مقالات
"الرواية والثقافة والمثقف"
قد نتّفق جميعاً على أن الرواية عمل أدبي عظيم، وربّما عند البعض هي أعظمها، ولكن علينا أن لا ننسى أنها جزء أو شكل واحد ضمن أشكال عدة في الأدب، وأنها في علاقتها بالثقافة أيضاً تصبح جزءا أصغر ضمن ذلك التركيب، الذي يشمل البنية الفوقية ككل، وفقاً للتعبير الماركسي، أو بحسب أحد التعاريف التي أظنها مقبولة للثقافة بأنها: ذلك الكل المعقد الذي يتكون من الدين والفن والأدب والفكر والعلوم والقانون والعادات والتقاليد.
أما بالنسبة لبناء المثقف، فقد تلعب هذه الجزئية أو الرواية دوراً فيه، ولكنه يظل بسيطاً -حسب ظني، بل ربّما يتحول إلى عامل مضلل إذا تم الاكتفاء بها.
والغريب أننا نرى الكثيرين هنا يختزلون الثقافة والمثقف في الروايات وقراءتها أو إنتاجها، أو على الأقل يرونها التعبير الأمثل عنها، في الوقت الذي أظنها لا تبني مثقفين على الإطلاق، وربّما في أحسن الأحوال تصنع أشخاصا يمتلكون اللغة إلى حدٍ ما فقط ولا يمتلكون الفكر -حسب تعبير الصديق والأستاذ رياض حمادي، ولا يعني هذا أن المهتمين بهذا النوع من الإنتاج الأدبي غير مثقفين، فكثير منهم كذلك، ولكن هؤلاء لم يكن بناؤهم مقصوراً على قراءة الرواية، وأن على الشباب المهتم بالثقافة أن يدرك ذلك، وينظر أيضاً إلى الاهتمامات الأخرى المتعلقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية والفلسفة.
فالمثقف حالة أخرى لا يمكن أن ترتبط عضوياً بحقل أدبي مُعين، وإذا لم يكن هناك من مناص لربط المثقف بنشاط ذهني، فالأولى -برأيي- هو ارتباطه بالظاهرة الإنسانية المشتركة في الثقافة والوعي -إن صح التعبير، و ما يتخلل بشكل أو بأخر كل مجالات النشاط الإنساني، وهو هنا -برأيي- "النشاط الفكري والفلسفي".
فهذا الجانب الوحيد والعام الذي أظن أنه لا بُد أن يكون لصيق بالمثقف، فهو يتخلل كل الإنتاج الإنساني -كما ذكرنا، سواء العلمي أو الفني والأدبي، والفلسفة كتعبير عن التفكير الكلي ستضع في حسبانها، ومن منظورها العام، كل ذلك، وهي طريقة تعبير العقل عن قضايانا الكبرى، وجميعنا متورطون فيها بشكل أو بآخر، فكلنا يفكر ويطرح الأسئلة، وقلة من يتورّطون أكثر في التفكير الجاد والمنهجي، الذي يتعدّى الاهتمام الذاتي بكثير، فتجد المثقف الروائي الكبير -حين يخترق مجاله ويصل به إلى الحد الأقصى- قد يدخل في التفكير الكلي في الرواية، وينظر لها من حيث الأسس والغايات، ويتعدّى في تفكيره الكلي علاقة الأدب بالمجتمع ثم بالإنسانية ككل، ويهتم بقضايا عصره الأساسية، ويصبح حينها روائياً مثقفاً في مستوى معين، أو روائياً ومفكراً وفيلسوفاً حين يفكّر بشكل كوني -حسب تعبير فتحي المسكيني.
وبالمِثل، العالِم، الذي يفهم مجاله ويصل فيه حتى حدوده، يدخل في التفكير الكلي في العِلم وأسسه ومناهجه، ويفكّر فيما يمكننا معرفته، وفي الغاية من العِلم، فيصبح عالماً ومفكراً أو فيلسوفاً، وهكذا.
والمعرفة الفكرية والفلسفية للمثقف أمر أساسي -برأيي، أو الحد المعقول منها اللازم لفهم جيّد لفكر عصره وجذوره على الأقل.
والمثقف -حسب بعض التعاريف- ليس الذي يكتب بلغة بالغة في الدّقة والبلاغة، وإنما الذي لديه القدر الكافي من فهم التجربة الفكرية للإنسانية، ويدرك الأسئلة الأساسية التي يطرحها مجتمعه وثقافته وعصره، ويملك أجوبة جادة عنها -حسب تعريف المسيري (بتصرف).
ولا يجب أن يشعر البعض بالصدمة، عندما يُقال إن هناك الكثير من المثقفين الحقيقيين ممن لم يقرأوا ربما حتى رواية واحدة طيلة حياتهم!.
واحتواء بعض الروايات على قضايا فكرية وعلمية، أو القول إن العمل الروائي يناقش التجربة الإنسانية ككل أمر صحيح ورائع، ولكنه يطرحها بصورة أو طريقة خاصة في التعبير، ولهذه الطريقة جماليّتها، ولها سلبيّاتها واختزالها الذي لا يجعلك في غنى عن أخذ المعارف من الحقول المُخصصة لها.
ففي حال عُدت إلى الكُتب المتخصصة -مثلاً- فستجد ذلك التعبير الجمالي مطروحا بشكل أوسع بكثير مما قرأته في الرواية، وأكثر دقة وتفصيلا، أكثر منهجية وتعبيراً عن المعرفة، وبالتالي (في حال استبعاد أي عوامل أخرى جانبيّة) سيكون المُطّلع على المعرفة من حقولها أكثر فهماً لهذه الإشكاليات ممن يكتفي بالرواية مصدراً للمعرفة، ويراها بشكل يخرجها عن نطاقها الأدبي والإنساني كطريقة يعبِّر بها الإنسان عن تجربته.
لا يمكن لأي تخصص أو مجال اهتمام أدبي أو فكري أو علمي أن يحتكر تمثيل المثقف، فالمثقفون هم أشخاص آخرون، يفكِّرون وينظرون لأنفسهم وما حولهم، ويفكّرون ويكترثون، ويفكّرون ويقرأون، ويحملون مشاريع، ويفكّرون وقد يكتبون، أو يعملون مباشرة في الواقع..