مقالات
البيريسترويكا الترامبية: سقوط الإمبراطورية من الداخل
حينما أطلق ميخائيل غورباتشوف مشروعه الإصلاحي الشهير في أواخر ثمانينات القرن الماضي، تحت شعار "البيريسترويكا"، كان يأمل أن ينقذ الاتحاد السوفيتي من التراجع الاقتصادي والسياسي. لكنه، دون أن يدري، فتح الأبواب لانهيار شامل أطاح بمنظومة استمرت سبعين عامًا.
اليوم، وبعد أربعة عقود، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بشكل ساخر وعنيف. الولايات المتحدة، التي خرجت منتصرة من الحرب الباردة، تجد نفسها أمام ما يشبه "البيريسترويكا الترامبية": تفكك بطيء وتخريب منظم للقيم الديمقراطية مدفوع بانقسامات داخلية، واضطرابات خارجية.
إنها عملية تفكك بطيئة، لا تقل درامية عن ما حدث في موسكو... انقسام سياسي حاد، تضخم يضرب الأسر المتوسطة بنسبة 6.2% في 2025 (حسب مكتب إحصاءات العمل الأمريكي)، وتصاعد التطرف المحلي كتهديد أمني رئيسي (حسب تقرير وزارة الأمن الداخلي فبراير 2025). فهل نحن أمام سقوط إمبراطورية عظمى... من الداخل؟
- أولاً: تشابهات تاريخية - من غورباتشوف إلى ترامب
البيريسترويكا السوفيتية: إصلاح أدى إلى الانهيار
أراد غورباتشوف تحديث النظام السوفيتي المتكلس عبر "البيريسترويكا" (إصلاح اقتصادي) و"الغلاسنوست" (انفتاح سياسي)، لكن المؤسسات كانت متآكلة، والاقتصاد في احتضار، والشعوب فقدت الثقة. تعمقت الفوضى، وانفصلت الجمهوريات، وانهار الاتحاد السوفيتي عام 1991.
- أمريكا في المرآة المعكوسة
ما تعيشه أمريكا اليوم يحمل ملامح مشابهة:
مؤسسات ديمقراطية مشلولة، حيث يعتقد 62% من الأمريكيين أن النظام لا يخدمهم، و28% فقط يثقون بالمحكمة العليا (حسب مركز بيو للأبحاث 2024).
اقتصاد متعثر مع تضخم يضرب الطبقات الوسطى بنسبة 6.2% في 2025 (حسب مكتب إحصاءات العمل الأمريكي).
تصاعد النزعات القومية والشك في شرعية الدولة، مع احتجاجات طلابية مؤيدة لفلسطين مكبوتة بتُهم مثل "معاداة السامية" (وفق تقرير الجزيرة -أبريل 2025).
الأسباب التي أسقطت السوفييت تتكرر، لكن بلغة ديمقراطية ورأسمالية.
- ثانيًا: الترامبية كنموذج للتخريب المنظم
الترامبية: إيديولوجيا التخريب ومنطق الصدمة
الترامبية ليست موجة انتخابية، بل مشروع تخريب منظم يعيد تشكيل أمريكا عبر الهدم:
• شعار "أمريكا أولًا" ترجم إلى انسحاب من اتفاق باريس للمناخ في يناير 2025 (حسب واشنطن بوست)، وإيقاف تمويل منظمة الصحة العالمية (وفق دويتشه فيله).
• خطاب عدائي ضد الإعلام والقضاء، مع أوامر تنفيذية قلّصت سلطة القضاة الفيدراليين في فبراير 2025 (حسب الجمعية الأمريكية للمحامين).
• تسييس الدين، مثل ظهور وزير الخارجية الأمريكي يضع رسم صليب على جبينه في خطاب عام، مما يعزز الروايات الشعبوية المحافظة.
• تعميق الانقسام العِرقي والسياسي، حيث يفضّل 43% من الجمهوريين قائدًا قويًا لا يخضع للانتخابات (وفق مركز بيو للأبحاث 2024).
ترامب حطم الأعراف السياسية، وزرع الشك في كل شيء باستثناء سلطته.
- آثارها على الداخل الأمريكي
• تصاعد العنف السياسي، من محاولة 6 يناير 2021 إلى حوادث استهداف مبانٍ حكومية (وفق تقرير وزارة الأمن الداخلي فبراير 2025).
• انقسام إيديولوجي عميق، مع انخفاض الثقة في الانتخابات والقضاء.
• إضرابات غير مسبوقة في قطاع صناعة السيارات، وفي التعليم، وصفت بأكبر موجة منذ عقود (حسب سي إن إن -4 مارس 2025).
آثارها على النظام الدولي
• إضعاف الناتو، مع تهديدات بإعادة تقييم الالتزامات (وفق مراقبة الناتو فبراير 2025).
• تراجع ثقة الحلفاء إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية (حسب ذي إيكونوميست -يناير 2025).
• تمكين خصوم مثل روسيا والصين، مع توسع نفوذهما في الشرق الأوسط.
- ثالثًا: الثمار المُرّة... حين ينضج الخراب
كساد اقتصادي واضطراب اجتماعي
• التضخم بلغ 6.2% في 2025، مضغوطًا على الأسر المتوسطة (حسب مكتب إحصاءات العمل الأمريكي).
• إفلاس الشركات الصغيرة ارتفع 17% مقارنة بـ2024 (وفق غرفة التجارة الأمريكية).
• إضرابات في السيارات والتعليم اجتاحت أمريكا، وصفت بأكبر موجة منذ عقود (حسب سي إن إن -4 مارس 2025).
- تآكل صورة أمريكا
• دعم أمريكا لإسرائيل في صراع غزة، 2024–2025، رغم اتهامات بالإبادة، كشف ازدواجية مفضوحة في خطابها الحقوقي (وفق تشاتام هاوس 2025).
• تردد في مواجهة النفوذ الصيني والروسي، مع تراجع دورها القيادي عالميًا.
هذه الوقائع تؤكد أن أمريكا تفقد تماسكها وقدرتها على قيادة العالم.
إلى أين تمضي الإمبراطورية؟
لم يعد السؤال: "هل ستسقط أمريكا؟"، بل أصبح: "كيف، ومتى، وبأي ثمن؟".
البيريسترويكا الترامبية لم تبدأ بخطاب إصلاحي كما فعل غورباتشوف، بل بخطاب صدمة، يهدم الأعراف لصالح نخبة تدعم رؤية قومية ضيقة.
لكن، كما سقط الاتحاد السوفيتي على يد تناقضاته، تسير أمريكا على خطى مشابهة، في عالم أكثر تعقيدًا وشعوب أقل صبرًا.
التاريخ لا يرحم الإمبراطوريات التي تعتقد أنها خالدة. والترامبية، بما هي عليه، ليست بداية الانحدار... بل ربما ذروته.