مقالات

أحمد قايد الصايدي كعالم ومفكر

05/05/2025, 10:26:17

الدكتور أحمد قايد الصايدي رجلٌ عصامي، بنى نفسَه بناءً مُحكَمًا ومتينًا. منذ الصبا رحل من قريته (البرحي)؛ إحدى قرى عزلة بيت الصايدي بمحافظة إب، التي تلقى فيها تعليمَه الأولي، ثم رحل عنها بداية العام 1954 إلى المستعمرة عدن، ودرس فيها تعليمه الأساسي، الابتدائي والإعدادي، وواصل تعليمَه الثانوي في مصر وسوريا بداية الستينيات.

يكاد أحمد الصايدي في تدوين سيرة حياته وبناءِ نفسه أن يكون نموذجًا للمدنيّة والصدق والتواضع. انتمى باكرًا لحزب البعث، وهو لا يزال طالبًا بمصر تحت تأثير الصداقة، ولم يكن اختيارًا منه أو ثمرةَ دراسةٍ ومعرفة كما يقول. وحقيقةَ الأمر، فإنَّ الانتماءات السياسية في اليمن كانت القرية والجهة والصداقة تلعب الدور الأساسي فيها.

والصايدي - لصراحته ودأبه في الصدق - يُدوِّن أنه حصل على منحتِه الدراسية إلى مصر عن طريق أستاذه علي أحمد ناصر السلامي (أحد مؤسسي فرع حركة القوميين العرب في اليمن)، وتحت تأثير الصداقات - كما ذكرت - كان انتماؤه للبعث، هو وزملاؤه الذين حصلوا على منحهم الدراسية عن طريق الأستاذ السلامي نفسه.

كان نشاط البعث في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قويًّا بين الطلاب اليمنيين في مصر. وبسبب سوء ممارسات المخابرات المصرية التي لا يتحدث عنها الصايدي؛ رحل إلى سوريا، وأكمل فيها المرحلة الثانوية والكلية العسكرية، وعمل في الميدان العسكري.

عاد في العام 1966 ليُشكِّل إلى جانب رفاقه في البعث طلائعَ حرب التحرير الشعبية، وأسهم في الكفاح المسلح. ورغم الحرص على عدم الاقتراب من الصراع الدامي بين الجبهتين: القومية والتحرير، إلا أن منظمة البعث دفعت ثمنًا باهظًا لموقفها الرافض لذلك الصراع.

في العام 1972، كُلِّف بإعادة ترتيب أوضاع منظمة البعث في شمال اليمن، مع استمرار دراسته الفلسفية والاجتماعية في دمشق. كان الأول في صنعاء خلال فترة إعادة ترتيب أوضاع المنظمة عام 1972، والثاني في عدن إلى جانب الأستاذ أنيس حسن يحيى (المسؤول الأول في المنظمة).

يتحاشى الدكتور الصايدي كثيرًا الحديث عن نفسه، وقد انغمس حتى أذنيه في العمل الحزبي والعسكري، لكن التعلم والتعليم ظلا الهمَّ الأساس بالنسبة له.

شيئًا فشيئًا بدأ الابتعاد عن النشاط الحزبي، خصوصًا بعد المؤتمر العاشر الاستثنائي في سوريا عام 1970 الذي حضره كممثل لمنظمة جنوب اليمن، ونجا من الاعتقال بأعجوبة، كما نجا علي عقيل (عضو القيادة القومية)، ويحيى الشامي ممثل منظمة شمال اليمن.

رأى الصايدي بنور البصر والبصيرة المآل البائس لتجربةٍ رائدة، واقتتال الرفاق على السلطة، وصراعات الأحزاب في اليمن وخلافاتها، كما قرأ باكرًا النزعة الشمولية في دعوة الجبهة القومية لـ«وحدة أداة الثورة اليمنية»؛ فابتعد عن الحزب دون ضجيج أو إساءة، وحافظ على علاقاته الشخصية مع رفاقه، وظل حتى يومنا هذا يقدِّم الآراء والدراسات والإسهام العملي والفكري، الذي يرى فيه إسهامًا في تطوير الأداء السياسي والتنظيمي للعمل الحزبي، وكأنه في قلب هذا العمل أو واحد من قياداته.

للدكتور الصايدي قراءتُه المائزة الدقيقة والعلمية للثورة اليمنية (سبتمبر، وأكتوبر)، وللثورة العربية الناضجة. فكتابه «حركة المعارضة اليمنية» من أهم الدراسات التاريخية لجذور المعارضة اليمنية؛ درس فيه الباحث الأكاديمي مسار الحركة الوطنية في عهد الإمام يحيى بن محمد حميد الدين من عام 1904 إلى عام 1948. وظل الكتاب مرجعًا لكل الباحثين والدارسين بعد صدوره.

كان له رؤيتُه الصائبة لدخول أنصار الله إلى صنعاء، وقدَّم رؤية من خلال المناقشات التي دارت في اللجنة الشعبية للتقريب بين المكونات السياسية، برئاسة الدكتور عبد العزيز المقالح، التي شهدت لقاءات ونقاشات متواصلة مع كل المكونات السياسية، وأفضت إلى وضع وثيقةٍ تاريخية وقَّع عليها كل ممثلي الأحزاب السياسية.

أسَّس الدكتور إلى جانب مجموعةٍ من المناضلين المدنيين والعسكريين «التجمع الوطني لمناضلي الثورة اليمنية»، وكان على رأس التأسيس لجماعة «نداء السلام» التي تعرضت دعوتها للسلام للتشكيك والاتهامات.

درس العلاقات اليمنية - الألمانية اعتمادًا على وثائق الأرشيف السياسي الألماني التي استخدم منها في كتابه 412 وثيقة. كما درس بعمقٍ رحلة نيبور، من النواحي التاريخية والسياسية والاجتماعية، مركزًا في دراسته على المادة التاريخية التي وردت في سياق وصف نيبور لتفاصيل الرحلة في مجلداته التي نشرها في سبعينيات القرن الثامن عشر، والتي من شأنها أن تفيد المؤرخين والباحثين في تدوين تاريخ تلك الفترة.

إسهاماته في الترجمة والبحث والتحقيق وافرة. وتتسم قراءتُه بالرصانة والدقة والأمانة التاريخية، وهو يدرس الوقائع والمصطلحات دراسةً علميةً بعيدةً عن الدوغمائية والاستعارة والإسقاط.

