مقالات
"التحرير" بين زمنين أفتكهما زمن الجوع والعزلة!! (2-2)
صور التحرير اليوم:
كشكان بائسان، تم نقل أحدهما إلى مكان خلفي لا يستدل عليه بسهولة، بعد أن كان متصدّراً في المدخل الجنوبي للحديقة، وعنواناً بارزاً لها، وصار اليوم يُعرض كتبا ودوريات قديمة منزوعة الأغلفة، ويُعرض بعض المواد القرطاسية من أقلام ودفاتر وملازم تعليمية. أما الكشك الثاني فلم يزل قائماً في الرُّكن الشمالي لمبنى المواصلات، وهو الآخر تحوّل إلى عرض المستلزمات المدرسية، وبعض الدوريات القديمة.. لم يعد جمهور القراءة يتجمّع أمامهما، لأنه ببساطة لم يعد ما يثير انتباهه من المعروضات، بما فيها الصحف التي يصدرها الحوثيون، وتلك الموالية لهم، ويلزم الكشكان بعرضها، وفي الغالب تعود إلى موزعيها كاملة في صباح اليوم التالي.
خيمة بيضاء نصبها الحوثيون في مدخل الحديقة الشمالي، ووضعوا عليها ميكرفونات تبث "زواملهم"، وموادهم الدعائية، وتستوعب معارضهم في المناسبات التي يحيونها. هذه الخيمة ضيَّقت على المصوِّرين بخيولهم الشاحبة، وكاميراتهم القديمة، الذين يظلون طول النهار يبحثون عن راغبين في أخذ صور خاصة، كما كانوا يفعلون في السنوات الماضية.. ويفضّل الراغبون، عوضاً عن هذه العروض، التقاط الصور باستخدام كاميرات هواتفهم الشخصية، ودفع مبالغ صغيرة في حال استحسنوا إغراءات ركوب الخيول العجفاء أو الإمساك بالصقور الهرمة.
معمل زبارة مغلق من سنوات، وصاحبه توفي من سنتين تقريبا، وصار هناك معمل متقدّم في أطراف الميدان، ليس بحميمية معمل الأمس ورُخص أسعاره، لهذا يقوم المصوّرون الجائلون بطبع صور الزبائن الريفيين والمتنزّهين الفقراء، الذين يقعون في شباكهم، على كروت رديئة عبر الآت طبع ملوّنة سريعة موضوعة بباب الخيمة.
نافورة التحرير برخامها السماوي، المحفور في ذاكرة الميدان، صارت اليوم مشوّهة باستحداث عوارض حديدية متداخلة بشكل عشوائي ليس بها أي لمسة جمالية، وضعت في فضائها من أجل عرض مجسّمات لمسيَّرات حربية، وحين يرغبون بتشغيل مضخات المياه في المناسبات لدفع المياه إلى الأعلى يكونون قد أغرقوها باللون الأخضر، الذي حوَّل لون الأحواض إلى حالة طحلبية زلقة.
لم تعد الحديقة تجذب المتنزّهين، بل صارت مأوًى للمتشرّدين والمختلين، الذين حوّلوا المنافذ الداخلية والممرات إلى حمامات مكشوفة للإفراغ الآدمي، تنبعث منها روائح كريهة، وخصوصاً في المساحة المحيطة بما يُعرف بنصب مارد الثورة، الذي انتهى عملياً بنقل الدبابة العتيقة فوهتها المصوبة نحو دار آخر أئمة اليمن (محمد البدر) من موضعها إلى أحد المعسكرات للقضاء على الرمزية الجمهورية، التي كانت تشير إليها الفوهة، والموضع الذي يُقال إنها صوبت منه أول قذائفها ليلة ثورة سبتمبر نحو الدار الكائنة في المدخل الشرقي لحي بئر العزب.
لم يزل مبنى البنك اليمني معلَماً من معالم ميدان التحرير بطرازه المميّز يُقاوم عمليات التجريف التي طالت الجهاز المصرفي، وتوجيه وظائف الجهاز إلى شبكة الصيارفة التي استنبتت لتأدية وظائف أخرى تخدم افتصاد الحرب والمستنفعين من هذه الدورة من الأفراد والجماعات، التي لا تخدمها عملية السلام.
صحيح أن البنك لم يعد بحيوية الأيام الخوالى، فلم يعد مزدحماً إلاَّ بأولئك النفر القليل من العملاء القدماء الذين ارتبطوا وجدانياً به، ولم يزالوا يجدون في البنك مكاناً آمناً لحفظ مدّخراتهم القليلة.
بعدما تم نُقل مقر ديوان وزارة التربية والتعليم في العام 2007 من المباني العتيقة القريبة من الميدان إلى مباني هيئة المعاهد العلمية في منطقة هبرة بعد الدّمج، فقد المكان حالة حيوية كان يمثلها موظفو الديوان والمراجعون الكثر في تنقلاتهم بين المقاهي والمطاعم والمحلات. المبنى تملكته لاحقاً هيئة مكافحة الفساد والغارقة فيه أصلاً.
كان يرتص بجوار قبة المتوكل العديد من كتاب العرائض بكراسيّهم الخشبية، وطاولاتهم الصغيرة ومظلاتهم سهلة الحمل، كانوا يضعون في جيوب صدرياتهم التقليدية عديد أقلام عتيقة (باركر/ شفر)، وعلى الطاولة زجاجات حبر وأوراق بيضاء ممسوكة بمشابك معدنية، ومسطور في أعلاها كلمات البسملة بأشكال مختلفة من الخط العربي التقليدي.. ما كان يميّز الكتبة ملابسهم الدينية التقليدية، التي تُوحي لطالبي مساعدتهم من الريفيين في كتابة عرائضهم بأنهم قُضاة.. اليوم لم يعد أحد من هؤلاء في الموضع، وصارت المحلات المتناثرة على حواف الميدان والخاصة بالطباعة على أجهزة الكومبيوتر تقوم بهذه المهمة غير الشاقّة من وجهة نظر أصحاب الحاجة.
