مقالات

الحج.. ملتقى إنساني تفاعلي

15/06/2024, 14:01:07

عندما يطل علينا موسم الحج، يتزاحم التفكير والشوق والترقب في قلوب الآلاف من المسلمين حول العالم، فالحج، رحلة روحية عظيمة، تجمع بين البعد الديني والروحاني والإنساني بطريقة غامرة وفريدة.

تتمثل القيمة والمغزى الحقيقي للحج في تجسيد معانٍ عميقة وسامية، فالحج ليس مجرد رحلة جسدية إلى مكة، بل هو أيضًا رحلة روحية تسعى لتطهير النفس وتبني حالة من السكينة والاستقامة النفسية، ومحاولة تحقيق التوازن بين العبادة والتأمل والتوبة، والانغماس في روح الفضيلة والتواضع، وعيش لحظات من الخشوع والتأمل في معاني الوجود.

يتجلى الغرض الأسمى من فريضة الحج في تقريب المؤمن إلى الله عز وجل، فالمسلم عندما يبادر إلى أداء هذه الفريضة، يترك وراءه كل ما يشغله في الدنيا ليتفرغ كليًا لله، محاطًا بآيات قدرته وآثار رسله، ليعود إلى بلده منقيًا من الشوائب، متجددًا في عزيمته لطاعة الله وخدمة الخلق.

إن المشاعر والأحاسيس التي تنتاب المؤمن خلال أداء فريضة الحج لا توصف، فهو يقف على مشارف بيت الله الحرام، ذلك المكان المقدس الذي انتخبه الله لنفسه ليكون قبلة للمؤمنين. هناك، ينتاب المؤمن إحساس عميق بالخضوع والخشوع لله عز وجل، فيشعر بصغر ذاته أمام عظمة الخالق وجلاله، كما يتملكه شعور عميق بالوحدة مع إخوانه المسلمين من مختلف أنحاء العالم، وهم يهللون ويكبرون ويتضرعون إلى الله بصوت واحد.

فما يميز الحج أيضًا هو البُعد الوجداني الذي يخترق قلوب الحجاج في لحظة سامية تعمل على تجديد الروح والقلب وتحفيز الحاج على تحقيق أعلى مستويات الشرف والصفاء.

وتنعكس آثار الحج المباركة على الحاج  والمجتمع على حد سواء، فبالنسبة للفرد، يُعد الحج منعطفًا حاسمًا في حياته الروحية، إذ يعود إليه منقيًا من الذنوب ومجددًا عزيمته على طاعة الله، أما على المستوى المجتمعي، فيسهم الحج في ترسيخ أواصر الأخوة والتآلف بين المسلمين من مختلف الأجناس واللغات والثقافات، فيزداد التراحم والتعاطف بينهم، ويتعزز شعورهم بالانتماء إلى أمة واحدة.

بعد أن يعود الحاج من الأرض المقدسة، يحمل في قلبه أثر الحج، ليكون شهادة حية عن تلك التجربة الروحية العميقة التي عاشها، ليس فقط عودة جسدية، بل  عودة روحية محملة بالذكريات والتجارب والدروس التي تحملها تلك الرحلة الروحية الكبيرة.

 يظل الحج هو تجربة تحمل في طياتها الكثير من المعنى والروحانية، تجربة تربط بين الإنسان وخالقه بروابط الوفاء والتواضع والخشوع، رحلة لا تنسى، نتعلم منها الحقيقة العميقة للوجود والحياة، وتربطنا بالسماء والأرض بروح من السلام والتواضع.

هذه هي جوهرة الحج، وهذه هي حقيقة معانيه السامية وبُعد روحه العميق.. على اعتبار أن الحج كما أشرنا سابقاً، ليس مجرد رحلة دينية، بل هو تجربة حقيقية تشق طريقها إلى الروح والوجدان، وتجعلنا نتيقن من وجود الحق الأكيد بيننا، داخل قلوبنا، وعلى هذا الأساس نعيش ونستمر في السعي نحوه.

