مقالات
"التحرير" بين زمنين أفتكهما زمن الجوع والعزلة!! (1-2)
وجدته بعد سنوات طويلة؛ لم يزل يحتفظ ببقايا من الملامح التي بقيت منقوشة في ذاكرتي عنه، لكنه صار مهدوداً تماماً، ومهنة غسيل السيارات، التي كان يزاولها بكل نشاط في ميدان التحرير مطلع الألفية، صارت ذكرى من الماضي -كما قال- فلم يعد هناك من يطلب منه أن يعتني بسيارته من موظفي البنك والمؤسسات القريبة، كما كان الحال قبل سنين كثيرة، وأنه صار يقتات من الحسنات القليلة التي يتفضّل بها بعض معارفه القدامى.
الأمراض العديدة فتكت به مع تقدّمه في السن، ولا يستطيع دفع أكلاف علاجاتها الباهظة.
أثناء حديثه المؤلم كانت تحضر في ذهني صورة ميدان التحرير، ومحيطه في تلك الفترة التي كانت فيها يداه السمراوان لا تكلان من غسيل السيارات الواقفة في مكان مزدحم وحيوي في مربّع به ثلاثة أكشاك لبيع الصحف مزدحمة بجمهور القراءة ومتصفحي العناوين. وبه عشرات المصورين الذين يلتقطون الصور التذكارية لمن يرغب من الريفيين وزوَّار العاصمة لتوثيق هذه اللحظات الحميمية مع الصقور والخيول وبرج الاتصالات الحجري.. كان معمل التصوير القريب (معمل زبارة) لا يتوقّف لحظة عن إخراج الصُّور على كروت خاصة تحمل شعار المعمل.
كانت نافورة التحرير البديعة بقاعدتها وأحواضها الدائرية المنقوشة بالرخام (القيشائي) السماوي والنصب التذكاري لمارد الثورة على قاعدته الرخامية البيضاء من المعالم الحيوية للمكان، ومكان محبب للمتنزهين الراغبين في التقاط الصور بجوارهما، أو التسكع والجلوس على المقاعد الإسمنتية، وحواف الأحواض بجوار الأشجار وفوق العشب الندي.
عملاء البنك اليمني العتيد تضج بهم ردهات المبنى بتصميمه المميز، إما مودعين لأموال أو ساحبين، وبعضهم يتابع ضمانات بنكية خاصة بمقاولين لتنفيذ مشاريع، أو فتح اعتمادات لاستيراد سلع لوكاء محليين من التجار ورجال الأعمال.
كانت هنا مكاتب وزارة التربية والتعليم القديمة، المكتظة بالموظفين والمراجعين من المدرِّسين والموجِّهين وأولياء الأمور ومدراء المناطق والمراكز التعليمية، الذين يشكِّلون مجتمعين شريحة خاصة في المجتمع.
محلات التصوير، والنسخ الفوتوكوبي للوثائق والمستندات، لا تتوقف آلاتها عن العمل، وأقلام كتاب العرائض جوار قبة المتوكل لا تكل من تجويد ديباجات المتظلّمين ومقدّمي الشكاوى للجهات القضائية، أو مسؤولي المؤسسات وغيرها.
شارع المطاعم (شاهر الله يرزقه) كان أشبه بكرنفال ألوان لملبوسات مرتاديه الذين ينتمون لكل مناطق اليمن، وخليط متشعّب من اللهجات اليمنية المحببة. وروائح الطبخ والقلي والشاهي المخلوطة بأصوات "الدوافيروالكوانين" وعمّال المطاعم والمقاهي. كان لأهل عدن في الشارع زقاقهم المحبب، حيث الشاهي العدني والتنمبل.
الفنادق واللوكندات الشعبية المتناثرة في الجوار مزدحمة بالنزلاء الذين جاؤوا إلى العاصمة لقضاء حوائجهم وأعمالهم، وفي الغالب مرجعاتهم في الدوائر الحكومية.
كان رياضيو اليمن يؤثثون المكان بحضورهم المختلف والصاخب، ومشجعو الأندية والفٓرق الرياضية يحولون أوقات ما بعد المباريات، التي تقام على الأرضية الترابية لملعب الظرافي القريب إلى هوس محبب، وهم يتجادلون ويتناقشون، ويحللون المباريات على طاولات المقاهي والمطاعم.