قليلون أولئك المفكرون والقادة والسياسيون الذين يتمتعون بموهبة الجمع بين العلم والعمل، والدكتور أحمد قايد الصايدي واحدٌ منهم. فهو مؤرخٌ، وواحد من أبرز المؤرخين العرب، والعلماء الأكاديميين الرفيعين.

له باعٌ طويل في التأسيس للعمل الحزبي، وفي التنظير السياسي، وفي الكفاح المسلح، وفي التأسيس للبحث العلمي كعميد ومؤسس لعمادة الدراسات العليا والبحث العلمي في جامعة صنعاء، ومستشار لجامعتي صنعاء وعدن، وتبوأ مواقعَ مهمة في اتحاد المؤرخين العرب، وعميدًا علميًّا لمعهد التاريخ العربي للدراسات العليا التابع للاتحاد.

الدكتور أحمد متعدد المواهب والقدرات، وفي صدارة التأسيس للعمل الحزبي: القومي، واليساري. وهو واسع الاطلاع والمعرفة والثقافة، مسكونٌ بالهم الوطني والقومي، مع جانب عظيم من النزاهة، ونقاء الضمير، وطهارة القلب، وذكاء العقل، والاتزان، والاعتدال في الحكم على الأشياء.

وهو، بالإضافة إلى ذلك، ناقدٌ عميقٌ ومتبصِّرٌ في قراءة الواقع، وشاعرٌ مهمٌّ رفيع المستوى، يكتب القصيدة العمودية كواحدٍ من الشعراء العرب واليمنيين الكبار.

لن أطيل فأحرم القارئ متعة الاستمتاع بإجابات العالم الجليل، مع هذا النزر اليسير من عطائه العلمي والكفاح القومي.
 

المقابلة

 

- هل يمكن أن تعطونا نبذة عن نشأتكم وحال القرية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مقارنة بالحال في مستعمرة عدن، والتعليم الحديث في عدن ودراستكم الأساس؟

استعرضت في كتابي (من القرية إلى عدن، جسر بين عصرين)، استعراضاً مفصلاً إلى حد كبير، حياة القرية بكل جوانبها: حياة الأسرة وعلاقاتها الداخلية ودور الرجل ودور المرأة فيها، والحياة المعيشية والتعليم والأعياد والمناسبات والألعاب والملابس والعادات والتقاليد والأساطير والأغاني والأهازيج والأدوات المنزلية والأدوات المستخدمة في الزراعة والدورة الزراعية بكل مراحلها والتعايش والتآلف العجيبين مع البيئة وكل ما فيها من بشر وأشجار وحيوانات وطيور ووديان وشعاب وجبال....إلخ، كنموذج للحياة في القرى اليمنية قبل دخول اليمن في العصر الحديث. وقارنت كل هذا مع الحياة في مستعمرة عدن بكل تفاصيلها، كما كانت عليه في خمسينيات القرن الماضي. وكان البون شاسعاً جداً، بين حياة القرية البدائية وبين الحياة الحديثة في عدن. ولأنني قد استعرضت كلما اختزنته ذاكرتي من حياة القرية وحياة عدن، في كتابي الذي أشرت إليه، فإن تكرار ذلك سيطيل الإجابة عن السؤال. ولكن يمكن هنا التطرق إلى ما تضمنه سؤالكم عن التعليم. وذلك من خلال تجربتي الشخصية. 

فقد تعلمت في قريتي، قرية البَرَحِيْ (إحدى قرى عزلة بيت الصايدي، التابعة لناحية الشعر في محافظة إب، التي كانت تسمى لواء إب، بحسب التقسيم الإداري التركي)، تعلمت مبادئ القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم. وهذا كل ما كان يُدرَّس في مدرسة القرية. ثم انتقلت إلى مستعمرة عدن. وفي مدينة عدن التي استُبدل اسمها التاريخي الجميل، مع الأسف، باسم إنجليزي غير مناسب (كريتر)، التحقت بمدرسة الإنقاذ في حافة حسين، التي أنشأها فضيلة الشيخ محمد بن عبد الهادي العجيل، خطيب جامع حافة حسين. وكانت عبارة عن غرفتين وصالة صغيرة وحمام، في أحد المنازل النمطية المتلاصقة المعروفة في مدينة عدن. ولم تكن مدرسة بالمعنى الحديث. بل كانت بالأحرى في موقع وسط، بين مدرسة القريةوالمدرسة الحديثة. ولكن المواد الدراسية فيها كانت أقرب إلى المواد الدراسية الحديثة، منها إلى ما كان يُدرَّس في مدرسة القرية. فقد درست فيها الدين، بما في ذلك مبادئ تجويد القرآن الكريم، والمحفوظات (حفظ مقطوعات شعرية ونثرية) ومبادئ النحو والحساب. ولم يكن يدرِّس فيها سوى شابين اثنين من آل العمودي من حضرموت، إلى جانب صاحب المدرسة، الشيخ العجيل. ثم درَّس فيها أيضاً الأستاذ عبد الوهاب عبد الله الوشلي من ذمار، ولكن لفترة قصيرة.

وبعد مدرسة الإنقاذ انتقلت إلى أول مدرسة حديثة درست فيها، وهي مدرسة بازرعة الخيرية، القريبة من شعب العيدروس. أنشأها الشيخ محمد عمر بازرعة. وتتميز عن مدرسة الإنقاذ بأنها مدرسةحديثة في مبناها وفي مناهجها وفي عدد مدرسيها وطلابها. فقد كانت (وأظنها مازالت) عبارة عن مبنى كبير مكون من طابقين، يضمان غرف التدريس للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة (الإعدادية)، وغرفاًمخصصة للمدرسين وللإدارة المدرسية، ودورات مياه. وفيها ساحة تتسع لحركة الطلاب ولطابورهم الصباحي. وفي الساحة غرفة صغيرة تسمى (مقصف)، يباع فيها ما يحتاجه الطلاب، من ماء الشرب والمشروبات الغازية والشاي والبسكويت والبطاط وغيرها. ومثل كل مدارس عدن الحديثة كان زي الطلابفي مدرسة بازرعة زياً موحداً، على خلاف مدرسة الإنقاذ. وكان فيها قاعة خاصة، تُقدم فيها دروس في الموسيقى لمن يرغب من الطلاب. ومن أشهر من تلقوا دروساً فيها، أحمد بن أحمد قاسم ومحمد عبده زيدي، وهما من أشهر الفنانين العدنيين. 

