مقالات

أبو الروتي 37

26/05/2025, 17:26:41

كان أعضاء جبهة التحرير منتشرين في منطقة 'المنصورة'، وكان بهم غرور، ولديهم حب الظهور، وكنا نعرفهم من تصرفاتهم، كانوا يتصرفون كأنهم سلطة أو كأن السلطة بعد رحيل الاستعمار سوف تؤول إليهم وتُسلَّم لهم، وكان من السهل معرفتهم.

 ومع اقتراب موعد إعلان الاستقلال، كانوا يظهرون بأسلحتهم، ثم إن منطقة 'المنصورة' كانت معقلهم وآخر قلاعهم. وعلى عكسهم كان أعضاء الجبهة القومية، كانوا يتحركون سرا حتى بعد انسحاب الجنود الإنجليز من 'المنصورة'، وكان من الصعب معرفتهم.

وفيما كنا نُبصر أعضاء وفدائيي جبهة التحرير بعيوننا، ونراهم أمامنا، كان أعضاء وفدائيو الجبهة القومية مثل الجن نسمع عنهم ولا نراهم. وكان يقال لنا إنهم 'بدو'، حتى لقد كان يخيل لي أن كل 'بدوي' عضو في الجبهة القومية.

أيامها، كان سكان عدن والمعلا والتواهي والشيخ عثمان والمنصورة قد انقسموا إلى فريقين: فريق يؤيد ويناصر الجبهة القومية، وفريق يؤيد ويناصر جبهة التحرير، وكان الفريقان قد راحا يتقاسمان جدران الشوارع والعمارات، ويلطخونها بالشعارات.
 
كانت الأحرف الأولى من اسم "الجبهة القومية للتحرير" بالانجليزي (Nlf)، والأحرف الاولى من اسم "جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل": فلوسي (flosy).

وكان الذي يؤيد الجبهة القومية  يلطخ جداره بأحرفها، وبشعارات مؤيدة لها، والعكس يفعل من يؤيد جبهة التحرير.

ومثلما انقسم سكان المدينة عدن إلى فريقين، انقسم الطلبة في المدارس والكليات، وكنا نحن طلبة كلية 'بلقيس' قد انقسمنا إلى فريقين: فريق مع الجبة القومية، وفريق مع جبهة التحرير.

وبالنسبة لي، ولأن كثيرين من أبناء قريتي الذين يدرسون في كلية 'بلقيس' كانوا في الاتحاد الوطني لطلبة اليمن التابع للجبهة القومية، فقد دخلت معهم، وقطعوا لي بطاقة عضوية.

ويومها، عدت إلى الفُرْن وأنا فرح بالبطاقة، ومن شدة فرحي اشتريت قلما أحمر من تلك الأقلام التي تستخدم في الكتابة على الجدران.

 وفي المساء، ذهبت باتجاه "قصر المنصورة" (العمارة التي كان الإنجليز يتمركزون فيها ليلة كسرتُ حظر التجول، وذهبتُ إلى دكان الحضرمي لشراء تونة وبصل).

وأول ما وصلت، أخرجتُ القلم ورحت أكتب في جدار العمارة على ضوء الكهرباء الأحرف الأولى من اسم الجبهة القومية للتحرير باللغة الإنجليزية (Nlf).

وكتبت إلى جانبها شعارات ضد الاستعمار، كانت متداولة حينها.

ولم أعد أذكر بالضبط ما هي تلك الشعارات التي رحت أكتبها، لكني أذكر أنني فيما كنت في ذروة سعادتي واشعر بالزهو لكوني أسهم في النضال، وأشارك في طرد الاستعمار من عدن، باغتني شاب مفتول العضلات من الخلف، واسقطني أرضاً، وراح يجثم فوقي، ويكيل اللكمات واللعنات، ويقول لي:
"حتى أنت -يا بو الرُّوتي- معاهم!!".

ولقرب عمارة قصر 'المنصورة' من الفُرْن، كان هناك بين الناس الموجودين قربها من يعرفني، وسمعتُ أحدهم، وكان رجلا كبيرا في السن، يقول للشاب التحريري الذي يضربني:
"هذا أبو الرُّوتي يا فلان، مالك تضربه؟!! أيش فعل من جريمة؟!".

قال له الشاب التحريري، وهو يشير إلى الأحرف الإنجليزية (Nlf):
"أبو الرُّوتي مع الجبهة القومية".

وذُهِل الرجل الذي يعرفني حين عرف أنني مع الجبهة القومية، وقال للشاب التحريري:
"ما دام أبو الرُّوتي مع الجبهة القومية يستاهل الضرب".

وراح الشاب بعد كلام الرجل يضربني بقسوة أشد من السابق، وكأنه حصل منه على فتوى ثورية بضربي..

ومن شدة ما ضربني وأوجعني، رحت أصرخ وأبكي، واستغيث بالموجودين أن ينقذوني منه، لكن  لا أحد منهم تجرأ وتدخل لإنقاذي.

ثم، وقد رأيت الدم يخرج من فمي، صرختُ صرخةً موجعة، ولحظتها ظهر رجل 'بدوي'، وراح يتقدم نحونا. وحين راح يقترب منا بدا لي وجهه مألوفاً. وبكل هدوء، ومن دون ضجة، أنقذني  من الشاب التحريري، وحررني منه، وانتزعني من بين يديه. وأخبرني ونحن نبتعد عن قصر 'المنصورة' بأن جبهة التحرير هي من تسيطر على منطقة 'المنصورة'. وراح ينصحني بعدم  كتابة أي شي على الجدران، وأن أهتم بدراستي.

