
"والله -يا عبد الكريم- لو ما تعلمني البوس حق السينما لا أزعل منك".
وأنا خفت تزعل منِّي، فقد كنت أحبها ولا أحب أزعِّلها.
ثم إن أحمر الشفاه كان يلسعني، ويغريني بتقبيلها فضلا عن أن السينما اللعينة كانت قد أضعفت حسي الأخلاقي وإحساسي بالعيب، وجعلتني أتماهى مع رشدي أباظة، الذي كنت من أشد المعجبين به، وأحاول تقليده، خصوصا وأنه كان صاحب مدرسة في التقبيل، يقبل بحرارة وبشراهة، وكانت حبيباته -لشدة حرارة قبلاته- يذبن، ويتبخرن، ويتحولن إلى غيمات ونجمات.
ويبدو أن الأم بعد ادأن توقف كلام بنتها وضحكها، ولم يعد يصدر من ناحيتها أي صوت يوحي بوجودها، داخلها الشك، وراحت تناديها:
"كافيتا .. كافيتا".
لكن 'كافيتا' لم تسمع أمها وهي تناديها، وقلت لها، وقد شعرتُ بالخوف: "أمك -يا كافيتا- تدعي لك".
وحين ردت 'كافيتا' على أمها طلبت منها الأم أن تأتي إليها. وعندما حضرت، أبصرت أمها أحمر الشفاه، تأكدت شكوكها، لكنها لاذت بالصمت، ونادت عليَُ. ولما سمعتها تناديني، سرت في جسدي قشعريرة رُعب.
وبعد أن حضرت، ووقفت أمامها، راحت تتفحص فمي الذي كان مضرجا بأحمر شفاه بنتها. وقالت، لي وهي تشير إلى فمي:
"أيش كنت تبوس 'كافيتا' ياعبد الكريم؟!".
وطلبت مني أن أقول الصدق:
"قل الصدق.. بوستها أولا؟!".
قلت لها - وأنا أرتعش من الخوف-: "بوستوها".
قالت لي، وهي تلتفت ناحيتي التفاتة مفعمة باللوم:
"ليش بوستها -ياعبد الكريم- وهي مثل أختك، واني وثقت بك!!".
ولحظتها تمنيت لو أن الأرض تنشق من تحتي وتبتلعني.
لكن 'كافيتا'، وقد لاحظت حالتي المزرية، فاجأتني بشجاعتها، وقالت لها :
"يمّا أني اللي قلتُ له، والذنب ذنبي مش ذنبه".
والتفتت أمها إليها، وهي غير مصدِّقة، وقالت لها:
"أنتي قلتي له يبوسك؟!".
قالت لها كافيتا إنها لم تطلب مني أبوسها، وإنما طلبت مني أعلمها البوس الذي تعلمته في السينما:
"ما قلتُ له يبوسني، قلتُ له يعلمني البوس اللي تعلمه بالسينما، وهو علمني".
قالت أمها: "حرام -يا بنتي- تطلبي منه يعلمك البوس".
قالت كافيتا: "التعليم مش هو حرام يمَّا، ولا هو عيب، وزميلاتي كلهن تعلمين البوس بالسينما، ولو أني أروح السينما مثلهن ما كنت طلبت من عبد الكريم يعلمني".
وكان في ظني أن أمها سوف تنفجر من الغضب فوقها، لكنها لاذت بالصمت. ثم وقد خرجنا من الغرفة، اندفعتُ باتجاه الباب مثل مجرم يحاول الفرار بعد أن انتهى من تنفيذ جريمته، لكن 'كافيتا' أمسكت بي، ولم تسمح لي بالمغادرة، فقد كان الوقت وقت غدا ، وقالت لي، ونحن نتغدَّى:
"ما تزعلش من أمي -يا عبد الكريم.. أمي طيِّبة وتحبَّك".