مقالات
الحديدة بين زمنين
كم كانت المناسبات الدِّينية فيك، لها أمسياتها المحببة، ولياليها المتنوِّعة، كانت أعيادا على وجه الحقيقة والمجاز، كانت أيام 12 ربيع الأول و27 رجب و15 شعبان يحتفل بها الجميع، كل من استقر به المقام في الحديدة خاصة، وتهامة عامة، أحتفل بها كأنه واحد من أبنائها، وكلٌ يحتفل بها بطريقته المُحَبَّبَة إلى قلبه، فأبناء تعز، ومن لديهم أعمال ومشاغل يلتقطون بها أنفاسهم، فيسمرون حتى ساعات الصباح، وينامون إلى منتصف نهار اليوم الثاني كأنه عيد، أما أبناء المدينة فلهم طقوس كثيرة؛ فطقوس الشباب غير طقوس كبار السن، غير طقوس الشابات، والمتصوِّفة يحتفلون بها في المساجد، يشاركهم الجميع بين صلاتي المغرب والعشاء، وما يميز كل شيء هو البهجة في النفوس التي ترتسم على الجميع، فتزيد كميات "القات الشامي"، وكميات "الفل الباجلي والعباسي"، وكميات المشاقر بأنواعها، ويتحول سوق الزهور في "باب مشرف" إلى كعبة يحج إليها الجميع (رجالاً ونساءً؛ شابات وشبابا، وشيوخا)، من الشروق حتى التاسعة مساء، والسعيد الذي يحجز كمية الفل التي يحب له ولأسرته، وتحويلها إلى أشكال هندسية تناسب الرؤوس والأعناق والصدور، وفي عنق الحسناء يُستحسنُ العقدُ، ويتزيَّا به الرجال أيضاً، وأصحاب السيارات، والموتورات، فتتضوَّع المدينة وشوارعها وكل مربع فيها برائحة عجيبة، وتتحول المدينة كلها إلى كرنفال عرائسي للفرح والسرور.
الحديدة اليوم -بالمعنى الحرفي- تم تجريدها من كل شيء، ما عدا هذي الليالي البهيجة، وتبقى الحديدة فوق كل المواجع، التي عصفت بها في السنوات الأخيرة، ولقد تم تجريدها أيضاً من كل مميزاتها: التسامح، والسكينة العامة، والحياة الاجتماعية الوادعة والهادئة، وتم تجريدها من أهم عوامل وأسباب الحياة فيها: الكهرباء والماء، اليوم حتى الأدوار الأرضية لا يصلها الماء إلا عبر الدينمو، والدينمو يحتاج كهرباء، والكهرباء عند السيّد، والسيّد يأخذ ولا يعطي بلا رحمة. لم يتغير حال سكان المدينة كثيراً، خلال سنوات طويلة، رغم تخرُّج أجيال من أبناء المدينة، وتلقيهم التعليم والتأهيل، لكنك تجدهم اليوم -في غالبيتهم- يعملون على دراجات نارية، وموظفين إداريين، أو معلمين بلا رواتب، لا ندري أين تبخروا؟ وعمال مؤسسة الكهرباء، التي شُلَّتْ حركتها لصالح الكهرباء التجارية، بل ويتم استقدام مهندسين من مدن مختلفة، لتتبع الفاقد، ومطاردة السكان العاجزين عن تسديد فواتير الكهرباء الحكومية، بل وصل الأمر إلى أن هناك تنسيقا بين مؤسسة الكهرباء وتجار الكهرباء الخاصة؛ بفصل الكهرباء التجارية -مثلاً- على من عليه مديونية للمؤسسة العامة. بمعنى أن هناك حرباً شعواء من الجميع على سكان مدينة بائسة مازالت تقاوم بالبهجة والفرح والأعياد الدينية البسيطة.
الجبايات بلا حدود من كل الجهات، فأصبحت المدينة طاردة لكل سكانها، ولقد وجدنا أمامنا طوابير طويلة من نازحي الحديدة وتهامة، في أكثر المدن اليمنية، وخاصة صنعاء، وهم يتلقون المساعدات الغذائية البائسة، المكونة من كيس دقيق وعلبة زيت و2 كيلو عدس أو بازيليا -إن لم يكن أقل- وقد تركوا مساكنهم من العشش والبساطة بكل معانيها.
مدينة الحديدة أصبحت شبه فارغة، شارعي صنعاء والمواصلات قلبوهما رأساً على عقب في مشروع فاشل اسمه "تصريف مياه الأمطار". قبل الحرب كانت المدينة تمتد بالحياة والأحياء إلى قرب كيلو 16، اليوم لم بتبقَّ منها سوى جزء من شارع صنعاء وباب مشرف والمطراق وشارع الميناء والكورنيش، الذي كان فسحةً مجانية للناس؛ تحوّل إلى مشاريع، ومنتزهات استثمارية لمن معه مال، وغرف الفنادق ارتفعت أسعارها بشكل خرافي، مع العلم أن أكثر من نصف فنادق المدينة أغلق أصحابها بواباتها بالبلك بداية الحرب. والناس في الحديدة -على مدى ستة شهور بالضبط- لا يستطيعون الحياة بغير مكيِّفات تبريد، والكهرباء غالية جداً، والمرتبات صفر، والناس في الحضيض المعيشي تماماً، والتجار الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة على وشك الإفلاس والرحيل، والتجار الكبار غادروها، ونقلوا نشاطهم إلى مدينة صنعاء، ومن بقي منهم يبكي دماً بسبب الكهرباء، فكيف بالفقراء؟ لا توجد أعمال، ولا حركة تجارية.
أغلب المدارس في الحديدة بلا كهرباء، طلاب ومعلمون يعانون من فهم مقررات آل البيت المدرسية المفخخة والمملة، في كل كتاب ومنهج؛ سواء كان رياضيات أو علوما أو دينا أو فيزياء أو أحياء أو عربيا، فما بالنا بالتربية الإسلامية والقرآن؛ كلها دروس ملغمة ب"آل البيت" وبعلي والحسن والحسين وراغب حرب، تكريس رهيب وغبي وممنهج وخطير على المدى القريب والبعيد، حتى أمثلة دروس النحو في كل المراحل، من رابع ابتدائي إلى آخر سنة في الثانوية، تحوَّل أبطال أمثلتها إلى شخصيات من آل البيت إلى حد مزعج ومثير للسخرية في نفوس الطلاب والمعلمين والمعلمات بكل مستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم البسيطة.
كانت الحديدة مدينة مثالية، الماء متوفر بغزارة في جميع أحيائها، وكان لا يعكر صفو الناس من الكهرباء إلى أصوات الفيوز والانتيمات فوق الأعمدة، وهي تتقارح من الضغط عليها؛ نتيجة الاستهلاك الزائد بسبب الحر، ويظل المواطن ينتظر سيارة الطوارئ، ويتمنون تلك الأيام تعود، أو رجعة القبيلي كلفوت، الذي كان يرمي بسلاسله على خطوط محطة مأرب الغازية.
كانت في الحديدة ثلاث محطات كهرباء نهاية السبعينات، للثلاث المديريات، التي تتكون منها المدينة: محطة الميناء، ومحطة الحالي، ومحطة الكورنيش، واليوم هناك محطات أخرى يتم إرسال ما تولِّده إلى مدن أخرى ليست بحاجة الكهرباء؛ مثل: الحديدة، وتهامة، ويتم حرمان مدينة عماد الحياة فيها الكهرباء والكهرباء والكهرباء..
لله الأمر من قبل ومن بعد!!!