مقالات
الإنسان حيث هو قوي وملهم
تكثر في رمضان، وتتعدد البرامج والمسلسلات الموسمية المتشابهة التي تعرضها القنوات الفضائية اليمنية، التي تبُّث من داخل اليمن أو خارجها، التي دأبت مع كل موسم استجلاب المشاهد إلى حالات ترفيه مؤقت، يغلب عليها طابع التهريج الكوميدي غالباً.
قليلة جداً هي المواضيع الجادة، التي تقاربها صناعة الدراما في المسلسلات الرمضانية، وكذا البرامج التي تنتج خارج الدراما لعرضها في هذا الشهر؛ فتطغى عليها هي الأخرى الخصوصية الرمضانية ومسحات التدين المؤقت، لهذا تندر تماماً البرامج الجادة التي تتحسس قضايا المجتمع وقصصه الملهمة القادرة على خلق النموذج المختلف خارج موضوعات الشفقة والتفضُّل الاجتماعي.
وحده برنامج "حيث الإنسان"، الذي تبثه قناة "بلقيس" للموسم الخامس على التوالي، بدعم من مؤسسة "توكل كرمان"، الذي كسر هذه القاعدة، وذهب عميقاً هذه المرة إلى حيث الابتكار وتجاوز المكبِّلات التي تفرضها قسوة المجتمع وظروف الحرب والتشظي والإفقار.
القصص التي قدمها وعرضها البرنامج كثيرة، وستفرض على كل محاولة في هذا الطريق كتابة متصلة ولا نهائية، ليس لجهة الموضوعات المثارة، وإنما للأفكار التي تلهم الكاتب أشياء قد لا يستطيع مطاردتها والإمساك بها في المشاهدة والتتبع.
مثلاً: ذوو الاحتياجات الخاصة (المعاقون) في اليمن، بفعل ظروف الحرب والحوادث وانعدام الرعاية الصحية المبكرة، صاروا شريحة كبيرة، ينظر إليها في كثير من الحالات بوصفها عبئاً مجتمعياً كبيراً داخل الأسرة وخارجها، لهذا فأي خطوة لكسر هذا النسق بحاجة إلى روح المبادرة الإيجابية التي تحوّل حالة الإذعان والرضوخ والاستكانة إلى طاقة منتجة خلاقة.
في أكثر من حلقة استطاع البرنامج أن يصل إلى قلب هذه المبادرات؛ للكشف عنها ودعمها، وتتوقف هنا عند أكثر من حالة جماعية وفردية، وفي أكثر من محافظة، وفي الأولى (الجماعية) تتكثف في مؤسسة بمأرب أسسها مجموعة من المعاقين، بهدف تفجير الطاقات الكامنة في منتسبيها.
فبواسطة مؤسسة تحمل اسماً تفاؤلياً (الأمل) ينطلق أعضاؤها من قيمة تَحَقُق وجودي وهو "الوقوف من جديد"، والوقوف هنا ليس ذلك المفترض الفيزيقي لوقوق الشخص المعاق على قدميه، وإنما (رسالة الكبرى) في تحوّل هذه الفئة الهشَّة والضعيفة إلى فئة منتجة وغير متّكلة على غيرها، من خلال اكتساب الخبرات المهنية، التي يحتاجها سوق العمل، وتتيح لهؤلاء الانخراط فيها دون انتظار حسنات أسرهم والمجتمع الذي ينظر إليهم بعين الشفقة.
أكثر من أربعين برنامجاً نفذته هذه المؤسسة لمنتسبيها ولغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين)؛ في التدريب والتأهيل وتعلُم اللغات والصيانة وغيرها، غير أن ارتفاع الإيجارات وقلة الدعم فرضت على إدارة المؤسسة تقليص نشاطها والعمل في شقة ضيقة لا تتناسب وخصوصية حركة الأعضاء، فجاء البرنامج ليحيي الأمل من جديد، حين نفذ مشروع بناء مركز تأهيل؛ مكونا من ثلاث قاعات وملحقاتها، ليكون بذلك أول مركز متخصص لذوي الاحتياجات الخاصة، يقدم خدمات التدريب والتأهيل والاستشارات لقرابة 800 شخص.
في المسار ذاته، وفي عاصمة محافظة حضرموت المكلا، هناك جمعية تُعنى بالأطفال الذين يعانون من مرض التوحّد، تأسست قبل قرابة عقد من الزمن بمبادرات فردية من بعض أسر الأطفال المصابين، ومارست أنشطتها في شقة ضيِّقة ليس فيها صالات ألعاب يستطيع الأطفال من خلالها تفريغ طاقتهم المكبوتة، فكثر خوف الأسر على أطفالها من مكوثهم في مكان ضيق ومزدحم. وصل البرنامج إلى حيث هم، وقام بإنشاء صالة للألعاب الرياضية، وتجهيزها بكل المستلزمات، حتى يجد الأطفال المستهدفون مساحة للتنفيس الإيجابي. وفي مدينة عدن، أسست مجموعة من الفتيات مبادرة للاعتناء بضعيفات السمع، فصرن يعلمن الأهالي لغة جديدة بعد أن تدخل البرنامج لدعم مبادراتهن الملهمة.
