مقالات

تقديم كتاب "دليلُ السُّراة "

10/07/2025, 16:07:15

لن نحدّق في الهاوية التي علقنا على أطرافها. لن ندع الجحيم الذي مررنا به ينبت في دواخلنا.

في أشد اللحظات قتامةً ويأساً، نعود إلى أجمل ما فينا، نلوذ بروح اليمن العصية على الانكسار.

في اللحظات القاتمة، حين يهدد الخراب كل شيء، يكون الحديث عن إحياء الهوية الثقافية الوطنية لليمن ضرورة وجودية، وليس مجرد حنين للماضي الذي بشبهنا.

حين يحيط بنا الظلام، نعود إلى يمنيين مثلنا، منحوا الحياة معنى بإبداعاتهم.

يزداد الحنين إلى الأدب والفن كلما اتسعت التشظيات وغامت صورة البلاد في أفقنا. نبحث عن ملامح اليمن الأكثر وضوحا في إرث الشعراء والروائيين والفنانين والرسامين وكل من ترك إرثا إبداعيًا في تاريخ هذه البلاد.

عندما يتداعى كل شيء من حولنا، يلتمع الفن ويحفزنا على أن نستعيد أجمل ما فينا .

نتعرف على ملامح اليمن الأكثر وضوحاً في إرث الفنان، الشاعر، الروائي، المثقف، الأديب، المؤرخ. نكتب عنهم، نلوذ بهم، أدبهم، أغانيهم، لوحاتهم، مؤلفاتهم، لأنهم الشاهد الأجمل على ما كنّاه وما يمكن أن نكونه.

حين يهدد الخراب كل شيء، تومض الأغاني، وتستعيد الكلمات ألقها، وتتحول النغمة والقصيدة واللوحة إلى بؤرة ضوء تشع في وجداننا، لترشدنا إلى مصدر قوتنا في أعماق ذواتنا القصية

إذاً، لنقل إن هذه محاولة لتلمس ما بقي في ذواتنا من قدرة على البقاء متماسكين بعد هذا التشظي والشتات الكبير. التفاتة إلى الجمال الذي تجلّى ذات يوم في حياة اليمنيين، لعلنا نجد فيه طريق النجاة من هذا التيه الكظيم.

في إرث الفنان والشاعر والروائي والكاتب، نتلمّس ملامح اليمن الأكثر وضوحا، تلك التي لا تشوهها الحرب ولا يعكّرها الخراب.

كيف نوقف زمن التشتت والضياع؟

بالعودة إلى أولئك الذين منحونا وطنا أكثر إشراقا. كل مبدع أسهم في نشكيل الوعي الجمالي لليمنيين، كان يؤسس لمعنى آخر للحياة، معنى يجعلنا أكثر التصافاً بهويتنا الثقافية الوطنية، وأكثر قدرة على مواجهة الحرب والانقسام والشتات.

يكتمل الفن والأدب بما يوقظه فينا من حياة. بما يتردد في ذواتنا من أصداء تمدنا بنسغ القوة عندما تكون الحياة القاسية قد أوهنت قدرتنا على البقاء.

في تجوالي داخل إرثنا الإبداعي ورموزه من فنانين وأدباء، داخل ذاتي المسكونة بإبداعاتهم، أكتشف اليمن في أبهى تجلياتها. أستعيد نفسي محلقا فوق كل ما يثقلنا في هذه المحنة المديدة. هذا هو الوقت الذي تصبح فيه اليمن، بالمعنى الحقيقي للكلمة، عملاً إبداعيا.

حين يصبح الموت مناخا يوميًا، وتبهت الحياة من حولنا، لا يبقى لنا سوى الفن والأدب؛ إذ بهما يعبر المجتمع عن نفسه، عن حياته التي تفلت منه، وعن مأساته التي تزداد عمقا.

إن التاريخ يعلمنا درسًا أساسيًا: الأمم التي تدرك قيمة فنها وأدبها، تمتلك القدرة على النهوض مهما اشتدت المحن.