صحيح أن شارع المطاعم لم يزل مزدحماً ووجهة مفضّلة للكثيرين لتناول الوجبات الشعبية المختلفة ولقاءات الأصدقاء، ولم تزل أصوات "الدوافير والكوانين" وعمل المطاعم والمقاهي تُسمع، غير أننا لا نرى ذلك التنوّع المحبب من التنوّع، وبلبلة الألسن التي تحيل إلى اليمن الكبير في قلب المدينة، حتى إن أهل عدن الذي يحبّذ الكثيرون تسمية الشارع باسمهم لم يعودوا حاضرين بالكثافة ذاتها في نسيج الشارع الحيوي، بعد ترك الكثيرين للمدينة، وانكفأ البقية في مساكنهم بسبب الوضع الأمني.
لم يعد من زمن الرياضة المحببة في التحرير غير محلات الملابس والمستلزمات الرياضية، وإن الملعب الشهير، الذي كان يستقبل مباريات الأندية الحماسية في الماضي، صار اليوم مساحة ترابية جرداء تُستخدم من قِبل إدارة المرور لترقيم وتطبيع السيارات.
لم تعد زحمة باب السبح بمثل تلك الأيام الخوالي، فالركود الاقتصادي وصعوبة المعيشة بسبب انقطاع المرتّبات وانعدام الأشغال أثرت سلباً على قدرة الناس الشرائية، لهذا صار السوق أشبه بممر للعابرين بين أحياء المدينة القديمة والجديدة، وأكثرية المتسوّقين يلتقطون حاجياتهم القليلة والرخيصة من مفارش بائعي الخضروات والباعة المتنقّلين بعربياتهم في أرجاء السوق، وأن الكثير من المحلات فيه أُغلقت، وزحمة شارع الذهب هي الأخرى تلاشت إلاَّ من العابرين في الاتجاهين.
يمكن للملاحظ أن يرى مكتب البريد خاوياً تماما في أغلب الأشهر، ويزدحم مع صرف الإعانات وصدقات هيئة الزكاة وإنصاف المرتّبات على أوقات متباعدة؛ ممرات صناديق البريد الضيّقة عششت فيها العناكب واستوطنها الغبار، فلم يعد أحد يحمل مفاتيح صندوقه والذهاب إلى المبني لمتابعة الرسائل والطرود، التي صار تصل إليهم بوسائل مختلفة.
بائعو الكتب القديمة، الذين كانوا يعرضون في السُّور الشرقي للحديقة الكثير من العناوين القيمة والنادرة التي يتخلص منها أصحابها وورثتهم لأسباب متنوّعة، لم يعد لهم أثر وصار يحتل أماكنهم بائعو الكتب المدرسية، التي تختفي من المدارس ومخازن التربية لتظهر في أرصفة التحرير. مثلما لم يعد أثر حقيقي للمكتبات الرائدة في الحي مثل "الكلمة" و"الحكمة" إلا فيما تعرضه الكلمة من بقايا كتب الأمس، التي كانت تصدرها أو توزّعها.
قلّصت المحلات التجارية والمعارض الشهيرة في شارع علي عبد المغني والقصر من نشاطها الاستيرادي للسلع الأصلية، وبعضها أُغلق، أو تم تغيير نشاطها، بسبب مزاحمة السلع الرخيصة والمقلّدة، التي صار في متناول الشريحة الفقيرة الأوسع.
المحلات التجارية، التي أُنشئت أسفل نفق التحرير، أُغلقت، حتى أن النفق صار مهجوراً ولا يستخدمه المارّة، الذين يفضّلون قطع الشارع دون الحاجة إلى الهبوط ومن ثم الصعود إلى الجهة المقابلة، بسب العتمة والقاذورات والروائح الكريهة، التي تنبعث من داخله.
منذ أشهر الحرب الأولى، ظهرت أكشاك صغيرة، ومفارش على أرصفة شارع علي عبد المغني، لبيع الذخائر ومستلزمات المقاتلين الحربيين، من أحزمة وجعب ومخازن، وبعضها يحتل المواضع التي كان يستخدمها باعة الملابس المستخدمة (البالية)، الذين تلاشوا تقريباً أو غيّروا نشاطهم.
مبنى القصر الجمهوري، الذي كان تُحفة معمارية ومرموزاً جمالياً بديعاً، صار خرابة حقيقية بعد تعرّضه للقصف في ديسمبر 2017، مثله مثل مبانٍ من مكاتب الرئاسة، في الحي المقابل، لهذا لم يعد أحد من المراجعين، سواء المسؤولين أو المواطنين، يقترب من المكانين (وتحديداً من القصر الجمهوري) بسبب نقل أنشطتهما إلى أماكن سريّة، لا يُعرف مواضعها الكثير من الناس، وبقي مجلس النواب في أطراف حي بئر العزب بائساً يشكو للمارة حاله المزري.
صارت أحاديث المتجمّعين هنا وهناك في جنبات الميدان والحديقة، وعلى طاولات المطاعم والمقاهي، تتّسم بالحذر، خوفاً من وشايات المُخبرين الجدد، الذين صاروا يشكِّلون كابوساً حقيقياً للكثيرين.
هذه صورة جانبية ناقصة لحالة التحرير اليوم، بعد أن فقد حيوية الأمس القريب، فلم يعد قلباً نابضاً للعاصمة، ولا رئة يتنفّس منها اليمنيون.
فقد أضحى مكاناً متجهما، كئيباً، بارداً.. ومُرعباً لمحبّيه.