وقد أكملت في مدرسة بازرعة المرحلة الابتدائية، ثم انتقلت إلى المرحلة المتوسطة في المعهد العلمي الإسلامي. وكنت من ضمن الدفعة الأولى التي التحقت به عند افتتاحه، في مطلع العام الدراسي 57/1958م. ويقع بالقرب من بوابة خليج حقات التي أُزيلت كما أُزيلت بوابة عدن في أواخر عهد الاستعمار البريطاني. وقد أنشأه فضيلة الشيخ محمد بن سالم البيحاني، إمام مسجد العسقلاني في مدينة عدن.

وكان للتعليم في مستعمرة عدن نظامان: النظام الأول في المدارس الحكومية (الابتدائية والمتوسطة)، التي لم يكن يُسمح بالالتحاق بها إلا للتلاميذ الذين ولدوا في مستعمرة عدن ويحملون (مخلقة)، أي شهادة ميلاد عدنية. والنظام الثاني في المدارس الأهلية، التي كان يلتحق بها أبناء محميات عدن وأبناء شمال اليمن. ومع أن تسمية المواد الدراسية كانت واحدة تقريباً، فإن محتوياتها كانت مختلفة إلى حد ما. ففي المدارس الحكومية كان يُعطى اهتمام خاص للغة الإنجليزية ولتاريخ وجغرافية بريطانيا وبعض البلدان المرتبطة بها. في حين أن المدارس الأهلية كانت تركز على اللغة العربية وجغرافية الوطن العربي والتاريخ العربي الإسلامي. وكانت اللغة العربية هي لغة التدريس في كل المدارس الحكومية والأهلية. وكان يسود اعتقاد بأن مستوى التدريس في المدارس الأهلية أفضل من مستواه في المدارس الحكومية. ولذا لم يكن من النادر أن يفضل بعض أهالي التلاميذ الذين يحملون (مخلقة) إلحاق أبنائهم في المدارس الأهلية. وكان التعليم في المدارس الحكومية مجانياً، في حين كانت المدارس الأهلية تتقاضى رسوماً دراسية بسيطة. ولم تكن توجد في مستعمرة عدن كلها سوى مدرسة ثانوية واحدة، كانت تسمى (كلية عدن)، تقع بالقرب من الأسلاك الشائكة التي كانت تمثل الحد الفاصل بين مدينة الشيخ عثمان التابعة لمستعمرة عدن وقرية دار سعد التابعة لسلطنة العبدلي (لحج)، ومايزالمبناها قائماً حتى اليوم. وكانت مناهجها وامتحاناتها وشهاداتها تتبع وزارة التعليم البريطانية في لندن. وإضافة إلى المدارس الحكومية والأهلية كان هناك معهد فني تابع لمصفاة النفط في مدينة البريقة، هدفه تزويد العاملين فيها بالمهارات الفنية التي تحتاجها المصفاة. وإذا لم تخني الذاكرة، كان هناك معهد فني آخر في مدينة المعلا، تم تحويله بعد الاستقلال إلى كلية هندسة تابعة لجامعة عدن.  

وكانت المدارس في عدن تخرج موظفين للجهاز الإداري في المستعمرة. ومن أراد أن يكمل دراسته في مستوى أعلى من المستوى المتوسط (الإعدادي)، لا بد أن يبحث لنفسه عن منحة دراسية إلى إحدى البلدان العربية، ولاسيما إلى مصر. وهذا ما حصل معي. فقد غادرت عدن إلى القاهرة في شهر أكتوبر من عام 1961م. منتقلاً بذلك نقلة حضارية ثانية. كانت النقلة الأولى من القرية شديدة التخلف إلى مستعمرة عدن الحديثة، التي تنتهي حدود التحديث فيها عند الأسلاك الشائكة، الفاصلة بين مدينة الشيخ عثمانوبين قرية دار سعد. أما النقلة الثانية هذه، فقد كانت من مستعمرة عدن المحدودة المساحة، إلى مصرالمترامية الأطراف، التي دخلت العصر الحديث ابتداءً من عهد محمد على باشا (1805م _ 1848م)، ومشروعه التحديثي الطموح. ولكن مع ذلك ظلت القرية المصرية، تنتمي إلى ما قبل العصر الحديث.  

 

- ماذا عن الدراسة في مصر والانتقال إلى سوريا والالتحاق بالكلية الحربية السورية، ثم الدراسة الجامعية في جامعة دمشق،   في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، ثم دراسة التاريخ في جامعة بون بألمانيا الغربية؟ 

في شهر أكتوبر من عام 1961م، كما أسلفت، غادرت عدن إلى القاهرة، في منحة دراسية عن طريق (نادي الشباب الثقافي) في الشيخ عثمان، الواجهة الثقافية لفرع حركة القوميين العرب، الحديث النشأة في ذلك الحين. وكان الفضل في تأمين المنحة لي أستاذي في المعهد العلمي الإسلامي، على أحمد ناصر السلَّامي، أحد مؤسسي فرع حركة القوميين العرب في اليمن. وفي القاهرة تولى الأستاذ قحطان محمد الشعبي، الذي كان لاجئاً سياسياً فيها وأصبح فيما بعد أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، تولى الإشراف عليَّ وعلى زملائي الذين حصلوا على منح دراسية بالطريقة نفسها، وهم محمد ناشر سيف (طبيب بشري فيما بعد) وعبد الغني عبد القادر (عضو مكتب سياسي في الحزب الاشتراكي فيما بعد) وعبد العزيز الشعبي (عضو لجنة مركزية في الحزب الاشتراكي فيما بعد). ومن المفارقات العجيبة أننا جميعنا انتظمنا في حزب البعث العربي الاشتراكي، وليس في حركة القوميين العرب، التي جئنا إلى مصر عن طريقها. وكان تأثير الأصدقاء هو الذي أخذنا إلى هذا الخيار. إذ لم يكن أحد منا في ذلك الحين، وفي ذلك السن، يستطيع أن يزعم بأنه انتمى إلى هذا الحزب أو ذاك بناء على تفكير ودراسة ومقارنات بين مختلف الأحزاب. وقد انتظمنا في حزب البعث في الفترة نفسها، في صيف عام 1962م. 