وكان كلامه عن الاهتمام بالدراسة قد أحبطني، وذلك لأني توقعت منه أن يبارك ما قمت به من عمل نضالي، ويقول لي ولو كلمة ترفع معنوياتي؟ خصوصا وأنني كنت قد اعتقدت أنه عضو في الجبهة القومية.

لكن الرجل البدوي الذي كان يسكن في الحارة نفسهت، ويشتري الرُّوتي من الفُرْن لم ينقذني لأنه عضو في الجبهة القومية، وإنما لأنه رجل حر من شبوة، و لأنه كذلك - وهذا ما عرفته فيما بعد -  كان أب الطالب الشبواني الذي أنقذني من أولئك الأولاد الصعاليك الذين كانوا يتربصون بي كل صباح وأنا في طريقي إلى الكلية.

ومع أنه أحبطني بكلامه عن الدراسة إلا أنني -لشدة احترامي له- كنت كلما صادفته أحييه بحرارة إن كان بعيدا، وإن كان قريبا اندفعت للسلام عليه ومصافحته.

بعد مرور أسابيع على إنقاذه لي، ثبت لي صحة ما قاله لي، واتضح بأن رجال وشباب جبهة التحرير مسيطرون على منطقة 'المنصورة'، وحاضرون بقوة.

وبسبب حضورهم القوي في حارتنا، راح أخي سيف يتقرَّب منهم، ويعزمهم على غدا و'قات'، ويعمل لهم بنفسه في الفُرْن ما يشبه "السبايا"، أو" بنت الصحن"، ويقدمها لهم بعد أن يصب عليها الكثير من العسل.

وفي عصر ذات يوم، سمعت أحد العمال يناديني، ويقول لي، وهو مرعوب:
"يا عبد الكريم، تعال أقول لك حاجة".

وحين حضرت، وسألته عما يريد قوله!! قال لي بصوت يرتجف:
"قنابل وبنادق مسدسات مخبآت بين الحطب في سقف الفُرْن". كنت حينها في الشارع حين ناداني العامل.

وبعد أن كلمني عن الأسلحة المخبأة بين الحطب، صعدت أجري إلى سقف الفُرْن، وقلت له وأنا غير مصدِّق:
"أين هِنْ القنابل والبنادق والمسدسات؟".

قلت له ذلك لأن من يرى جدار الحطب لن يصدق أن هناك من يستطيع فتح ثغرة فيه، والتسلل إلى الداخل ليخفي شيئًا.. لكن العامل، وبطريقةٍ ما فتح ثغرةً في الجدار الحطبي، دخلنا منها إلى المخبأ.

وحين أبصرت القنابل والبنادق والمسدسات لم أصدق عيني، وخامرني شعور بأن التحريريين استغلوا كرم أخي سيف، وراحوا يخفون أسلحتهم بين الحطب دون علمه

وعندما أخبرت أخي سيف عن السلاح المخفي بين الحطب، تفاجأ، وقال لي:
"أيش من سلاح!!".

قلت له: "قنابل وبنادق ومسدسات".
وذهل أخي سيف، وتفاجأتُ بأنه لم يكن يعلم، لكنه بعد أن عرف أنهم يخفون أسلحتهم بين الحطب في سقف فُرْنه لاذ بالصمت، ولم يقل لهم:
"لماذا فعلتم هذا؟ "، وكيف يمكنه  أن يلومهم أو يعاتبهم وهم قاب قوسين أو أدنى من السلطة!!

وفي تلك الليلة التي دارت فيها أقوى وأشرس معركة على السلطة بين الجبهة القومية وجبهة 'التحرير' في منطقة 'المنصورة'، لم نصدق أننا سننجو.

كان دوي الانفجارات هو الأقوى والأعنف، حتى لقد خيل إلينا أن هناك أسلحة جديدة تستخدم لأول مرة في تلك المعركة الدائرة بين الأخوة الأعداء.

ليلتها لم نستطع النوم من قوة الانفجارات، ومن شراسة المعركة، وكذا من شدة خوفنا من الموت.

وعند قرابة الفجر، ونحن على أعصابنا، هدأ كل شيء، وهيمن الصمت، وعم الهدوء، وحينها عرفنا أن 'التحريريين' انهزموا، والقوميين انتصروا وحسموا المعركة لصالحهم.

وبعد سقوط 'المنصورة' في أيدي مقاتلي الجبهة القومية سقط الفُرْن، وسقطتُ أنا، وسقط أخي سيف، وأصبحنا  في المعتقل الكبير في مدينة 'الشيخ عثمان'، ومن دون نوم. وكانت الأسلحة التي وجدوها مخبأة بين الحطب في سقف فُرْننا هي الدليل على أننا متورِّطون ومشاركون في الجريمة.

مقالات

كيف يحِنُّ اليمنيون إلى أيامهم؟

وسط أنقاض الخراب الكبير الناجم عن حرب السنوات العشر الماضية وما تخللها من تدخلاتٍ خارجية مدمرة، لم يتبقَّ لليمنيين سوى الحنين إلى ماضٍ كان لهم فيه وطنٌ كبيرٌ، وأرضٌ متراميةُ الأطراف بين الشواطئ والخلجان البديعة والسهول والوديان الخصبة والجبال الشاهقة الشماء، عاشوا عليها حياةً عريضةً يتدافعون فيها للعمل وكسب أرزاقهم ولقمة عيشٍ كريمةٍ بكدِّهم وجِدِّهم، ويجتهدون لتربية وتعليم أبنائهم وإعدادهم لمستقبلٍ واعدٍ يليق بهم.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.