سوق "باب السبح"، القريب من ميدان التحرير، كان واجهة مفضّلة للمتسوّقين الباحثين عن أسعار تفاضلية للخضروات والفواكه واللحوم، وحتى الوجبات الشعبية التي يشتهر بها السوق، مثل البُرعي والكباب، لهذا كان مزدحماً على الدوام في كل النهارات، مثله مثل محلات الذهب في الشارع الموازي للسوق، أو ما يُعرف بشارع "الدَّفعي".
المتاحف المنتشرة في أنحاء الميدان (المتحف الوطني والمتحف الحربي، ومتحف الموروث الشعبي)، كانت هي الأخرى مزدحمة بالزوّار وطلاب المدارس الذين تحملهم باصات في رحلات تعريفية وتعليمية عن تاريخ اليمن وإرثه الحضاري في الأيام الدراسية.
مكتب البريد القريب كان هو الآخر مزدحماً بالبشر، فهنا طابور استلام المعاشات الشهرية والتقاعدية، وهناك طابور تسديد فواتير الهاتف والكهرباء والماء، وأشخاص واقفون على شبابيك تتيح لهم إرسال جوابات ومراسيل إلى خارج اليمن، أو يسالون عن طرود أُرسلت على صناديق، ومنهم من يبحث عن بائع الطوابع والتذكارات الورقية.
كانت الكتب والمطبوعات القديمة، التي يتخلص منها أصحابها لأسباب مختلفة، تُعرض على أرصفة الحديقة الشرقية وفوتبات شارع القيادة تجتذب إليها عشرات المثقفين والباحثين وهواة القراءة، وإلى جوار باعتها يحضر بائعو الكتب المدرسة، التي تختفي من المدارس ومخازن التربية لتظهر في أرصفة التحرير.
مجلس النواب القريب، والقصر الجمهوري، ومكتب رئاسة الجمهورية، كانت مقصداً لمئات المراجعين والمسؤولين الذين يجوبون الشوارع الضيِّقة بسياراتهم الفارهة المملوءة بالمرافقين للوصول إلى هذه الدوائر الصعبة من منافذ ضيّقة، تشتبك كلها بالميدان الذي صار أشبه برئة خرافية تتنفس بواسطته المدينة.
مبنى دائرة التوجيه المعنوي بمطابعه الحديثة ومخازنه و"حمًّامه الرئاسي" وسجنه الخاص، الذي يستخدم لمعاقبة صحفيي الدائرة وجنودها، كان أحد عناوين المنطقة بكثرة الداخلين والخارجين المحمّلين بمطبوعات الدائرة، والإعاشات الغذائية التي تصرف للمقرّبين.
المبنى القديم لصحيفة الثورة، يستقبل طوال ساعات النهار الراغبين بنشر إعلاناتهم الصغيرة بشأن مفقودات خاصة وأحكام قضائية وتهانٍ وتعازٍ، وكذا الباحثين عن أعداد قديمة من الجريدة.
المحلات التجارية والمعارض الراقية، التي تعرض بضاعاتها الأصلية من الملابس والأحذية والعطور والساعات (مثل اتحاد الساعات السويسرية والخرباش والفصول الأربعة ومحلات أبو توفيق وملكة سبأ وحديث المدينة والرويشان و.. و..) تتجاور مع محلات شعبية تعرض البضائع والمنتجات المقلّدة في شوارع "علي عبد المغني، القصر، وجمال عبد الناصر".
نفق أرضي شُيِد بين الحديقة ومدخل باب السبح لعبور المشاة بمنافذ متعددة في الاتجاهين، واحتوى على محلات تجارية، وكان الغرض منه تخفيف زحمة المشاة في المنطقة الحيوية الأبرز في العاصمة.
كان يفترش أرصفة شارع علي عبد المغني الكثير من باعة الملابس المستخدمة (البالية) التي لم تزل تحتفظ ببعض جودتها وعلاماتها التجارية الشهيرة، التي تُستقدم من دول أوروبية وآسيوية، ويترقّب نزولها الكثير من أصحاب الخِبرة في الملابس الأنيقة (الصوفية والجلدية والقماشية)، ليكتسون بها.
في أركان ساحة الميدان الإسفلتية (موقف السيارات) كان باستطاعتك مشاهدة تجمّعات من الأشخاص (أصدقاء، معارف غالبا)، الذين يفترشون حصائر بلاستيكية وكراتين، ويقعدون لساعات طويلة يتجادلون ويتحاورون في قضايا الساعة من الرياضة إلى السياسة بأصوات مرتفعة، وبدون محاذير تقريباً.
( يتبع)