وفي القاهرة درست في الصف الأول ثانوي بالمدرسة السعيدية الثانوية، بالقرب من جامعة القاهرة، وكانت حينها أكبر مدرسة في مصر. ثم غادرت القاهرة في أواخر عام 1962م، في منحة دراسية إلى سوريا، حصلت عليها عن طريق المؤتمر العمالي في عدن. وأكملت في سوريا المرحلة الثانوية والكلية الحربية، التي التحق بها في الدفعة الأولى بعد استلام حزب البعث للسلطة ستة يمنيين، وهم: محمد سعيد باكحيل وصالح عبد الله الحبشي وجعفر عيدروس ومحمد طه النكَّاع وعبد الرحمن الشيباني وأحمد قايد الصايدي. ثم التحق عدد أكبر من اليمنيين في الدفعات التالية. وقد عملت بعد التخرج في السلك العسكري السوري لبعض الوقت، ثم عدت إلى عدن في عام 1966م. وفي عدن انخرطت في العمل الحزبي والعسكري، حتى الاستقلال. وتوقف نشاطنا العسكري باستقلال عدن واستمر نشاطنا الحزبي.وفي عام 1972م غادرت عدن إلى صنعاء، حيث كلفت بإعادة ترتيب أوضاع منظمة الحزب في شمال اليمن. وخلال ذلك كنت أسافر سنوياً في نهاية كل عام دراسي لأداء الامتحانات الجامعية في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة دمشق، الجامعة السورية الوحيدة في ذلك الحين، حتى أكملت الدراسة فيها. والتحقت بعد ذلك بالعمل في المعهد القومي للإدارة العامة بصنعاء (يحمل حالياً اسم المعهد الوطني للإدارة العامة)، ومنه إلى جامعة بون في ألمانيا الغربية. 

- قمتم في منتصف الستينيات بتشكيل طلائع حرب التحرير الشعبية في مستعمرة عدن. ما هي رؤيتكم لتجربة الكفاح المسلح؟

عدت من سوريا إلى عدن في عام 1966م، كما ذكرت سابقاً. وكان هناك رفاق بعثيون يمارسون الكفاح المسلح، إما في إطار جبهة التحرير أو في إطار التنظيم الشعبي للقوى الثورية. وممن كانوا في جبهة التحرير: أحمد قاسم ناجي، الذي كان قائداً للعمل المسلح التابع لجبهة التحرير في مستعمرة عدن، وعبد الكريم عبده عبد الله، ومحمد سيف الأشبط (استشهد بعد الاستقلال)، الذي كان يقود مجموعة مسلحة في منطقة دار سعد، تعمل بشكل مستقل، ولكنها كانت تحصل على السلاح من جبهة التحرير. وممن كانوا في التنظيم الشعبي: محمد علي مقبل، المعروف بأبي جلال العبسي، الذي كان من قياداتالتنظيم الشعبي للقوى الثورية (استشهد بعد الاستقلال) وأحمد سكران (استشهد بعد الاستقلال).  

وقد تم تشكيل مكتب عسكري لمنظمة الحزب من ثلاثة عسكريين (محمد طه النكّاع، زميلي في الكلية الحربية، وسعيد سالم الخيبة، الذي تخرج من الكلية الحربية في الدفعة التالية لدفعتنا، وأحمد قايد الصايدي) ورفيقين مدنيين (أحمد سكران وعبد الكريم عبده عبد الله)، أضيف إليهم فيما بعد زميل سوري تخرج معنا من الكلية الحربية السورية، وهو مصطفى البلخي. وقد كُلِّفت برئاسة المكتب العسكري، إضافة إلى مهمتي في قيادة المنظمة (نائب أمين سر المنظمة). وباشر المكتب العسكري في إنشاء (طلائع حرب التحرير الشعبية)، التي تكونت من خلايا (رائدات)، على رأس كل رائدة قائد حزبي.

وقد حرصنا على إبعاد طلائع حرب التحرير عن الصراع الدموي المؤسف، الذي تفجر بين الجبهة القومية وبين جبهة التحرير ومعها التنظيم الشعبي للقوى الثورية. وكان التنظيم الشعبي يصنف كذراع عسكري لجبهة التحرير. ولكنه في الواقع كان يعمل مستقلاً عن قيادة جبهة التحرير، ومرتبطاً مباشرة بالقيادة العسكرية المصرية في الشمال. وقد مكننا إدراكنا لخطورة الصراع الدموي بين الجبهتين المناضلتين ضد الوجود الاستعماري، وتداعياته الضارة بالعمل الوطني كله، مكننا من اتخاذ موقف وطني سليم، جنبنا التورط في ذلك الصراع. وعبرنا عن موقفنا هذا في بيانات منظمة الحزب ومن خلال الاتصالات التي أجرتها قيادة المنظمة بقيادتي الجبهتين المتصارعتين. ولم يلق هذا الموقف المبدئي السليم ترحيباً لدى الجبهتين، بل قوبل بالتهديد والوعيد. ومن ذلك ما نقله إلينا الرفيق أنيس حسن يحي، الذي كان يشغل في ذلك الحين أمانة سر المنظمة ومكلفاً بالحوارات السياسية، ما نقله إلينا عنالمرحوم عبد الله عبد المجيد الأصنج، أمين عام جبهة التحرير، بأن المواعظ، بحسب تعبير الأصنج، التي نطلقها كما يطلقها الشيخ محمدسالم البيحاني، لن تفيدنا، ولا بد من أن نحدد موقفنا، إما مع أو ضد، لأن المنتصر لن يرحمنا. وهذا ما حصل. فقد دفعنا ثمناً باهظاً لموقفنا السليم، وصل إلى حد التصفيات الجسدية لبعض رفاقنا. وهذه صفحة من صفحات الماضي بكل إيجابياتها وسلبياتها، لم يبق منها إلا الدروس التي يجب علينا جميعاً أن نستفيد منها. فتحديد العدو الحقيقي في كل مرحلة من مراحل النضال الوطني أمر مهم للغاية، يجنبنا الصراعات الجانبية، أو بحسب الرؤية اليسارية (التناقضات الثانوية)، التي مع الأسف وضعناها في المراحل السابقة في موضع (التناقض الرئيسي)، فأضعفنا أنفسنا في مواجهة العدو الرئيسي. وهذا درس بليغ، علينا أن نتعلمه. ولا أحسب أننا قد تعلمناه حتى الآن. رغم الأثمان الباهظة التي دفعناها وما نزال ندفعها، بسبب إصرارنا على أن لا نتعلم من تجاربنا وأخطائنا ونكساتنا السابقة.

