مقالات
الحرب المفتوحة والطلب المتزايد على جماعات العنف؟!
قبل خمس سنوات، كتبتُ عن حالة ازدياد الطلب على جماعات العنف في اليمن، لاستدامة حالة الفوضى لحسابات سياسية مختلفة في أجندات الفاعلين الرئيسين في حروبهم الصغيرة والكبيرة في البلد المنسي والفقير، الذي عاني -ولم يزل- من غياب الدولة منذ عقود.
انطلقتُ وقتها من فرضيَّة أن:
"أصولية السلطة وعصبويتها، حين أقفلت المجال العام أمام القوى الحيَّة من أحزاب ونقابات وجماعات مدنية منظمة، إنما لتُبقي تعبير هذه القوى عن حراك المجتمع ضعيفا، ويلبي فقط شعارات التسويق لديموقراطيتها خارجياً.
وفي الوقت ذاته، انتجت هذه السلطة و"بوعي وتخطيط" أصوليات موازية، حتى تجعل من مسألة المقارنة بموازيها من هذه الجماعات تصبّ في مصلحتها، ويكون الطلب على بضاعتها مستداماً، بوصفها أقل عنفاً وأكثر تسامحاً من غيرها.
غير أن هذه السلطة -حينما بدأت بالترهل أولاً، ثم بالانقسام الرأسي (بفعل ربيع اليمن)- تركت المجال العام لكل ما يوازيها من جماعات العنف، والأصوليات الدينية والجهوية، التي صنعتها بأدواتها على مدى سنوات، فملأته الأخيرة ببضاعتها الرائجة، والأقل كلفة، بفعل تزايد الطلب عليها من قبل رعاة الحرب ومموليها.
وبالعودة إلى بعض من محطات تاريخ الصراع السياسي والعسكري في اليمن، يمكن معاينة بعض الأحداث من هذه الزاوية، وعلى نحو:
أنه في ذروة حروب المناطق الوسطى (1978ـ 1981) لم تجد السلطة بتألفها (القبلي الديني العسكري) جيشاً وطنياً يحارب تحت شعاراتها التكفيرية والتخوينية، فكان أن استعانت بمليشيا التيار الديني التي نظمتها في المعاهد العلمية، ثم نظمتها تحت مسمى "الجبهة الإسلامية" لمحاربة "الجبهة الوطنية" المناهضة لها، وحظيت هذه المليشيات برعاية خاصة من أجهزة السلطة واللجنة الخاصة السعودية معاً، واُسندت لها أدوارٌ ووظائف متقدّمة في المجالين الأمني والعسكري في بنية النظام، وعُززت أدوارها الوظيفية في التربية والأوقاف طيلة عقد الثمانينات، فصارت أشبه بسلطة موازية داخل بنية النظام، لها تعليمها وأجهزتها الأمنية وجيشها الخاص الذائب في جسم المؤسسة العسكرية.
في حرب صيف 1994م كانت المليشيات ذاتها - التي تقوَّى عود مقاتليها في حروب أفغانستان- أهم أركان تحالف جائحة الجنوب، وأدوات التذويب الهوياتي فيه لصالح خطابها التكفيري.
لكن حينما شعر طرف السلطة "الطائفي" بخطورة أن تكون هذه الجماعة جزءا من بنية السلطة الأمنية والسياسية وشريكا فاعلا في القرار غير المسيطر عليه، عملت على إنتاج أصولية دينية موازية لها ومتقاطعة معها أيديولوجيا. فكانت وراء تأسيس جماعة "الشباب المؤمن" في صعدة، فسُوّقتها في البداية كحركة إحيائية شابة داخل المذهب الزيدي، وفي حاضنته التاريخية (صعدة)، التي كانت قد بدأت السلفيات الجهادية الحرث فيها منذ عودة "مقبل الوادعي" مطلع ثمانينات القرن الماضي من السعودية.
وكان الهدف من تشكيل الجماعة ابتزاز السعودية، بإيجاد بؤرة توتر في خاصرتها الجنوبية الرخوة، بعد أن بدأت العلاقات تتراجع بشكل متسارع بين "صنعاء والرياض"، التي شهدت شرخها الأكبر في أزمة الخليج الأولى، بغزو نظام العراق دولة الكويت (أغسطس 1990).