ختاما ؛ ليس بإمكانك أن ترى إلا ما هو داخلك. وأجمل ما فينا هو ما يسكن داخلنا، ويبقى مشعاً بالجمال والأمل؛ مهما كان الواقع قاتما، ومهما كانت الآلام قاسية وموجعة، ومهما كان زمن التشظيات والموت مظلما ومتطاولاً.

ولعلّي أحاول في هذا الكتاب أن أقول شيئًا من هذا: إن الواقع البائس لم يتسرب إلى ذاتي.

وإنني أرى وجه اليمن الجميل، المضيء بمبدعيه؛ أدبائه وفنانيه.

بضم هذا الكتاب مجموعة مقالات نشر معظمها خلال العام الماضي 2024، في موقع ( بلقيس) بينما يعود بعضها، وهو الأقل، إلى سنوات سابقة. ورغم تنوع موضوعاتها، فإنها تلتقي جميعًا عند نقطة محورية: الهوية الثقافية اليمنية كما نعكس في الفن والأدب.

على أساس من ذلك، يمكن النظر إلى هذه الكتابات الموزعة في أربعة فصول هنا بوصفها تجوالاً جامعا بين ما هو مختلف ومؤتلف في الوقت ذاته؛ بحيث ينزع كل فصل، وكل مقال منه على الأغلب، لأن يكون مستقلاً عن غيره ومتصلاً به، إلى حدما، في آن واحد.

لا يدّعي هذا الكتاب أنه يقدم دراسة أكاديمية، ولا يطمح إلى أكثر من أن يكون دليلاً وجدانياً لكل من تعنيه الهوية الثقافية اليمنية، ولكل من يجد في الغناء والأدب اليمني نافذة تطل على وطن لا يزال يسكن فينا، مهما بدا بعيداً.

لأقل إنها رحلة داخل روح اليمن، حيث تتجاور الكلمة مع اللحن، والقصيدة مع النغمة، والفكرة مع الصورة، في محاولة لاستعادة وجهنا الجميل كبلد وشعب وسط هذه العتمة المتطاولة التي لا تريد أن تنتهي.

في ختام هذه المقدمة، أستعيد كلمات ميلان كونديرا في كتابه (الضحك والنسيان):

«الخطوة الأولى في تصفية شعب هي محو ذاكرته. تدمير كتبه، ثقافته، تاريخه. ثم اجعل شخصًا ما يكتب كتبًا جديدة، يصنع ثقافة جديدة، ويخترع تاريخاً جديداً. قبل وقت طويل ستبدأ تلك الأمة في نسيان ما كانت عليه.

صراع الإنسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان».

هذا الكتاب ليس إلا محاولة متواضعة في هذا الصراع. صراع الذاكرة ضد النسيان.

________

*مقدمة كتابي " دليلُ السُراة" في الفن والأدب اليمني - 347 صفحة من القطع المتوسط - الصادر قبل أيام عن مؤسسة " أروقة " للدراسات والنشر - القاهرة

مقالات

مشروع إسقاط الدولة اليمنية: من التوريث إلى تسليم صنعاء

من ينظر إلى المشهد اليمني اليوم قد يظن أن الحوثيين حققوا نصرًا مرحليًا على خصومهم. لكن الحقيقة أن ما يبدو "نصرًا" ليس إلا حلقة أخيرة في مسلسل طويل من الانهيار الممنهج، تقاطعت فيه الأدوار الداخلية والخارجية، وسارت فيه اليمن من دولة ذات مشروع إلى ساحة مفتوحة للمليشيات والمصالح.

مقالات

أيُّ مستقبل للحوثيين بعد حرب إسرائيل وإيران؟

بتهديداتهم المتكررة وغير الواقعية أو العملية، لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا، وحتى التلويح باستهداف بعض دول الجوار، يضع الحوثيون أنفسهم في مواقف لا يُحسدون عليها، ليس فقط من جهة ردود فعل تلك القوى الدولية في حال تكررت مغامراتهم باستهدافها مباشرة أو من خلال التعرض لسفنها في خطوط الملاحة المارة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ولكن أيضاً لكون تلك التهديدات باتت تُثير السخرية والتندّر لدى كثير من الأوساط في تلك الدول.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.