-  ابتعدتم عن العمل الحزبي باكراً، فما هي الأسباب؟  

الحقيقة أنني لم أطرح على نفسي هذا السؤال عندما ابتعدت، أو بتعبير أدق عندما جمدت نشاطي الحزبي. فقد تم ذلك بصورة تدريجية، ولم يتم في لحظة محددة. وأعتقد أن ذلك كان نتيجة لجملة من التراكمات التي أوصلتني إلى حالة الاقتناع بتجميد نشاطي الحزبي، مع إبقاء علاقتي برفاقي على المستوى الشخصي، وعلى مستوى تبادل الآراء والخوض في النقاشات المتعلقة بتحسين الأداء، وكأني ما زلت في قلب العمل الحزبي. فقدمت وجهات نظر واجتهادات وآراء حول قضايا تصب في جوهر الأداء الحزبي. لاعتقادي بأن تحسين أداء الأحزاب السياسية هو من أهم شروط حيوية العمل السياسي وترشيده وجعله مؤثراً حتى على توجهات السلطة، عن طريق ممارسة الضغوط عليها ودفعها وفق بوصلة وطنية واضحة.   

وإذا ما أردت أن أفكر لاحقاً بالأسباب التي أوصلتني إلى هذا الموقف، فيمكن أن تكون مشاركتي في أعمال المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي لحزب البعث العربي الاشتراكي (عُقد في نوفمبر 1970، بمدينة دمشق)، ممثلاً لمنظمة الحزب في جنوب اليمن، إلى جانب الرفيق يحي محمد الشامي، ممثلاً لمنظمة الحزب في الشمال، يمكن أن تكون مشاركتي تلك من أهم هذه الأسباب. 

فقد خُصِّص ذلك المؤتمر، الذي استمرت أعماله لمدة أسبوعين تقريباً، وانتهي بانقلاب اللواء حافظ الأسد، عضو المؤتمر القومي، وزير الدفاع السوري حينذاك، وهو الانقلاب الذي سمي فيما بعد (الحركة التصحيحية)، خُصِّص لمحاولة حل الصراع القائم داخل السلطة في سوريا، الذي أثر سلباً على أداء السلطة وعلى أداء الحزب.

وكان ما طُرح في المؤتمر، من تفاصيل وخفايا الصراع على السلطة في أعلى مستويات القيادة الحزبية، صادماً لي. فنظرة شاب حالم في منتصف العشرينيات من عمره إلى قيادات الحزب العليا كانت نظرة مثالية. ومن هنا كانت شدة الصدمة. وقد رأيت في ما تم تداوله في المؤتمر وما آلت إليه الأمور بعد انتهائه، رأيت فيه انسداداً في أفق العمل الحزبي على المستوى القومي. فصراعات القيادات الحزبية العليا على المستوى القومي أحدثت حالة من التشوش والارتباك والخلافات في كل منظمات الحزب القطرية، نتج عنها مع الأسف انشقاقات في جسم الحزب، وتشكلت أكثر من منظمة بعثية في القطر العربي الواحد، بعضها مرتبط بالقيادة القومية في بغداد وبعضها بالقيادة القومية في دمشق، التي انبثقت عن مؤتمر قومي آخر، نظمته السلطة الجديدة بقيادة حافظ الأسد، وبعضها ظل مرتبطا لبعض الوقت بأعضاء القيادة القومية، الذين تمكنوا من الهروب من دمشق إلى بيروت والجزائر، وإلى أقطار عربية أخرى. لعل هذا الوضع، بما مثله من انسداد أفق العمل الحزبي، كان المؤثر الرئيسي في ماانتهيت إليه من رغبة في تجميد نشاطي الحزبي وإعطاء نفسي فسحة من الوقت للتفكير في كل شيء.

ولا بد هنا، وقبل أن استطرد في استكمال الإجابة عن سؤالكم، لابد من التأكيد على أن أمام الرفاقالبعثيين في الوطن العربي كله واجب عليهم أن ينجزوه الآن، وهو العمل على إعادة توحيد حزبهمالعريق، الذي مثل أول حركة سياسية عربية منظمة على امتداد الوطن العربي، حملت رسالة توحيد الأمة. إذ لا يجوز أبداً أن تبقى هذه الأداة الثورية الوحدوية ذات التاريخ النضالي الممتد منقسمة على نفسها، بعد أن زالت أسباب الانقسام. إذ لم تعد هناك سلطة ينشغل الناس بها ويختلفون حولها. فبقاء هذا الانقسام يعطل دور الحزب، ويفقد الأمة العربية أهم أدواتها الوحدوية المنظَّمة، التي يمكن أن تلعب، إذا ما توحدت، دوراً قيادياً مؤثراً في حشد طاقات الجماهير العربية في مواجهة الهجمة الاستعمارية الصهيونية الشرسة على الأمة ووجودها. هذا هم يؤرقنا جميعاً، كما تعرفون. فكم من نقاشات دارت بيننا في جماعة نداء السلام حول ضرورة العمل على إعادة لحمة هذا الحزب العربي الكبير، ليستعيد دوره القيادي في الساحة العربية من جديد، وكم طرحنا على أنفسنا من أسئلة حول ما يمكن أن نسهم به نحنفي ذلك. وقد نقلنا إلى بعض قيادات الحزب رأينا. ونحن مستعدون للإسهام بأي دور يُطلب منا، لإعادة لحمة الحزب وإصلاح أوضاعه واستعادت دوره التاريخي المؤثر في الساحة العربية. وحبذا لو تُشكَّل لجنة على المستوى القومي، من شخصيات تحظى بقبول من كل الأطراف، مهمتها التواصل مع كل تنظيمات الحزب، وتهيئة الأجواء للقاءات وحوارات تفضي إلى تحقيق هذه الغاية.

وأعود إلى سياق الإجابة عن سؤالكم، فأقوال: مع أننا قطعنا علاقتنا التنظيمية بالقيادة القومية في دمشق، بعد المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي وانقلاب اللواء حافظ الأسد، وأعطينا لمنظمتنا اسم (حزب الطليعة الشعبية)، فإن تأثير ما سمعته وما شاهدته وعشته خلال أسبوعين من المناقشات والمشادات في ذلك المؤتمر، ثم انقلاب حافظ الأسد وإيداع المختلفين معه من قادة الحزب والدولة في سوريا، وعلى رأسهم رئيس الدولة الأمين العام للحزب، الدكتور نور الدين الأتاسي، ومعهم بعض القيادات غير السورية التي حضرت المؤتمر القومي، إيداعهم سجن المزة دون محاكمات ودون أمل في الخروج منه، إلا إلى قبورهم، كان تأثيراً نفسياً وذهنياً غير عادي، على شاب كان ينظر إلى العمل الحزبي نظرة مشبعة بالمثالية والرومانسية. يضاف إلى هذا بعض العوامل داخل اليمن، المؤثرة على تفكير ونشاط شاب في سنِّي في ذلك الحين، ومنها مثلاً علاقات الأحزاب داخل اليمن بعضها ببعض،التي كانت تتصاعد أحياناً إلى صراعات عبثية لا معنى لها، وموقف السلطة الثورية في الجنوب منالمناضلين الوطنيين خارج الجبهة القومية وطريقة تعاملها معهم، رغم وحدة الأهداف والمصير. كل ذلك شكل تراكمات أوصلتني إلى الاتجاه نحو استكمال الدراسة، ثم الاستغراق بعد ذلك في العمل الأكاديمي.

