مقالات
الذكرى الثامنة لوجع اليمنيين وجوعهم!!
قبل ثمانية أعوام كاملة، دخلت البلاد في نفق مظلم، كان عنوانه الأبرز حرب عمياء أكلت الأخضر واليابس في حياة اليمنيين؛ فقد تحوّلت أزمة البلاد المتضخمة إلى حرب فتاكة بفعل الانقلاب الحوثي على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، ولم يكن لهذا الانقلاب أن يصير كابوساً في حياة اليمنيين دون ضغائن الثأر، التي حملها صالح ضد الجميع، بتحالفه مع جماعة مسلحةٍ طموحةٍ، هُندس لها بعناية لتكون مخلب حرب، فسهّل لها الوصول إلى العاصمة صنعاء، وسلَّم لها كل المؤسسات، بما فيها المؤسسة العسكرية والأمنية، التي بقيت تدين له بالولاء حتى وهو خارج السلطة اسما.
استغلت الجماعة تفكك المعسكر المناوئ لها، وترهل أطرافه بفعل الفساد المستشري في بناه، لتفرض سيطرتها الأمنية والعسكرية، ليس فقط على حاضنتها المذهبية والجغرافية، وإنما تمددت إلى وسط اليمن وجنوبه وغربه في غضون شهرين قبل أن تنحسر، ابتداء منتصف يوليو 2015، من معظم مناطق الجنوب، باستثناء مناطق قليلة غرب شبوة وشمال لحج وأبين.
بدأت المشكلة اليمنية بأزمة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني - بعد أن ظن الجميع أن تسوية أزمة 2011 قد تمت بالمبادرة الخليجية- الذي انقلب عليه الحوثيون وصالح صراحة، ومن بوابة الأقلمة، بعد أن سوَّقوا أن هناك تآمرا لحشر سكان إقليم "آزل" في الهضبة الزيدية الجافة شحيحة الموارد، ليأتي اتفاق السلم والشراكة ليلة دخولهم صنعاء، في 21 سبتمبر 2014، ليُشرعن سلاح الجماعة ويحصنه بنصوص سياسية فرضتها غلبتهم في الميدان، وبمباركة أممية.
تشكّلت، بعد مخاض عسير، حكومة "خبراء" بناءً على هذه الاتفاقية، غير أن شهيّتهم كانت مفتوحة في ابتلاع البلاد كلها، بعد أن لمسوا رخاوة بنية الدولة المفككة. قواتهم، التي ذابت بها قوات صالح بفعل التحالف، تمددت غرباً وشرقاً وجنوباً، ولجانهم الثورية أمسكت بالمؤسسات بقوة السلاح، حتى ألوية الحماية الرئاسية، التي تتبع رئيس الجمهورية (منزوع القوة)، تم اخضاعها والسيطرة على مواقعها المحيطة بدار الرئاسة في النهدين.
أرادوا فرض الكثير من شخصياتهم الميدانية ورموزهم في واجهة السلطة، بما فيها موقع نائب الرئيس -بعد ان كانوا يصرحون بأنهم متعففون منها- وعندما رفض الرئيس هادي مخططهم فرضوا الإقامة الجبرية عليه، فقدّم استقالته في 22 يناير 2016، ثم تبعته الحكومة في اليوم نفسه.. وفي 6 فبراير 2016، خلصوا إلى إعلانهم الدستوري لإدارة البلاد من طرف واحد، وفق أحكام شبه عسكرية.. لم يكن صالح مع تلك الخطوة التي تفاجأ بها، وبقي يطالب بأن يكون مجلس النواب هو الحالة الدستورية الشرعية في البلاد، ليس انتصاراً لهذه المؤسسة دستورياً، وإنما لكون أغلب أعضائه ينتسبون لحزبه (المؤتمر الشعبي العام)، بعدما قرر الحوثيون ضمن إعلانهم حلّه، وتشكيل مجلس وطني من 550 عضوا بدلاً عنه.
بعد أسبوعين من هذه الواقعة، غادر الرئيس هادي صنعاء (21 فبراير 2015) بطريقة غامضة لم يكشف عن تفاصيلها، التي بدت لكثيرين أشبه بمغامرة أسطورية، بعد أن غادر قبله وزير الدفاع، محمود الصبيحي، بطريقة مشابهة، وغادرت صنعاء إلى مدن أخرى وإلى خارج البلاد الكثير من الشخصيات المناوئة، أو التي استشعرت الخطر من ابتلاع الحوثيين للسلطة.
