مقالات

أطماع خليجية ساذجة وصرخات حوثية مؤجلة!

29/04/2025, 15:22:47

في زمن تُدار فيه الصراعات كسيرك جيوسياسي، تقف دول الخليج، بقيادة السعودية والإمارات، على خشبة مسرح اليمن، تُلوح بسيوفها اللامعة وهي تُغنّي أناشيد النصر، غافلة عن أن الأرض تحت أقدامها تتحرّك، والحوثيون -بدعم إيراني وتغاضٍ دولي- يُحكمون قبضتهم على الحبال.

أطماع الخليج، التي تُسمّى تارةً إستراتيجية وتارةً ضرورة، ليست سوى قناع ساذج يُخفي غباءً سياسيًا أدى إلى تمكين العدو بدلًا من كسره.

ففي اليمن، حيث تُباع الأحلام بثمن بخس، يُصنع الخطر الحوثي على أيدي أولئك الذين ظنوا أن بإمكانهم إدارة الفوضى دون أن تبتلعهم.

- اليمن: ساحة لأحلام الخليج التوسعية

منذ انطلاق عاصفة الحزم، في مارس 2015، أعلن التحالف العربي، بقيادة السعودية والإمارات، أهدافًا طموحة: إسقاط انقلاب الحوثيين، إعادة الرئيس عبدربه منصور هادي إلى السلطة، ومنع التغلغل الإيراني في شبه الجزيرة. لكن بعد عقد من الزمن، لم تتحقق هذه الأهداف، بل تحوّلت الحرب إلى مستنقع يُغرق الجميع، بينما تتكشف الأجندات الحقيقية للرياض وأبوظبي.

السعودية، بحلمها القديم بجارٍ ضعيف يركع تحت عباءتها، تسعى لإعادة ترسيم حدودها مع اليمن، مستغلة الفوضى لفرض شروطها على الأراضي الحدودية، كما أشارت تقارير مركز صنعاء للدراسات (2023).

معاهدة جدة 2000، التي حسمت نزاعات حدودية، لم تكن سوى بداية لهذا الطموح، إذ تتطلع الرياض إلى منفذ بحري على بحر العرب يُعزز نفوذها الجيوسياسي. أما الإمارات، فتُحيك أحلامها من أبراجها الزجاجية، تسعى للسيطرة على جزر مثل سقطرى، ممرات مائية كباب المندب وخليج عدن، والساحل الغربي بموانئه الحيوية؛ مثل الحديدة والمخأ، إما مباشرة أو عبر وكلاء مثل المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات طارق صالح، كما وثّقت الجارديان (2024)، وتقرير الأمم المتحدة (2024).

لكن هذه الأطماع ليست مجرد خطط إستراتيجية، بل هي أحلام ساذجة تُغفل أبسط قواعد اللعبة: لا يمكن السيطرة على اليمن دون إخماد الفوضى، ولا يمكن إخماد الفوضى دون مواجهة الحوثيين.

بدلًا من ذلك، اختار الخليج إبقاء الصراع مشتعلًا، ظنًا أن الفوضى المُدارة ستُسهل تقسيم الكعكة. هكذا، تحوّلت اليمن إلى كانتونات تُدار بالوكالة، بينما يزداد الحوثيون قوةً على حساب أوهام التحالف.

- غباء السياسة الخليجية: تمكين العدو بدلًا من كسره

إذا كان هناك درس واحد من عقد الحرب في اليمن، فهو أن السياسات الخليجية، بنهجها الطفولي، هيأت التربة لتغلغل إيران بدلًا من وقفه.

في خطوة تُجسد هذا الغباء، أُزيح الرئيس عبدربه منصور هادي، في أبريل 2022، بعد احتجازه في الرياض، منذ بداية الحرب، ليُستبدل بمجلس رئاسي من ثمانية أعضاء متنافري التوجهات والانتماءات، وفقًا لتقارير مركز صنعاء (2022).

 يُعتقد أن رفض هادي التنازل عن أراضٍ حدودية للسعودية أو منح الإمارات امتيازات في الموانئ والجزر كان وراء إزاحته، مما يكشف عن أولويات التحالف الحقيقية: الأطماع أهم من الشرعية.

هذا المجلس، الذي يُشبه فرقة موسيقية بلا قائد، لم يُنتج سوى المزيد من التشرذم، مُطيلًا أمد الصراع ومُبقيًا اليمن سائلًا، كما يُحب الخليج أن يكون. لكن السذاجة تكمن في الاعتقاد أن هذه الفوضى تخدم مصالحهم.

ففي الوقت الذي تُشغل فيه السعودية نفسها بإعادة ترسيم الحدود، والإمارات بتجزئة الجنوب، يُحكم الحوثيون قبضتهم على الشمال، مُطلقين صواريخ "قدس" وطائرات شاهد-136 على أهداف خليجية، كما وثّق تقرير الأمم المتحدة (2024). النتيجة؟ دول الخليج، التي فشلت في حماية أراضيها من هجمات الحوثيين، تستمر في حياكة أحلامها التوسعية وكأن النار لن تصل إلى أبوابها.