بعد عشرة أعوم، وبضغط سعودي مباشر، ومستتر أمريكي، خاضت السلطة أول حروبها مع الجماعة المسلحة وبأدوات "الجارة" من عسكر ومشايخ، لكن بعد ست حروب (2004 ـ 2009) خرجت الجماعة أكثر قوة وتسليحاً وشعبية، لأن رأس السلطة وحلقته الضيّقة كانوا كان يستخدمونها لإضعاف مناوئيهم داخل بيت الحكم، ولا يحاربون لاجتثاثها.
وهدفوا من ذلك تقوية مركز الحكم، بإبقائهم القوات العسكرية العائلية بعيدا عن هذه الحروب.
وفي الفترة ذاتها، كانت السلطة تعيد تفخيخ الجنوب بجماعات العنف الديني، التي استخدمتها هذه المرة لخلخلة بنية الاحتجاج السلمي، وتشويش صوته، وتشويه صورته بربطه بالتطرّف، بعد أن كانت قد استخدمتها قبل عقد ونصف من ذلك ضد الحزب الاشتراكي اليمني، وتشويه منجزاته الاجتماعية والاقتصادية في مناطق الجنوب.
هاتان القوتان العصبويتان (الحوثيون والقاعدة وروافدهما) بوجودهما الضاغط على الأرض، وتعاظم تأثيرهما، بفعل تمكينهما من أجهزة السلطة، وانسحاب الدولة كمفهوم وناظم لعلاقات المجتمع، جعل من مسألة الطلب على بضاعتهما في أوساط الفئات الفقيرة والعاطلين الشبان والعصبويين، أمراً يسيراً وميسراً أيضاً، فكونتا، في أقل من عقد من الزمن، وخصوصاً جماعة الحوثيين، جيشاً من المحاربين العقائديين، يخوض -حتى اليوم- حرباً مفتوحة على المجتمع في كل الجغرافيا اليمنية.
حتى العام 2018، رأينا كيف أن المناطق التي خرجت من قبضة تحالف الحرب الداخلي (الصالحوثي) وقتها في "الجنوب وتعز ومأرب والبيضاء والجوف"- قبل أن تستعيد القوات الحوثية معظمها لاحقاً - صارت تشغرها جماعات العنف الديني والمناطقي، بسبب غياب الدولة وضعف أداء أجهزتها في هذه المناطق، فصار الطلب على بضاعة هذه الجماعات أيسر وأرخص من بضاعة الشرعية ذاتها، وتربة هذه المساحات أخصب لإنتاج مشاريع الفوضى والتفتيت، التي يُراهن على استنهاضها بواسطة استثمارات الحرب واقتصادها، الذي صار يُمثَّل بطبقة عابرة للمذهب والمنطقة والجهة، ولا تريد -هذه الطبقة الجديدة /القديمة - للحرب أن تتوقف.
حينما أحكمت الإمارات قبضتها على المناطق (المحرَّرة) في الجنوب، وعلى وجه الخصوص عدن ومحيطها، استخدمت نسخة من التيار السلفي، التي ارتبطت الكثير من قياداته، قبل ذلك، بأجهزة صالح، في تنفيذ خططها في إدارة المناطق جنباً إلى جنب مع مقاتلين قرويين استجلبوا بدرجة رئيسة من مناطق الهضبة الجنوبية الفقيرة، وكان للسلفيين حضورهم الواضح في الحياة العامة في مدينة عدن ولحج وأبين والضالع، بصفتهم سلطة دينية عليا، تمارس أفعالها التصفوية ضد خصومها ، وضد الناشطين المدنيين أيضاً، بكثير من الجرأة، لأن رعاتها كانوا يوفرون لها الحماية الكافية، ويمنعون محاسبتها، ويبررون لها أيضاَ.
أتوقّع أن يزداد الطلب على جماعات العنف في المستقبل، وبمسميات جديدة ومتعددة، لأن أفق الحرب لم يزل مفتوحاً على كافة الاحتمالات التي تُعظِّم من شهية تجار الحرب ووكلائهم.