من الأخطاء السائدة ربط البعض لطقوس الحج بجوانب دينية بحتة دون النظر إلى أبعادها الإنسانية على الفرد والمجتمع وعلى المستوى الإنساني ككل. 

للتأمل أكثر وأعمق في هذا الجانب.. 

عندما يتقدم الإنسان إلى بيت الله الحرام، تُفتح له أبوابًا لم يكن يعلم بوجودها في قلبه. يطوي صفحات حياته بمختلف تعقيداتها ويَستعيدَ ذِكْرَيَاتَه وتجاربه التي صنعت منه الشخص الذي هو عليه الآن، يحفر بصماته في التراب المقدس، فتظل خلودًا وشاهدة على تواجده في تلك البقعة المباركة.. إنها إذن رحلة ذات أبعاد إنسانية عميقة لا تنحصر على قضايا الدين والطقوس فقط، بل تمتد لتُلامس جوهر الإنسانية.

والبداية لهذه الرحلة تكون في لحظة القرار، في تلك اللحظة التي يتلقى فيها الإنسان نداء الحج. ربما تكون هذه اللحظة عابرة، وربما تكون مفاجأة قوية لا تنسى، وعلى الرغم من التنوع الثقافي والاجتماعي والديني بين المسلمين، فإن الرد على هذا النداء يجسد جانبًا أساسيًا من العبودية الإلهية التي يعتنقها الإنسان. فالحج، من خلال الاجتماع الضخم للمسلمين، يوحد ويُحقق الشعور بالتواصل الإنساني، حيث يلتقون البشر من مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات، ويتبادلون الحكايات والمشاعر والأحلام،  ما يجعل تجمع الحج ليس مجرد تجمع ديني بحت، بل هو ملتقى إنساني تفاعلي.

إن البعد الإنساني للحج يتجلى في العطاء والتضحية أيضاً، في رحاب الحرم المكي يشاهد المسلمون الأغنياء يعتمرون ثوب البساطة ويفصحون عن التواضع، فيما يشهد الفقراء والمحتاجون أيضًا عطاء الآخرين ورحمتهم.. فالحج يعلمنا دروسًا في الشفاء الروحي والتعاون وتقدير الأخرين وحسن التصرف.. يتلاقى الإنسان في تلك الأروقة المقدسة مع ذويه وأحبابه الذين يحملون قصصًا وأحلامًا وسراديب من الأماني، ويرسمون ماضي وحاضر ومستقبل الإنسانية بألوان جديدة.

ينبض الحج بالتفاني والاجتماع، حيث يفتح قلوب المسلمين لبعضهم البعض بلا تفرقة ولا تمييز، ويساعدهم على فهم قيمة الأخوة والتسامح والتماسك الاجتماعي.. يُعلّم الحج الإنسان بأن كل الأعمال المستحبة من قبل الله تعالى تكون فاعلة في خدمة البشرية، سواءً أكانوا مسلمين أم غيرهم. ففي الحج، ينقطع الإنسان عن العادات القديمة والروتين الحياتي، ويحاول أن يكون آخر نسخة رائعة من ذاته، وأن يفيض بالحب والرحمة والتسامح والإحسان.

في خضم الزحام والضجيج الذي يرافق الحج، يعود الإنسان إلى الأساسيات.. إلى جبلٍ صغير يسمى عرفات، يهتف بتوبته ويستغفر ربه، في عمل ذروة الحاج قبل غروب شمس ذلك اليوم العظيم.. وهنا ينبعث البعد الإنساني بقوة، فيما يمتزج الصلاة والدعاء والتوبة بالشوق والرجاء والعبودية، ومن ثم يقترب الإنسان من الله بعد تحقق قدرٍ كبيرٍ من التطهير الروحي والذهني، يشعر بالهدوء والراحة، وكأنه يجد ذاته من جديد.

