مقالات
الجمهورية عرش اليمن الراسخ
لقد كان التطور حليف الثورة والتغيير في اليمن، وكان حربا على منظومة الإمامة، فلقد ساعد اتصال البلد بالخارج، وكسر طوق عزلتها - رغم محدوديته على العالم - في تفكيك قواعد السلطة الإمامية، وتدمير أسسها البالية والعتيقة، والعاجزة على البقاء في مواجهة حركة التاريخ والتطور الإنساني.
فقد كشفت البعثات الطلابية المحدودة التي خرجت من الوطن، وذهبت للدراسة في دول مثل العراق، ومصر، ولبنان، منذ أواخر الثلاثينات، وخلال الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، عن صدمة حضارية لدى شباب اليمن، وفتحت عيونهم وعقولهم على المأساة التي يرزح تحت معانتها اليمنيون، والوضع الذي تعيشه بلادهم في ظل حكم الإمام يحيى، الأمر الذي دفعهم للسعي الدؤوب لإصلاح الأوضاع في وطنهم، لكنهم تعرضوا للتنكيل من قبل الإمام وزبانيته، وباءت محاولات التغيير بالفشل، وسيق شباب البلد، وخيرة أبنائه للمشانق والمقاصل، وغيبوا في السجون، وتشردوا وتشتتوا في المنافي.
وإذا كان تواصل اليمن مع الخارج من خلال البعثات الطلابية قد دفع بالشباب نحو التغيير، فإن المشاريع العمرانية التي اضطر الإمام أحمد إلى تنفيذها تحت الضربات التي تلقاها حكمه، خصوصا، بعد حركة الجيش بقيادة العقيد الثلايا عام 1955، وضغوط حركات التحرر في البلدان العربية والعالم الثالث، قد دفعته للتواصل وإقامة علاقات دبلوماسية مع بعض الدول العربية والأجنبية، وسعى من أجل ضمانة التصدي لأية محاولة تهدد نظامه، للعمل على تحديث الجيش اليمني، وتسليحه ببعض الأسلحة الحديثة، فاستقبلت اليمن حينها شحنات من الاسلحة الشرقية، اشتملت على الصواريخ والدبابات وعدد من الطائرات ومدافع مضادة للطائرات وعربات نقل ومئات الاطنان من الذخيرة، ووصل معها خبراء وفنيون عسكريون من الاتحاد السوفيتي، والدول الشرقية، منهم عدد من الطيارين، وكانت هذه الأسلحة والتعامل معها من قبل ضباط الجيش هي من أسهمت في تفجير الثورة، وعززت من عوامل نجاحها. كما بدأ العمل ببناء ميناء الحديدة، بدعم الاتحاد السوفيتي عام 1957م، والذي سهل من تواصل شمال اليمن مع الخارج، واستطاع أن يقلل من اعتماده على ميناء عدن الواقع آنذاك تحت قبضة الاستعمار البريطاني، الأمر الذي ساعد على وصول المساعدات والإمدادات الداعمة لثورة سبتمبر، وحرم أعداء الثورة من حصارها، ومثل ذلك أيضا شق طريق الحديدة – صنعاء الذي مولته ونفذته جمهورية الصين الشعبية، والذي بدء العمل فيه عام 1958، وتم الانتهاء منه قبل ثورة سبتمبر بثلاثة أشهر، فكان أحد الشرايين التي غذت ثورة سبتمبر، وساهمت في سرعة إيصال الإمدادات والتواصل بين المدن اليمنية، وفك عزلة المناطق بعضها عن بعض، والذي كانت أحد دعائم بقاء الإمامة وسلطتها.
لقد شكّل انفتاح اليمن على العالم، ووصول بعض منجزات العلم إلى البلد، وإقامة بعض المنشآت الخدمية التي اقتضتها ظروف العصر عاملاً جوهريا في تقويض منظومة الإمامة، التي أرهقت البلد أكثر مما أرهقته الآفات والمحن.
قبل قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 جرت محاولات للتغيير في منظومة الإمامة سعى لها العديد من رجال اليمن، وقادة التنوير، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، وظهرت الإمامة عصية على الإصلاح والتغيير، فبعد فشل ثورة 1948، وحركة الجيش عام 1955، تبنت تيارات التغيير والتحديث من الأجيال الشابة القيام بثورة جذرية لتغيير منظومة الحكم في اليمن، فجرى منذ منتصف الخمسينات الحديث حول فكرة إقامة نظام جمهوري، وإزالة النظام الإمامي الملكي، وكان أول من تبنى ذلك كما يؤكد المناضل محمد الفسيل هو محمد أحمد نعمان حيث "طرح فكرة الجمهورية في صحف المعارضة في عدن، وأيدها غالبية الأحرار"، وحول ذات الأمر يقول الاستاذ أحمد جابر عفيف "إن فكرة الجمهورية سادت وانتشرت بعد فشل حركة 1955، ولاسيما في صفوف الشباب من طلاب المدارس الداخلية، والمدرسة التحضيرية وبين الشباب الذين انتقلوا إلى الكلية الحربية في عام 1956".
طوال 1200 عام من حضور المذهب الزيدي، وخوضه الصراعات على السلطة في اليمن، فإنه لم يتمكن من إصلاح مواطن الخلل ومحركات الصراع والتناقض التي تعتمل في بنيته الداخلية، فبينما يدعو إلى حرية الإرادة، ومسؤولية الانسان عن أفعاله، فإنه سعى من أجل احتكار السلطة إلى تأويلات ترسخ الجبرية، باستخدام أدلة مناقضة للعقل، وللفطرة، وحرية الانسان، ولم يجرؤ أحد من رجال المذهب وعلمائه، على الاقتراب من تعديل نظامه السياسي، أو الاجتهاد في تطوير نظريته السياسية، وإن حاول بعض المجتهدين من مقاربة المسألة فإن ذلك كان يتم على استحياء، ووجل من ردة فعل الغالبية العظمى من أبناء البطنين ممن يرون أحقيتهم في الحكم، رغم المآسي والنكبات التي جرتها الرؤية السياسية للمذهب، على أصحابه، قبل خصومه، وبسبب خلل النظرية كما يقول العلامة عبدالكريم جدبان، فقد "كان التاريخ الزيدي مليئاً بالمآسي والأحداث الدامية والخراب والدمار".
لقد جاءت الجمهورية لإنقاذ اليمن من دورات الصراع العدمية على الحكم، فخلال عقود خمسة من عمرها، فإنها ما تزال تجدد نفسها، ويسعى اليمنيون تحت رايتها لإيجاد صيغة تسهل من عملية انتقال السلطة، وتغيير الحاكم بدون سفك قطرة دم واحدة، كما أعادت الجمهورية للشعب حقه في اختيار من يدير شؤون الدولة، وفرضت عدم تأبيد الحاكم، ونزعت ارتباطه بالسماء، واستمداد شرعيته منها، وربطته بالشعب.
ومهما أصاب النظام الجمهوري من اهتزازات، إلا أنه ليس بوسع أحد أن يتجاوزه، فاليمنيون لم تتمكن المذاهب المختلفة، ولا الملل والايديولوجيات أن تخلق حولها الاجماع، أو تنال الرضى الذي حاز عليه النظام الجمهوري. فالجمهورية وحدها من استطاعت أن تجعل اليمنيين يلتفون حولها، ويسيرون تحت رايتها، دون أن يتجرأ طرف على مناهضتها، والمطالبة بنظام حكم سواها.