مقالات
استنارة المحلوِي
في موضوع لي حمل عنوان "التنويريون اليمنيون وأسئلة النهضة والتغيير"(*)، حاولت تتبع الاسهامات الباكرة لبعض المستنيرين الأوائل في شمال اليمن وجنوبه، ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين.
افترضت أن صوتهم بدأ بالتشكّل الواضح في عام الكوارث الكبيرة (1934)، وهو عام دخول القوات السعودية إلى عاصمة إقليم تهامة (الحديدة) والمدن المحيطة بها، والذي ترتّب عليه 'اتفاقية الطائف'، التي تنازل فيها الإمام يحيى عن المخلاف السليماني (إقليم عسير) ونجران، مقابل خروج القوات السعودية من (تهامة اليمن)، وهو العام ذاته الذي وقَّع فيه الإمام أيضاً اتفاقية صداقة مع الإنجليز، معترفاً بسيطرتهم على عدن والمحميّات، مقابل اعترافهم به كحاكم لليمن، بعد عشرة أعوام كاملة من التوتّر الشديد بين الطرفين الذي أفضى في العام 1928م إلى قِيام الطائرات الانجليزية بإلقاء قنابلها على بعض المدن والبلدات التي تتواجد فيها قوات الإمام، في فعل دوّنته المشافهات والحكايات لصاعقته على سكان البلد المعزول.
كان أكثر ما يبتغي هذا الصوت توصيله هو الرّفض المعلّل لطريقة إدارة الإمام للبلاد بعقلية الفقيه المتزمّت والمتعصّب، بعد أن ظل لأكثر من خمسة عشر عاماً يتباهى بأنه بطل الاستقلال، وصانع قوّة البلاد، التي تعيش في محيط مستعمر أو مُستلب القرار.
خرج هذا الصوت من ذات البنية الثقافية المحافظة، التي كرَّسها نظام الحكم، وأدار "معاركه الفكرية" بالأدوات نفسها التي يشتغل عليها، التي تمتلك في الوقت ذاته أسلوبها البسيط، في النفاذ إلى عقول الكثير من المهجوسين بالسؤال الكبير من نحن؟ وماذا نريد؟!
خطاب طلائع التنويريين (العصاميين)، الذين لم يأتوا من حواضِن سياسية منظمة أو مدارس فكريّة حديثة، استوعب هذا السؤال وتبنّاه؛ وبإمكانياتهم المعرفيّة البسيطة خطوا أولى الخطوات، في الطريق الشَّاق والطويل لمعارضة السلطة الغاشمة، وتعرِية أدواتها المستخدمة لتعظيم الاستبداد الدِّيني، أو بمعنى آخر حمل خطابهم المبكر "دعوة فكريّة سياسية وعملية لتحطيم تابوهات القداسة التي صنعتها الإمامة حول نفسها، وكشفت بوضوح حقائق ووقائع الحالة الإمامية الميؤوس منها، وحالة نظام فقد أي صلة بالحياة والعصر". كما قال قادري أحمد حيدر.
وأكثر الأسماء تمثيلاً لهذا المنزع الجديد الشيخ "حسن الدعيس"، الفلاح الفيلسوف، الذي حضر في معترَك المركز، بوعيه الجدلي المختلف والمؤثّر، وهو الآتي من أحد جبال اليمن الأسفل، وخلال فترة قصيرة استقطب- إلى صفّه- العشرات من المثقّفين الملولين من حكم الإمام في عاصمته، الذين أصبحوا المشغِّل الفاعل في نواة المعارضة السياسية، التي بدأت تمضي في طريقها الشّاق من المقايل وحلقات المساجد، متخذةً من الخطاب الدِّيني، وموضوعاته الإشكالية، مدخلاً لنقد الإمام وحكمه. الآثار الفكرية القليلة للشيخ الدعيس "تقدّمه لنا كواحد من حكماء الشرق، والمنطلق من فكر الإسلام وإشراقاته التصوفيّة، والباحثين في ذلك الفكر عن نهج عادل يضع حداً لما كان يعانيه مواطنوه من اضطهاد وقهر في ديارهم، التي تدعى بالمستقلة"، كما قال الدكتور عبد العزيز المقالح.
وإلى جانب الشيخ حسن الدعيس، ظهر المناضل الأستاذ "محمد المحلوي"، الذي دخل هذا المعترك بوعي عصراني أكثر انفتاحاً، بسبب احتكاكه المباشر بمعارضين أتراك، نفتهم السلطات العثمانية من عاصمتها ومُدنها إلى اليمن كنوع من العقاب، فاكتسب منهم اللغات وبعض علوم العصر، التي قادته بدورها إلى القراءات الفاحصة للفكر الدِّيني، الذي بواسطته كوَّن شخصيته الثقافية الرائدة. وهو أحد أبناء مدينة صنعاء.
