مقالات
التنوير المظلم!
هذا العنوان، الذي اخترته بشكل يبدو متناقضًا، سبق وأن تم طرحه بأشكال مختلفة في أعمال فكرية مهمّة؛ مثل الاستنارة المظلمة، وفكر حركة الاستنارة وتناقضاته، وغيرها الكثير بعناوين أخرى تناقش المضمون نفسه، ومعظمها أعمال غربية، ويهمنا منها تلك الأعمال التي فرضت نفسها في العلوم الاجتماعية للتعبير عن المدرسة النقدية ولمواجهة المدرسة الوضعية؛ مثل بعض أعمال "ماكس فيبر" عالم الاجتماع الكبير والشهير، وأعمال مدرسة فرانكفورت، وعبدالوهاب المسيري عالم الاجتماع والمفكر العربي الذي يعد ضمن هذا التيار، ولكن بتجربة لها فرادتها وتميّزها وإضافاتها.
ومن المعروف لدى الكثيرين أن معظم التيارات الفكرية المعاصرة، وابتداء من القرن التاسع عشر، بدأت أو قامت على نقد فكر عصر التنوير والحداثة بطرق مختلفة، وهو ما أدى إلى بروز تيارات ما بعد الحداثة، وكذلك مراجعة الكثير من المدارس الفكرية لمقولاتها، وأدرك أن طرح لمحة موجزة عن أسس التنوير ونقده مخاطرة ستتضمن إخلالا، ولكن لا مناص هنا من محاولة تسليط بعض الضوء لا غير.
فعقب عصر النهضة، وتحديداً في القرنين السابع والثامن عشر، أو ما تم تسميته بعصر "التنوير"، بلغت الثقة بمركزية الإنسان والثقة بالعقل ذروتها في الفكر الغربي، مع نزعة تؤكد على الاكتفاء بالعقل والعلم بعيداً عن الدِّين والغيب والقيم ثم الميتافيزيقا بمعناها العام، وبعد تلك الفترة تزايد وتعاظم نفوذ التيارالمادي، وخاصة المدرسة الوضعية، لدرجة كان فيها البعض يظن متفائلاً، مثل الوضعيين، أن الإنسان سيعرف كل شيء في الوجود قريباً، فهي مسألة وقت فقط!
وإلى جانب هؤلاء الماديين، كان بعض أنصار التيار العقلي والنقدي متفائلين أيضاً بالإنسان والضمير المشترك فينا، والقادر على توليد القيم والمشتركات مع التخفف من الدين والميتافيزيقا، أو حتى استبعادها تماماً، وبشكل يبدو متناقضا مع اتجاههم.
ولكن سرعان ما كان النقد الداخلي لهذا التصوّر هو الأشد فتكاً به، وبصورة بدأ أثرها متسارعاً حتى أصبح ذلك التفاؤل من الماضي، حيث رأى التيار المادي أن هناك تناقضا لا يمكن إغفاله في هذا التصوّر، ففي ظل عالم مادي لا يمكن أن نتحدّث سوى عن عقل مادي أيضاً خاضع لقوانين الحركة والتغير نفسها التي تسري على كل شيء، وأن التصوَّر المادي الصحيح لا يمكن أن يستثني الإنسان والعقل من مبادئه، وبالتالي لا يمكن أن يعطينا هذا العقل معرفة كلية، فهو نفسه خاضع للجزئيات، ولا يمكنه تجاوزها كما كان يزعم معظم فلاسفة التنوير، الذين افترضوا ذلك وبشكل ميتافيزيقي لا دليل مادي عليه.