الأدهى هو أن هذه السياسات جاءت بنتائج عكسية. اتفاق بكين، في مارس 2023، الذي توسطت فيه الصين لإعادة العلاقات بين السعودية وإيران، قلّص العمليات العسكرية السعودية في اليمن، لكنه فتح الباب لمفاوضات غير مباشرة مع الحوثيين عبر وسطاء عُمانيين، وفقًا لرويترز.

هذه المفاوضات، التي تضمنت شروطًا حوثية مثل التعويضات  ورفع الحصار، ودفع رواتب موظفي القطاع العام، لم تُضعف الحوثيين، بل عززت شرعيتهم كقوة أمر واقع، مُثبتةً أن الخليج، في سعيه للأمان، يدفع ثمنًا باهظًا لعدو كان من المفترض أن يُسقطه.

- الحوثيون: من مليشيا إلى ورقة إقليمية ودولية

الحوثيون، بدعم إيراني لا يتزعزع، ليسوا مجرد مليشيا محلية، بل أصبحوا أداة جيوسياسية تُستخدم بمهارة على طاولة المفاوضات الإقليمية والدولية.

إيران، التي تمارس لعبة الانتظار الذكي، تواصل تزويد الحوثيين بصواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، مما يُعزز بقائهم كسلطة أمر واقع في اليمن، ويعزز قدرتهم على تهديد الملاحة في البحر الأحمر، واستهداف العُمق الخليجي.

تقرير الأمم المتحدة (2024) وثّق هذا الدعم، مشيرًا إلى أن صواريخ "قدس" وطائرات شاهد-136 تُشكل تهديدًا متزايدًا لدول الخليج.

لكن الخطر لا يقتصر على إيران.

المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، يُسهم في تمكين الحوثيين من خلال مقاربة ناعمة تُركز على "إدارة الصراع"، بدلًا من حسمه.

ففي يناير 2024، أعادت واشنطن تصنيف الحوثيين كـ"منظمة إرهابية أجنبية"، لكن البيت الأبيض أكد أن الهدف هو "تعديل سلوكهم"، وفقًا لرويترز. بل إن تقارير مراكز أبحاث؛ مثل معهد بروكينغز (2023) ومجموعة الأزمات الدولية (ICG، يناير 2025)، دعت إلى دمج الحوثيين في العملية السياسية لضمان استقرار التسوية. هكذا، تُمنح المليشيا شرعية التفاوض، بينما تُواصل هجماتها على السفن التجارية، كما سجّلت 'رويترز' أكثر من 70 هجومًا منذ نوفمبر 2023.

في مسقط، حيث تُصقل الشعارات في أروقة الدبلوماسية، يُفاوض الحوثيون بثقة، كما وثّقت 'بي بي سي' مفاوضات يوليو 2024 بقيادة محمد عبد السلام. هذه الشرعنة الدولية، إلى جانب الدعم الإيراني، تجعل الحوثيين خطرًا داهمًا لا يُمكن للخليج تجاهله، لكنه -بسذاجته- يفعل ذلك، مُفضلًا أحلامه التوسعية على مواجهة التهديد.

- أطماع تُعمي العيون: صورة قاتمة للمستقبل

إذا استمرت دول الخليج في نهجها الساذج، فإن اليمن لن يكون الضحية الوحيدة. الأطماع التي تُعمي الرياض وأبوظبي عن الخطر الحوثي تُنذر بصباح كئيب تُصدح فيه "صرخة الزيف" الإيرانية، ليس فقط في صنعاء، بل في شوارع الخليج نفسه.

فالفوضى التي يُديرها التحالف اليوم قد تتحول إلى طوفان لا يُمكن السيطرة عليه، كما حذّر تقرير مركز صنعاء (2023) من أن استمرار التشرذم في اليمن يُعزز نفوذ إيران ووكلائها.

تاريخيًا، ليست هذه سابقة غريبة. في أفغانستان، تفاوضت الولايات المتحدة مع طالبان منذ 2018، ليُصبحوا شركاء في حكومة كابول، كما وثّقت الجارديان. في اليمن، قد لا نكون بعيدين عن رؤية قادة حوثيين في مؤتمرات أممية، يُلقون خطابات السلام بينما تُحلّق طائراتهم المسيّرة فوق الخليج. هذا ليس خيالًا، بل واقع يُصنعه الغباء السياسي الذي يُفضل تقسيم الغنيمة على إخماد الحريق.

- دعوة إلى اليقظة: مشروع نهضوي أم الغرق في الفوضى؟

إلى السعودية، الدولة العربية الكبرى التي تحمل على عاتقها مسؤولية تاريخية، وإلى دول الخليج التي تقاسمها هذا المصير: الجسد العربي اليوم مُهلهل، تُمزقه مشاريع إقليمية غير عربية من كل الاتجاهات.