إن الحج لا يمثل فقط البعد الديني في حياة المسلمين، بل يتحول إلى حيّزٍ للانصهار الإنساني والتآزر، فهو يروض القلوب ويوحد الشمل في تجربة التواصل والاحترام المتبادل.. وهكذا، يكون للحج البعد الإنساني العميق، الذي يمنح الإنسان إحساسًا جديدًا بالتفاؤل والأمل، ويعزز العلاقات الإنسانية على مستوى العالم ككل.

ومن هنا فإن ثمار الحج ليست محصورة على المسلمين فحسب، بل لها أبعاد إنسانية عميقة تتجاوز حدود  المعتقدات. فالرحلة إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة تمثّل رمزًا للتوحّد والتضامن بين البشر على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وثقافاتهم.

فعلى المستوى الإنساني أيضاً، يجد الحاجّ نفسه ملتحمًا مع آلاف المؤمنين في طقوس الحج، مما يُذكّره بوحدة الجنس البشري وتساويه أمام الخالق، فالتجرّد من الزخرف المادي والتشبّث بنسك بسيط يُعبّر عن الفطرة الإنسانية البريئة، والتي تتجاوز الاختلافات الدنيوية لتصل إلى جوهر الوجود.

كما أن التنازل عن المكانة الاجتماعية والارتقاء إلى مستوى المساواة في الطقوس الحجّية يعكس بُعدًا آخر للحج، وهو التحرر من الطبقية والتمييز.. فالجميع يرتدون ثوبًا أبيض واحدًا ويؤدّون الشعائر بذات الطريقة، مما يُذكّر بأن البشر سواسية كأسنان المشط.

وعلى صعيد آخر، تتيح تجربة الحج للحاجّ فرصة للتأمل والتفكّر في مسار حياته وعلاقته بالآخرين، فالابتعاد عن الروتين اليومي والاندماج في جو روحاني رفيع يمنح الفرد فرصة للتطهّر والتطهير والتجدّد.

إن هذه المعاني الإنسانية للحج تجعله تجربة عميقة وغنية لكل من يشارك فيها، بغض النظر عن الانتماء المذهبي أو الطبقي أو غير ذلك.. فالحج يمثّل فرصة نادرة للتواصل مع الأخر والتعرّف على ثقافاته وتجاربه الروحية، مما يساهم في تعزيز التفاهم والتسامح بين البشر.

مقالات

الوجْه الآخر للمملَكة

التحوّل والبناء، الذي يجري في السعودية، مُثير للاهتمام، لكن بقدر إثارته للاهتمام يقدم صورًا شديدةَ التناقض في جوانب أخرى.

مقالات

الاستعراض اللغوي والمعرفي

الكثير من الكتابات تشدنا إليها وتدعونا إلى الغَوص في أعماقها، وأساليبها المتباينة والمتنوّعة، وقليل من الكُتاب الذين يستطيعون الإمساك بزمام الأمور، وشَد انتباه القارئ من أول لحظة بالفطرة والثقافة الموسوعيّة، والإبهار المعرفي عن طريق الإبهار اللغوي، واللغة المكثّفة المُوحِية، وتنوُّع أساليب العَرض، ومناقشة قضايا جوهرية تتّصل بالوجود الإنساني، وإشكالياته المُعاصرة.

مقالات

أبو الرُّوتي

مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".

مقالات

فلسطين جرح الإنسانية النازف

لا يمكن في الأصل أن نفّوت عند الحديث عن القضية الفلسطينية حادثة وفاة السنوار الأخيرة التي توجت بعد مسيرة صمود ونضال طويلة أسطورية بالشهادة. وذلك لشيئين واحدٌ منهما حزن الناس العام في الوطن العربي، الذين بكوا عجزهم، وصمت زعمائهم الخاذل للشعب الفلسطيني وقادته الذين تركوا في الأرض الفسيحة مهوى لنيران العدو مواجهين مصيرًا هو أقذر ما يمكن للبشرية أن تصل إليه من الممارسة العدوانية القائمة على سفك الدماء وتدمير المنازل وقتل كل مظاهر الحياة، كل الحياة، شجرها وحجرها وناسها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.