 

- وسط هذه الظروف التي تحدثت عنها ظهرت دعوة الجبهة القومية الحاكمة في الجنوب إلى (وحدة أداة الثورة اليمنية)، وكان لكم تحفظ تجاه ذلك. فما الذي جعلكم تتحفظون؟

نعم لقد كان لي، ولآخرين أيضاً، تحفظ تجاه تلك الدعوة. فقد رأيت في فكرة (وحدة أداة الثورة اليمنية)، التي أُقرت في المؤتمر العام الرابع للجبهة القومية في شهر مارس 1968م، رأيت فيها تجلياً من تجليات التفكير الشمولي، يتعارض مع فكرة التعددية السياسية. ولا شك عندي في أن التعدديةالسياسية، التي تتمثل بتعدد الأحزاب، تغني الحياة السياسية وتبقيها حية نشطة، من خلال أداء الأحزاب ومبادراتها وإبداعاتها. وحتى لو ضُرب حزب من الأحزاب وأُضعفت قدرته على العمل، فسيتواصل العمل السياسي بوجود الأحزاب الأخرى. ولكن إذا ما قمت بصهر كل الأحزاب الوطنيةالنشطة في شمال اليمن وجنوبه (كانت تُسمى فصائل العمل الوطني) في حزب واحد، هو الحزب الحاكم في الجنوب، فإن نشاط هذا الحزب سيكون مرهوناً بظروف السلطة وحساباتها وعلاقاتها المتغيرة، لاسيما علاقتها بالسلطة في الشمال. كما أن الصراعات المتكررة داخل السلطة في الجنوبستمتد حتماً إلى كل المكونات الحزبية التي انصهرت في الحزب الحاكم. وإذا ما أُضعف هذا الحزب،الذي ذابت داخله أكبر الأحزاب الوطنية وأكثرها تأثيراً في الساحة السياسية اليمنية، إذا ما أُضعفلسبب أو لآخر، فستضعف بضعفه الحركة السياسية كلها. وانسجاماً مع قناعتي هذه، امتنعت عن المشاركة في المؤتمر التوحيدي، الذي دُعيت إلى حضوره أثناء دراستي في ألمانيا، والذي انبثق عنه الحزب الاشتراكي اليمني. ومع ذلك، وبطلب من رفاقي، زرت عدن بعد انتهاء المؤتمر التوحيدي، ولمست الحماس والتفاؤل الكبيرين لدى رفاقي هناك، وأحسست بدفء العلاقة الرفاقية وتأثرت بها. فقد استقبلني الرفيق أنيس حسن يحي فور وصولي، واستضافني في سكنه بمدينة المنصورة عدة أيام. ثم حضر رفاق آخرون، منهم الرفيقين حسن شكري وعبد العزيز محمد سعيد، وأصروا على انتقالي لأكون قريباً منهم، واستضافني الرفيق حسن شكري في سكنه أيضاً، في مدينة التواهي. 

ولا أكتمكم أنه كان يساورني أحياناً بعض الشك في صحة قناعتي، حول تذويب الأحزاب السياسية المتعددة في الحزب الحاكم، عندما أرى مدى حماس رفاقي واندفاعهم إلى ذلك. ولكن توالي الأحداث على مدى العقود الماضية، وواقع الحركة السياسية اليمنية بشكل عام، عزز لدي القناعة بأن عملية صهر الأحزاب المتعددة في حزب السلطة، أياً كانت هذه السلطة، لم تكن خطوة صائبة. فللسلطة ظروفها وحساباتها، التي قد تختلف بهذا القدر أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك، عن حسابات أي فصيل سياسي ليس في السلطة. ولو أن الأحزاب السياسية التي ذابت في الحزب الاشتراكي قد نسقت فيما بينها، وأنشأت صيغة للتعاون، عل شكل جبهة مثلاً، مع احتفاظ كل حزب بهيكله التنظيمي مستقلاً، وهذا ما كنت أميل إليه، لبقيت تلك الأحزاب ذات الفعل النشط في أوساط الجماهير اليمنية قادرة على إحداث تأثير إيجابي في الأوضاع الراهنة شديدة السوء التي نعيشها. وما نراه اليوم هو أن تراجع أو غياب دور الحزب الاشتراكي اليمني المؤثر في هذا الظرف الصعب الذي يمر به اليمن، جعل الفعل المؤثر للأحزاب التي ذابت فيه يغيب بالتبعية. لأنها أصلاً لم تعد موجودة. وهذا أدى إلى ضعف الفعل المؤثر للحركة السياسية اليمنية كلها.  

لقد كان دمج الأحزاب السياسية في الشمال والجنوب بحزب السلطة في الجنوب منافٍ لفكرة التعددية السياسية، الفكرة التي لم يتنبه لها بعض قادة الحزب الاشتراكي اليمني إلا بعد كارثة 13 يناير 1986م. ولكنه كان تنبهاً متأخراً، ولذا لم يعط ثماره المرجوة. لأن الأحداث كانت قد تغيرت، ومعطيات الواقع لم تعد كما كانت عليه. وعندما تتبنى فكرة صائبة في وقتها المناسب وأنت قادر على تنفيذها، يكون لهذا التبني تأثيره. لكن عندما تتبناها وأنت في وضع لم تعد قادراً فيه على تنفيذها، سيبدو تبنيك لها مجرد محاولة متأخرة للنجاة. وهل سيترك لك أعداؤك الفرصة للنجاة، ويسمحون لك بمواصلة دورك في إطار التعددية السياسية التي اقتنعت بها متأخراً، أم سيحاولون الإجهاز عليك؟ أعتقد أن ما حصل كافٍ للإجابة عن هذا التساؤل.