هذه بعض المبادرات الجماعية المدعومة من البرنامج لهذه الفئة، أما المبادرات الفردية فكثيرة، ومنها دعم لطيفة في الضالع، التي استطاعت التغلب على إعاقتها بمواصلة التعليم في ظرف شديد القسوة، واستطاعت التخصص بمجال المختبرات الطبية، وحين أرادت العمل في المشافي لم تستطع، فعملت بوظيفة بدون أجر، وحين اشتدت عليها الظروف اختارت المكوث في المنزل حتى وصل إليها البرنامج لينتشلها، وينتشل أسرتها من وضعها الاقتصادي الصعب، بمنحها مختبراً طبياً مجهزاً.
في لحج، التفت البرنامج إلى مزارع كفيف اسمه فارس، وقام بتزويده بمعدات خاصة، ومنها منظومة ري تعمل بالطاقة الشمسية، بعد أن كانت أرضه ستصبح بوراً بسبب ارتفاع تكاليف الوقود، ومدخلات الإنتاج، وهجرة العمال.
وفي عدن، كان وجدي -المصاب بشلل الأطفال- يملك سيارة، ويعمل عليها كسائق أجرة، بعد أن رفضت الجهات الحكومية توظيفه، واضطر إلى بيع سيارته لدفع تكاليف عملية ولادة قيصرية لزوجته، فتوقف مصدر دخله. تعرّف البرنامج على قصته، وقرر تحقيق حلمه عبر منحه "باصا" جديدا؛ ليقف من جديد على قدميه.
هذه بعض نماذج الدعم التي قدمها برنامج "حيث الإنسان" لفئة ضعيفة في المجتمع، لم تزل تعاني من تنمرات المجتمع التي تصل أحيانا إلى حد الفجاجة العنصرية.
أما قصص التعليم، التي عرضها البرنامج عديدة، ومنها إنشاء مدرسة مكونة من ثلاثة طوابق واثني عشر فصلاً في منطقة الأقروض بمديرية المسراخ في تعز بمساحة كانت سابقاُ مزروعة بنبتة "القات"، وسيستفيد من خدمات المدرسة التعليمية 5 قرى و4 آلاف طالب وطالبة، بعد حرمانهم لعقود وسنوات من خدمة التعليم، بسبب بُعد المنطقة عن مراكز الخدمات. وإنشاء مدرسة أخرى في قرية نائية اسمها "امقاضاه" -تبعد حوالي سبعين كيلو متراً عن مركز محافظة شبوة- مكونة من ستة فصول؛ على أنقاض عشش صغيرة ومتهالكة كان يدرس بها تلاميذ القرية في ظروف شديدة القسوة؛ بسبب تقلب الطقس والمناح ووعورة الطرق إلى المدرسة.
وفي مخيم للنازحين في منطقة مريمة بسيئون، قام البرنامج ببناء مركز تعليمي لمحو أمية الكثير من النازحات، بعد أن كن يتلقين تعليماً متواضعاً في إحدى الخيام بواسطة نازحة من مدينة الحديدة، أخذت على عاتقها حمل هذه الرسالة منذ كانت تقيم في مسقط رأسها، غرب اليمن.
في التفاتته الأخرى، هناك العديد من القصص الملهمة، ومنها فتح نافذة أمل لسجناء إحدى الإصلاحيات في حضرموت، عبر مشروع إنشاء فرن لصناعة الخبر والمعجنات، وتزويده بكافة المستلزمات، وتزويد السجناء الراغبين بالعمل فيه بالأدوات اللازمة بعد تدريبهم، وكل ذلك من أجل تعميم الفائدة على الإصلاحية والمساجين بتمكينهم من الحصول على عوائد مالية تعينهم على ظروف السجن.
أيضا، دعم صيادين وغواصين في سقطرى وعدن بقوارب صيد مجهزة بكل الأدوات.. ففي منطقة نوجذ في الجزيرة تعرّف البرنامج على إبراهيم وقصة كفاحه، حيث تعلّم الرجل الصيد منذ كان في العاشرة من عمره؛ بهدف مساعدة والده، ومنذ ذلك الحين يعمل صياداً بدون قارب، ويعيل أسرة كبيرة، ولسنوات عديدة ظل يحلم بامتلاك قارب صيد يعينه على مشاق الحياة، وهو ما كان فعلاً بواسطة البرنامج.
وفي منطقة "فقم" بعدن، هناك الغواص جلاء علي، الذي تعلم الغوص ودرب الكثيرين عليه، ثم احتراف الصيد مثل جميع سكان المنطقة الساحلية لسنين طويلة، دون أن يمتلك قارباً؛ ظل يحلم به طويلاً حتى وصل البرنامج وحقق حلمه بشراء قارب صيد مزوّد بمستلزمات الصيد والغوص.
هذه إطلالة على محتوى برنامج مختلف وملهم اسمه "حيث الإنسان"، ويتوجب أيضاً توجيه التحية لفريقه الميداني والإعلامي، وقبل ذلك لمؤسسته الراعية.