ولنكون أكثر اتساقا، فلا بُد من إسقاط هذا التصوّر المتفائل وغير الصحيح عن العقل من وجهة نظرهم، والأمر نفسه ينطبق على الأخلاق، ففي ظل هذا النقد والتصوّر من الصعب أن نتحدَّث عن القيم الأخلاقية المشتركة، فالأخلاق لا تنبع من الضمير والقانون الأخلاقي المشترك بين الناس والمتعالي على الجزئيات، كما كان يقول إيمانويل كانط، وإنما لكل إنسان أو سياق حضاري، أو لغوي، أو غيره، نظرته الخاصة، وعليه هو أن يحدد أخلاقه، التي لا تكسب شرعيَّتها من منطلق كونها عامة وإنسانية، فهي ليست كذلك، ولكن يمكن فرضها، وغيرها من القيم والمعايير، عبر الإرادة أو القوة حسب نيتشه، وذلك في ظل غياب المعيار المشترك، حيث لا يوجد ما هو ثابت على الإطلاق سوى التغيّر نفسه، وأن القول بقدرة العقل على التعالي النسبي على الجزئيات تفاؤل غير مبرر ولا يتّسق مع التصوّر المادي.
وبدلاً من نسبية المعرفة في ظل الإيمان بوجود حقيقة نقترب منها، ولكن لا يمكن أن ندَّعي الوصول إليها بحكم نسبيَّتنا، أصبحت الحقيقة غير موجودة تماماً، والصواب والأخلاق الثابتة غير موجودة، فهي ليست سوى بقايا الدِّين وآثار الإله وفقاً لنيتشه أيضاً، وأن أولئك الأخلاقيين والفلاسفة العِظام من المدرسة العقلية؛ مثل ديكارت، أو النقدية مثل كانط، ليسوا سوى كهنة بالنسبة له!، بل وحتى كثير من المفكِّرين العِظام الماديين؛ أمثال كارل ماركس، لم يكونوا ماديين حقيقيين وبشكل تام، حسب هذا النقد!، بل يستبطنون ظلال الإله أحياناً!!
فماركس، الذي كان متفائلاً بقدرة الإنسان على التغيير، أو بالأصح إيمانه العميق بالإنسان وقدرته على تجاوز اغترابه عن نفسه وتحوّله إلى شيء، حسب وصف إيرك فروم له، إنما كان باعتقاده هذا، وبعد تفكيكهم له، يبدو متخلفاً وكذلك مثالياً!!
وذلك قياساً على أفكار العصر اليائسة من الإنسان والعقل، وأنه كان يحمل رؤية لا تتفق مع التصوّر الميكانيكي الوضعي المادي الذي يسود العلوم الاجتماعية والنظرة إلى الإنسان في عصرنا.
لم يكن هذا النقد لعصر التنوير والحداثة انقلاباً أو أمر مفاجئا أو موضة عابرة، وإنما كان يحمل أسسه في فكر عصر التنوير نفسه، وامتداد منطقي له، وفقاً لنقد أهم الفلاسفة الماديين التجريبيين لفكر تلك المرحلة، فما بعد الحداثة ابن شرعي وطبيعي للحداثة.
أما مدرسة فرانكفورت، التي تمثل التيار النقدي، فقد أشارت من منطلق يوافق من جهة ويختلف من جهة أخرى مع النقد السابق، مؤكدةً أن عصر الأنوار، وما ساد بعده من تفشٍ للتيار المادي والمدرسة الوضعية على حساب التيار العقلي والنقدي، إنما كان استنارة تحمل في طياتها الظلام، وأنها رفعت من شأن الإنسان والعقل بطريقة اَستبعدت القيم واختزلت العالم والإنسان في البُعد المادي، ممَّا أدى إلى اللا عقلانية بحكم طبيعة الفكر المادي نفسه وامتداده المنطقي، وتذكر كيف كان الترشيد المادي، وفقاً لماكس فيبر، عاملا مهما في تحويل المجتمعات وصنع إنسان ذي بُعد واحد حسب "هربرت ماركوز"، ثم تذكر أدبياتها أيضاً كيف أن أهم فلاسفة ما بعد الحداثة يصرون أكثر على تفكيك الفكر والفلسفة بغية التخلّص من أي آثار ميتافيزيقة من قبيل القيم والمشتركات المطلقة ومركزية الإنسان والخ من "بقايا الإله"، حتى سادت في عصرنا اتجاهات وضعتنا في عالم تسود فيه العدَمية المعرفية والأخلاقية.