بعد وصوله عدن أعلن هادي عن تراجعه عن الاستقالة، وسيبقى رئيساً شرعياً، وهو ما أكده بيان لمجلس الأمن بعد ذلك بأيام، وأعلن أنه سيدير البلاد من العاصمة المؤقتة عدن، مطالباً الحكومة بإعادة لملمة نفسها، والعمل من المدينة ذاته، حتى تستعاد العاصمة صنعاء.. لم يمهله الحوثيون وصالح كثيراً حتى زجّوا بقوات إضافية إلى معسكرات عدن ولحج وأبين لمحاصرته من جديد، قبل أن تقوم طائرات حربية بقصف قصر معاشيق بهدف تصفيته، ثم السيطرة على كامل المدينة.
تم اعتقال وزير الدفاع، محمود الصبيحي، ورئيس جهاز الأمن السياسي بعدن، ناصر منصور هادي، شقيق الرئيس، والقائد العسكري الموالي له، فيصل رجب، في منطقة الحسيني بلحج في اليوم ذاته، التي غادر الرئيس عدن براً إلى حضرموت والمهرة وصولاً، إلى سلطنة عمان، وبعدها بساعات قليلة بدأ الطيران السعودي والإماراتي غاراته الكثيفة على المعسكرات الحوثية في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات، في عملية اسمتها (عاصفة الحزم)، وينفذها ما سُمًّي، في حينه، بتحالف دعم الشرعية وإنهاء الانقلاب الحوثي، الذي تشكَّل كما اُعلن بطلب من الرئيس الشرعي، الذي وصل بعدها بساعات إلى الرياض، التي ستصير مقره الدائم لمدة سبعة أعوام كاملة، قبل أن تتم إزاحته قبل قرابة عام بعد تمثيلية فجَّة، واستبداله، مع نائبة علي محسن، بمجلس قيادة رئاسي يمثل أعضاؤه القوى المليشاوية وأذرعها الأمنية والعسكرية على الأرض.
في يوليو 2016، صار تحالف صالح والحوثيين سلطة مقتسمة عبر حكومة إنقاذ، حسب تسميتهم، ومجلس سياسي أعلى لإدارة البلاد، غير أن هذا التحالف سيصير صورياً، بعد انقلاب الحوثيين على صالح وتصفيته، مطلع ديسمبر 2017، وتحول أتباعه القبليون إلى تابعين جدد لسلطة "السيد".
(**)
اليوم وبعد ثمانية أعوام، لم تُستعد الدولة وعاصمتها، بل صارت البلاد مفككة الأوصال تماماً، تتحكم بها مليشيات (سلطات أمر واقع)، استنبتتها قوى الحرب الرئيسة، فصار لكل راع رئيس مليشياته الخاصة بمواردها وأذرعها الأمنية والعسكرية وسجونها الخاصة، الممتلئة بالضحايا المدنيين، وإن حضرت الدولة برمزيتها في فعاليات التصوير والخطابة هنا وهناك، فهي ليست أكثر من خرقة وصور ملونة لرأسها المنزوع من كل صلاحية.
الانقسام الرأسي الفجّ أنتج بدوره انقسامات عدة بمحمولات مذهبية ومناطقية وجهوية، تماما كما يريد المتحاربون، فصار اليمني مشكوكا فيه أينما حل في بقعة من وطنه.. ولم يقف الانقسام فقط عند حدوده السياسية والأيديولوجية، بل تفشى داخل بنى المجتمع، وعلى رأسها البنية الاقتصادية، فصار في البلاد عملتان وبنكان، حُشر بينهما المواطن الجائع والمُفقر في الشمال والجنوب.
موارد البلاد وجغرافيتها الحيوية خارج سيطرة اليمنيين تماماً، حتى وإن تواجدوا ككيانات هنا وهناك؛ لأن المتحكم الفعلي بكل ذلك هي القوى المتحاربة على الأرض بأدواتها المحلية الصرفة، فليس هناك من طرف محلي يمتلك قراره المستقل حتى وإن بدا مسيطراً ومتحكما على الأرض.
بسبب أكلاف الحرب الباهظة التي دفعتها قائدة التحالف (السعودية) وفساد أدواتها وضبابية رؤيتها، ستذهب، حسب كل المؤشرات، إلى تسوية مع خصيمتها (إيران)، وسيدفع اليمنيون وحدهم ثمن محاصصة قاسية، سيعيد بواسطتها المتحاربون اغتنام البلاد، على حساب أوجاع الجميع وجوعهم.