عانى كثيراً من قسوة أسرته حينما كان طفلاً، بعد أن ترك المعلامة (الكتاتيب)، والتحق بمكتب تركي؛ توسّم فيه الموجِّه النباهة والذّكاء، فمنحه هديّة تقديرية كانت عبارة عن مصحف مطبوع في إسطنبول، وحينما عاد به فرحاً إلى البيت ضربه والده وأعمامه وربطوه. فكيف له أن يدرس في مكتب الأتراك، ويقرأ في مصحف تركي مطبوع؟ لم يرضخ لهم، وحينما يئسوا منه تركوه حتى أكمل تعليمه بالمكتب، لكنّه لم ينقطع عن القراءة والمُطالعة في كل ما هو جديد، لهذا كانوا كلّما رأوه وبيده جريدة تُركية أو كتاب، يتعصّبون عليه ويضربونه بعنف، كما يقول أحد أقرب تلامذته.
اكتسب لقبه من المِهنة التي كان يزاولها مع عائلته، وهي 'صناعة الحلوى' التي كانت، مثل بقية المِهن، محتقرة في التمييز الاجتماعي لأدوات السلطة، ومع ذلك لم تقف هذه الحمولة التمييزية العنصرية حائلاً أمام تحقيق هدفه الكبير، وهو إحداث الاختراق المُهم في جدار التخلّف الذي صلَّبته السلطة في وعي المجتمع المعزول، وهذا الفعل تم بأدوات التعليم ووسائله، إذ كان ينقل كل معارفه التي اكتسبها من أصدقائه الأتراك ومن قراءاته المتنوعة، وكذا ما اكتسبه من معارف دِينية، يصح نعتها اليوم بالدراسات الدِّينية المقارنة، بتعلّمه أصول الفقه والحديث والبلاغة، إلى جانب اطلاعه على نصوص توراتية كثيرة، إلى مجموعة مهمّة من تلامذته ومريديه في حلقات سريّة وعلنية ..
وبحسب المصادر التاريخية، فقد كان "المُحَلْوِي"، شُجاعاً، جَسوراً، لديه قدرةٌ فائقةٌ على المُناظرات العلمية، لَبِقاً، جذاباً، استمال الكثير من رجال اليمن في عصره إلى معارضة الإمامة، مما جعل كثيراً من أدبيات الثورة اليمنية تعدّه النواة الأولى للثورة على الحُكم الإمامي في اليمن، كما يقول يحيى الحمادي.
"حفظ الحديث والتفاسير، ودرس التاريخ والرياضيات والطب وأحوال البلاد الشرقية والغربية، ولولعِه بالبحث والاستطلاع درس العهدين القديم والجديد عند الحاخام الكبير يحيى الأبيض، الذي كان متبحراً بالعلوم اليهودية والإسلامية"، كما يقول العزّي صالح السنيدار في كتابه "الطريق إلى الحرية"، الذي خصص مساحة مهمّة من الكتاب المذكور عن الأستاذ المحلوِي ومحيطه، الذي يعتبر الوثيقة الأبرز التي قاربت سيرة الرّجل المغيبّة من تاريخ الحركة الوطنية، وحركة التنوير ضعيفة الحوامل.
بسبب آرائه المناهضة لفكر الإمامة كان يُكَّفر ويُلعن من أصحاب السلطة وأربابها، ويروي السنيدار أنه بعد عودته من موسم حج سأل عنه المحلوِي لتقديم الشّكر له على صنيع معروف قدّمه لعمه (والد زوجته)، حينما كانا سويّة في الحج؛ وحينما دلّوه عليه في مقيل كان يتواجد فيه مع أصدقائه جاء إليه يسلِّم ويُقبِّل رأسه، فيقول السنيدار:
"كنت نافراً من المحلوِي هذا لما نسمع من الشائعات ضده، إذ يقولون إنه ناصبي، ويبغض أهل البيت، ويبغض الإمام، وناس يكفِّرونه، وآخرون يلعنونه".
هذه الصُّورة السلبية عن الرجل في ذهن السنيدار وغيره ستتبدل تماماً، على الأقلّ في ذهن الأول، وبسببه سيصير شخصاً مختلفاً في رؤيته للحياة، وقبل كل شيء رؤيته للإمام ونظام حكمه.
يرصد هذا التحوّل من خلال ثلاث صدمات أحدثها المحلوِي في وعي التاجر البسيط، الذي كان ينتفض بدنه حينما يسمع ذِكر الإمام، وتتغرغر عيونه بالدُّموع كلّما أبصره من شدّة محبّته له، كما يقول عن نفسه.
"يتبع"
(*) مجلة الفيصل العدد 6 نوفمبر 2016