والجدير بالذكر هنا، هو وجود بعض من المثقفين العرب واليمنيين ممن لا يزالون يبشِّرون بأهمية اللحاق بالغرب وحسب، وليس في كيفية الاستفادة من الغرب وبناء حداثتنا، ويرفعون شعارات القرنين السابع والثامن عشر وبثقة ذلك العصر نفسها، ويتبنّون المدرسة التجريبية والوضعية دون حتى مراجعات كبار فلاسفتها اليوم وكأن شيئاً لم يكن، فضلاً عن أولئك الداعين إلى انخراطنا في تيه ما بعد الحداثة بدلاً من أخذ العِبرة والاستفادة من التجربة الغربية والنَّظر إليها نظرة نسبية.
ومع ذلك تجدر الإشارة إلى وجود عدد كبير من مثقفينا الذين جعلهم هذا الواقع على قناعة أكثر بأهمية الجانب الخاص في تجربتنا مع الاستفادة من النموذج القدوة فقط، وليس مجرد اللحاق به.
وعلاوة على ما لذلك التيار الداعي إلى التقليد التام للغرب من مأخذ، إلا أن بعض أنصاره يزيدون الطين بلة بإضافة المزيد من الخلل إلى منهجهم الذي نظنّه مختلا، بسبب تغليب التحيّزات الخاصة على المعرفة، وقد يصل الأمر بالبعض أن لا يهتم بالأمانة في النقل!، حيث قال أحد الكُتاب المعروفين على الساحة اليمنية -في مقال له- إن بعض مفكري اليسار العربي تحوّلوا إلى رافضين بشكل كلي للحداثة الغربية بما فيها من مبادئ وتقنية أيضاً، وأنهم في هذا يسيرون بشكل حرفي خلف أطروحات مفكري وعلماء اجتماع مدرسة فرانكفورت!، واصفاً أفكارهم بالدعوة إلى ذلك، وأنها أيضاً تعد ضمن اتجاهات ما بعد الحداثة!.
وهنا تظهر بوضوح عدم دِقة هذا الطّرح، فمدرسة فرانكفورت كغيرها من المدارس الفكرية في عصرنا، التي لا يمكن أن لا تتأثر نسبياً بأفكار ما بعد الحداثة حتى بالرفض والاختلاف، وطريقة الاستجابة لبعض مبادئها الهامة، ولكنها بكل تأكيد ليست ما بعد حداثية بعدة معايير، فنقدها للحداثة عبارة عن بحث في الجذور التي أدت إلى ما بعد الحداثة ومحاولة إصلاحها وليس الدعوة إلى ما بعد الحداثة، بل تعد أهم التيارات التي تحاول إنقاذ الحداثة بإجراء تعديل تظنَّه سيصحح أسسها، وليس فقط مسارها، ويكفي لتأكيد هذا ونفي ما سواه، أن أهم فلاسفتها المعاصرين؛ وهو "يورغن هابرماس"، كتب باهتمام عن الحداثة باعتبارها مشروعا لم يستنفد كل إمكانياته.
وما تأخذه المدرسة على الغرب هو هيمنة الوضعية المادية على مختلف النواحي من السياسة، وحتى المجتمع العلمي، وهذه الوضعية هي التعبير المخلص للمادية التجريبية التي يتبنّاها خصومها هؤلاء، ويرددون مقولاتها في الغالب، وكذلك أشباههم ممن يرون الليبرالية الغربية تجسيدًا لنهاية التاريخ البشري على غرار "فوكوياما"، وأنها تكاد أو تتطابق مع قوانين الطبيعة!!
ومن المؤسف جداً وجود هذا النوع من الطرح، الذي يتغافل عن كل شيء في الغرب على مستوى الفكر والممارسات، ويستمر في تقديس بعض الشعارات، والتفكير من منطلق لا يُراعي العام والخاص في الظواهر، ولا يُراعي حتى المصالح العربية، ولعلَّ هذا يشير إلى ظلمة أشدّ يقوم بنشرها البعض باسم التنوير، وتمرير مغالطات أيديولوجية باسم المعرفة.