وعلى أي حال هذا كله أصبح من الماضي، ولم يعد التفكير فيه يجدي، إلا من حيث الاستفادة من دروسه للمستقبل. وما هو مهم الآن، وفي متناول اليد، هو كيفية تنشيط وتفعيل دور الحزب الاشتراكي،باعتباره أكبر مكون سياسي بأفق تقدمي مستقبلي، يمتلك قاعدة تنظيمية ماتزال ملتزمة لقيادتها، وجماهير واسعة في كل اليمن تتطلع إلى دوره الفاعل والمؤثر. هذا هو الأمر الجوهري الآن. لأن الماضي، سواءً اتفقنا في نظرتنا إليه أو اختلفنا، لا يمكن إعادة ترتيبه من جديد. لذا فإن تماسك الحزب الاشتراكي قيادات وقواعد، وتحركه المنظم وتفعيل دوره النشط في أوساط الجماهير، هو ما يجب التفكير فيه الآن والعمل من أجله. إذ أن قطاعات واسعة من الجماهير اليمنية ماتزال ترى في الحزب الاشتراكي اليمني حزباً طليعياً معبراً عن أحلامها. والفرصة التاريخية أمامه مواتية. فغياب الأحزاب السياسيةالتقدمية المؤثرة، أو ضعف دورها، يجعل الحزب الاشتراكي هو المعني أكثر من غيره بملء الفراغ الحاصل في الحياة السياسية اليمنية. ويخطر في بالي في هذه اللحظة قول طَرَفَة بن العبد، المعبر عن هذه الحالة:  

إذا القوم قالوا من فتى خلتُ أنَّني         

عنيتُ فلم أكسل ولم أتبلدِ

وقول أبي الطيِّب المتنبي: 

ولم أر في عيوب النَّاسِ عيباً      

كنقصِ القادرين على التَّمامِ

- قراءتكم لتجربة الثورات العربية، ولاسيما الثورتين اليمنيتين سبتمبر 62 واكتوبر 63 والصراع فيهما وعليهما ؟

حاولت الإجابة عن هذا السؤال في ورقتين قدمتهما في ندوتين علميتين، أقيمتا في مركز الدراسات والبحوث اليمني. الورقة الأولى بعنوان (البعد التاريخي للثورة اليمنية)، قدمتها في ندوة (الثورة اليمنية، سبتمبر _ أكتوبر _ نوفمبر، التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية)، التي أقيمت في يومي 23 و24 نوفمبر عام 2008م. ونشرها المركز في كتاب خاص بأوراق الندوة. والورقة الثانية، بعنوان (أهداف الثورة وطموحاتها، مشروع مؤجل)، قدمتها في ندوة (الثورة اليمنية)، التي عقدت في المركز نفسه،بتاريخ 27 نوفمبر عام 2013م. ونشرها المركز أيضاً في كتاب خاص بأوراق تلك الندوة. وقد أعدت نشر الورقتين، كملحقين في كتابي (اليمن عشية الثورة، الصادر في صنعاء، عام 2018م).

ولأن موضوع (الثورات العربية) بشكل عام يشغل ذهني منذ سنوات طويلة، فسأعطي هنا رؤية عامة عنها، دون الدخول في التفاصيل، التي لا يمكن الخوض فيها إلا اعتماداً على دراسات علمية لا يتحكم فيها الهوى والتحيز، ولا تنطلق من أحكام سياسية جاهزة. وهذه الرؤية العامة يمكن أن ألخصها بالآتي:  

بعض (الثورات العربية) عجزت عن أن تتجاوز الأنظمة التي ثارت عليها، ولم تمثل حالة أفضل من الحالة التي كانت سائدة قبل مجيئها. واسمحوا لي هنا بأن استخدم اسم الثورة والثورات استخداماً غير دقيق، تأثراً بالذوق السائد، مع قناعتي بأن منها ما لا يصح أن نطلق عليها اسم ثورة. لأن الثورة تعني التغيير الشامل المؤدي إلى نهوض عام في حياة المجتمع، في كل الجوانب الإدارية والسياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والثقافية والخدمية ...إلخ. لقد ذهبت بعض الثورات العربية إلى تكميم الأفواه ومصادرة حرية المواطنين في التعبير عن آرائهم، وتأميم كل وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة والمرئية، لكي لا تتعدد الأصوات والآراء، ولا يرتفع أي صوت مخالف لصوت السلطة، أو أي رأي مخالف لآرائها الرسمية. بل إن بعض الثورات العربية، إذا لم أقل معظمها، قد لجأ إلى ملاحقة واعتقال المخالفين في الرأي أو في الموقف واغتيال بعضهم، ووصل الأمر أحياناً إلى ممارسة الاغتيالات وسط صفوف القائمين بالثورة أنفسهم، كأسلوب لتصفية بعض قياداتهم المنافسة، بدلاً من الاحتكام إلى لغة الحوار الهادف إلى تجاوز الخلافات وتقريب الرؤى والمواقف المتباينة، بعضها من بعض.  

وإزاء هذه الحالة، فإن أي ثورة لا تتسلح بالأخلاق الضابطة للسلوك، لا يمكن أن يكون لها وللمجتمع الذي تقوده مستقبل تتجسد فيه المثل التي تتحدث عنها والشعارات التي ترفعها. فلكي تبني مجتمعاً فاضلاً، يجب أن تكون أنت أولاً إنساناً فاضلاً. وقد افتقدت قيادات كثيرة هذه القيمة، أو جمدتها بحكم الضرورة كما يبدو، وأخلفت أو عجزت عن الوفاء بما وعدت به. والثورة إذا ما أخفقت في تحقيق ما وعدت به، فلن يبقى منها سوى آثار العنف والدمار المادي والنفسي وخيبة الآمال. وبذلك تفقد شرعيتها.  

فشرعية الثورة تستمدها من مشروع التغيير الذي تسعى إلى تحقيقه لمصلحة المجتمع كله. فإذا فشلت في تحقيق مشروعها فقدت شرعيتها. وأهم تجليات الشرعية: صدق الثوار واستقامتهم ووضوح مقاصدهم وصحة أهدافهم وسلامة سياساتهم وممارساتهم، ثم إنجازهم العملي الذي يتمثل بالتقدم خطوة فخطوة باتجاه تحقيق الأهداف المعلنة للثورة، أي تحقيق مشروع التغيير الذي قامت الثورة من أجل تحقيقه.   