إيران تُحكم قبضتها على اليمن عبر الحوثيين، امتدت أذرعها سابقًا إلى العراق وسوريا ولبنان. إسرائيل تُوسع نفوذها في السودان وليبيا وسوريا ولبنان، مُستغلة الفوضى لتثبيت أقدامها. تركيا تتغلغل في سوريا وليبيا والقرن الأفريقي، مُستغلة الفراغ العربي لفرض أجندتها. ومصر تُحاصر من كل الاتجاهات بمشاريع غير عربية. والخليج، الذي باتت خاصراته مُحاصرة من كل جانب، لا يزال يُراهن على أطماعه القصيرة النظر بدلًا من مواجهة هذا الطوفان.

اليمن ليس سوى مرآة تعكس هذا التشرذم، لكنه أيضًا فرصة لليقظة. إن السعودية، بثقلها السياسي والاقتصادي، قادرة على قيادة مشروع نهضوي عربي يُوحّد الكفاءات والإرادات، يُعيد بناء الجسد العربي بعيدًا عن التوجسات البالية. هذا المشروع ليس حلمًا طوباويًا، بل ضرورة وجودية لمواجهة المشاريع الإقليمية التي تُحيط بالخليج من كل جانب. يتطلب ذلك إعادة ترتيب الأولويات: بدلًا من إطالة الصراع في اليمن، يجب دعم مشروع وطني جامع يُنهي الفوضى. بدلًا من تقسيم الكعكة، يجب بناء جسور مع الشعوب العربية من العراق إلى مصر، التي تواجه اليوم مؤامرات تُحاك ضدها من كل الاتجاهات.

لكن، إذا استمر الخليج في تغليف أوهامه بأحلام التوسع، فإن المآلات ستكون كارثية. اليمن، الذي يُباع اليوم على طاولات التفاوض، لن يكون الضحية الأخيرة. من العراق إلى سوريا إلى لبنان مرورًا بالسودان وليبيا والقرن الأفريقي تتسلل أيادٍ غير عربية لبسط نفوذها ودعم مشاريعها التوسعية في المنطقة، وصولًا إلى مصر عمود الخيمة العربية، التي تُحاك ضدها كل هذه المؤامرات، وإذا ما وقعت، فسيصحو الخليج في صباح يوم كئيب على "صرخة الزيف" الإيرانية، تُصدح بها حناجر المليشيات في شوارع الرياض وأبوظبي. ساعتها، لن يجد من يبكيه، ولن يكون هناك مجال للندم أو العتاب.

------
المصادر:
• رويترز: هجمات الحوثيين على السفن (نوفمبر 2023)، تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية (يناير 2024)، اتفاق بكين (مارس 2023).
• بي بي سي: مفاوضات الحوثيين في مسقط (يوليو 2024).
• الجارديان: دعم الإمارات للمجلس الانتقالي الجنوبي (2024)، مفاوضات طالبان في الدوحة (2018-2021).
• تقرير الأمم المتحدة (2024): دعم إيران بالصواريخ، نفوذ الإمارات في الساحل الغربي.
• مركز صنعاء للدراسات: الإستراتيجية السعودية في اليمن (2023)، إزاحة هادي (2022).
• معهد بروكينغز: دمج الحوثيين في التسوية السياسية (2023).
• مجموعة الأزمات الدولية (ICG): إشراك الحوثيين في الحوار (يناير 2025).
• الإشارات إلى نفوذ إسرائيل وتركيا في سوريا ولبنان تستند إلى تقارير إعلامية وتحليلات سياسية للأوضاع الإقليمية (2024-2025).

مقالات

قيادة منذورة للفشل

التفاصيل، التي أحيطت بتشكيل مجلس الثمانية بقيادة رشاد العليمي في أبريل 2022، كانت من بدايتها غير قابلة للحلول على الأرض.

مقالات

التاريخ وهو يكرر نفسه

روى ابن سعد في طبقاته خمسة مواقف، واقف فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفراداً في منتهى الغباء، وكان كُلَّما فطن إلى غباء إضافي في الغبي يستغرب فكرة الغباء في الناس، وما لقى غبياً تحدّث إليه إلاَّ وختم موقفه معه قائلاً: "سبحان الله إنَّ خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد"، وهذا القول من البراهين الكثيرة على دهاء عمرو بن العاص، وسرعة بديهته، وتقديره عواقب الأمور متى اتصف بأنَّه "ولاَّج فرَّاج"، لا يقف على باب غضبه

مقالات

مأرب.. عمود الجمهورية وكابوس السلالة الأبدي

حينما غرقت المدن في سُبات الهزيمة، كانت مأرب المدينة التي لم تستسلم لمراسم الانطفاء. تقاوم لا لأنها أقوى عتاداً أو أوسع عدّة، بل لأنها مشيَّدة من الإرادة، مصنوعة من جوهر الحُرية، ومدفوعة برغبة غامضة لا تفهمها جيوش الغزاة: الرَّغبة في البقاء ككائنات حُرة فوق هذه الأرض.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.