وقد تسنى لي أن أُضمِّن رؤيتي هذه في أوراق قدمتها في ندوات مختلفة. تناولت فيها على وجه الخصوص، كما ذكرت سابقاً، ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر اليمنيتين، كنموذجين للثورات العربية الأخرى، في ملامحهما العامة. رغم ما فيهما من خصوصية، تمثلت بأن الأولى كانت ثورة على نظام شديد التخلف، لم يكن له مثيل في الوطن العربي كله. وحاولت في أهدافها العامة أن تتشبه بالثورة المصرية. ولكنها لم تبلغ ما بلغته ثورة مصر، بحكم حجم التخلف في اليمن، وبدائية نظام الحكم السائد قبل الثورة، وافتقار مملكة الإمام إلى الأعداد الكافية من المتعلمين المؤهلين لقيادة ثورة في مستوى الأهداف التي رفعتها. فبقيت أهداف ثورة سبتمبر، كما أوضحت في عنوان ورقتي الخاصة بثورة سبتمبر وفي مضمون تلك الورقة، بقيت مشروعاً مؤجلاً، لم يتمكن قادة الثورة والنظام الجمهوري من تحقيقه. وهذا لا يقلل من حجم وأهمية ما تحقق بعد الثورة. فما تحقق لم يكن يسيراً، مقارنة بما كان عليه الحال في مملكة الإمام، بل كان نقلة نوعية كبيرة، شملت كل جوانب الحياة. ولكن تحقيق ذلك اعتمد بالدرجة الأولى على جهود وخبرات وتضحيات الإخوة المصريين. ولم نستطع نحن اليمنيين أن نواصل التغيير بالوتيرة نفسها بعد خروج الإخوة المصريين من اليمن. 

وكانت ثانيتهما ثورة على وجود استعماري، امتد قرابة مئة وتسعة وعشرين عاماً. أحلت محله نظاماً ثورياً، حقق إنجازات تحسب له، لاسيما في مجالات التعليم والصحة والمواصلات وإدخال الإدارة الحديثة والخدمات العامة إلى كافة المحافظات، فضلاً عن توحيد السلطنات والمشيخات الكثيرة، في دولة واحدة متماسكة وقوية. ولكنه تعثر في محاولته نقل نماذج من الأنظمة الاشتراكية بصورة متعجلة غير مدروسة، نقلها من بيئتها إلى البيئة اليمنية المفتقرة إلى القاعدة العلمية والصناعية التي كانت تقف عليها تلك الأنظمة، وإلى البنية الاجتماعية الملائمة والطبقة العمالية الواسعة والنخبة السياسية ذات التأهيل العلمي المناسب لقيادة ثورة تغيير جذري، يبلغ مستوى الشعارات التي رفعتها والخيارات التي توجهت للأخذ بها.

ولتحقق الثورة، أي ثورة، أهدافها المعلنة، لا تكفي النوايا الطيبة، فإنجاز أهداف الثورة يتطلب إلى جانب النوايا الطيبة شروطاً أخرى، لابد أن تتوفر للثوار وفيهم، لكي ينجحوا في إحداث التغيير المنشود في حياة مجتمعهم.  

- تقييمكم لحركة ال 5 من نوفمبر 1967م والحركة التصحيحية 13 يونيو 1974م؟ 

نحن جميعاً نسمي الحدثين 5 نوفمبر 1967م و 13 يونيو 1974م (حركة). ولعل من المناسب هنا أنأشير إلى أنني قد تناولت في كتابي (حركة المعارضة اليمنية، الصادر في بيروت، عام 1983م) مسألة استخدامنا غير الدقيق لبعض المصطلحات. وأعدت تناول هذه المسألة في مداخلة مكتوبة في إحدى الندوات العلمية بصنعاء، عام 2019م. نشرتها فيما بعد في الجزء الثاني من كتابي (أوراق متفرقة الصادر في صنعاء، عام 2022م). وذلك في محاولة لضبط معاني بعض المصطلحات المستخدمة.فمصطلح حركة ومصطلحات أخرى كالثورة والانقلاب والانتفاضة والتمرد...إلخ. نستخدمها بقدر من التلقائية، استخداماً غير دقيق، بل ونطلق عليها غالباً اسم (ثورة).

أما تقييم ما أسميهما، بناءً على محاولة ضبط المصطلحات التي أشرت إليها، انقلاب 5 نوفمبر وانقلاب 13 يونيو، فمن الصعب أن أعطيك تقييماً أطمئن إليه. إذ لم يتسن لي دراستهما دراسة منهجية، تفضي إلى وضع تقييم علمي دقيق لكل منهما، يضع في الاعتبار الحالة السياسية والاقتصادية القائمة حينذاك، بكل تفاصيلها وملابساتها، والقوى الاجتماعية والتيارات والأحزاب والشخصيات المشاركة في الانقلابين والمؤثرة في الحياة السياسية بشكل عام، من حيث دوافعها وعلاقاتها بعضها ببعض وتحالفاتها وطموحاتها الذاتية وطموحاتها العامة ورؤاها وتحيزاتها ومدى تأثير كل منها في الأحداث...إلخ. ولأنني لم أدرس الانقلابين المذكورين، فإن أي إجابة قد أجازف بها هنا، لن تكون إلا من قبيل الانطباعات العامة، المتأثرة بما يردده الناس وما يطلقونه من أحكام جاهزة، تعبر عن تحيزات سياسية في الغالب. 

 

 

مقالات

اغتيال الفكرة: ماذا لو سقط عبدالملك الحوثي؟

الاستخبارات هي السلاح الحاسم في الحروب الحديثة، لا الصواريخ وحدها ولا كثافة النيران. وإسرائيل، كما هو معروف، تملك تفوقًا استخباراتيًا هائلًا، يوازي قوتها العسكرية وربما يتجاوزها. لكن مأزق إسرائيل الأكبر ليس في مواجهة جيوش نظامية، إن مأزقها يكمن في حربها مع الجماعات اللامركزية، "العصابات"، التي لا تخضع لمنطق الدولة.

مقالات

أبو الروتي 39 ( النهاية )

مكثتُ في عدن خمس سنوات، درستُ فيها صف رابع ابتدائي في المعهد العلمي الإسلامي، وصف خامس وصف سادس ابتدائي، وأول إعدادي وثاني إعدادي في كلية بلقيس.

مقالات

عجائب الحروب مع الأعداء

تتبدّى لنا غرابة التفكير العربي في الوقت الراهن من حيث تقديم عدو وتأخير آخر، مع أن كليهما عدوان سافران واضحان بعداوتهما بلا هوادة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.