مقالات
"الشعر الحميني" في جامعة لندن!!
كُنا في مقيل صنعاني نستمع لأغانٍ يمنية، تُصنف كلماتها ضمن وصف يطلق عليه "الشعر الحميني"، فجأة قال أحد الحاضرين مستغرباً: لماذا لا تُدرّس الأغنية اليمنية والشعر الحميني، وتبرز مكامن جمال هذا الفن وإبداعاته؟ مضيفاً أن لا أحد يعرف شيئاً خارج اليمن عن الفن الصنعاني، والشعر الحميني.
قول صادم، لكنه استدعى علامة استفهام أكبر من الجهل الذي أفصح عنه صاحبه:
كيف لموضوع كهذا أن تكون تفاصيله وخلفيّته التاريخية غائبة عن جمهور الفن والقُراء في اليمن، مع أنه عنوان قديم، حظي باهتمام مبكّر في تاريخنا المعاصر.
فقدان الذاكرة، واحدة من علامات ضياع الأمم.
نظرت إلى محدِّثي مجيباً عن استفساره عن جمال الشعر الغنائي المعروف ب"الشعر الحميني"، أن كثيرين مثله في اليمن يجهلون ما أنجزه مثقفون وأكاديميون وكُتابٌ يمنيون أزاحوا كثيرا من الغبار من فوق تراثها الفني والغنائي والثقافي والأدبي. أقدم رسالة دكتوراة في اليمن والجزيرة العربية كانت حول هذا العنوان.
"الشعر الحميني في اليمن" أطروحة أكاديمية قدَّمها الأستاذ الدكتور جعفر الظفاري إلى معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن في الفترة من 1961 إلى عام 1966، وقد كُتبت هذه الأطروحة باللغة الإنجليزية، وقام الظفاري بترجمتها إلى اللغة العربية، في وقت متأخر للغاية، على حلقات في مجلة "اليمن" (1992- 1996م)، التي كانت تُصدر في مركز البحوث والدراسات اليمنية في جامعة عدن.
الدكتور محمد عبده غانم شارك في إزاحة الغبار عن التراث الغنائي اليمني، وتقديمه لجمهور القراء في كتابه "شعر الغناء الصنعاني" 1972م، والدكتور عبد العزيز المقالح في كتابه "شعر العامية في اليمن" عام 1978م.
ثلاث رسائل في مفتتح اليمن المعاصر تقول الكثير عن موضوع نال اهتماما واسعا يليق به، ولا يزال كذلك.
الدكتور جعفر الظفاري بقي مجهولا، ولم يعرف الجمهور عنه الشيء الكثير، رغم أنه من أبرز الباحثين في تاريخ اليمن المعاصر.
ما قصة رسالته للدكتوراة في جامعة لندن؟ وما موضوعها؟ وكيف تم اختيار عنوانها؟ وما علاقتها بالشعر الحميني والفن اليمني؟
إتبعوني
روبرت سارجنت
في أحد أيام صنعاء الهادئة عام 1960، وصل فجأة زائر غريب يلبس البدلة الأفرنجية، وغير معتاد وجود مثله في مدينة كان "البنطلون" فيها تهمة تضع من يرتديه تحت وصف "المبنطلين العصريين".
قدِم الزائر الغريب من لندن قاصداً مكتبة الجامع الكبير ورفوفها المليئة بالكتب والمخطوطات التاريخية.
كان ذلك القادم المجهول طالبا يمنيا يدعى جعفر الظفاري، يستعد للتحضير لرسالة الماجستير في جامعة لندن، وفي أوراقه عنوان "الشعر الحميني في اليمن"، اقترحه عليه العلامة والمستعرب البريطاني المشرف على أطروحته، روبرت سارجينت. (وسارجينت بريطاني شهير، ودكتور متخصص في الدراسات اليمنية، وله دراسات وأبحاث عديدة في هذا المجال).
تجول الباحث المثابر في باحة الجامع الكبير بصنعاء باتجاه مكتبة الجامع الذائعة الصيت، وهي مكتبة كانت حينها تضم آلاف الكتب والمخطوطات غير المصنفة بعد.
بين أضابير المخطوطات ورفوف الكتب، كانت أنامل الباحث الفذ تحسم قراره باختيار عنوان رسالته للماجستير ليكون: "الشعر الحميني في اليمن".
ولد جعفر عبده صالح الظفاري في عدن لأب قدِم إليها من منطقة صُهبان، وأمهُ امرأة عدنية أصولها من منطقة حيس في تهامة.
قاده "الشعر الحميني" للعودة إلى بلاد أبيه وأجداده في صهبان، وهناك اطلع على مكتبة خاصة مهمة يملكها جده (المكتبة الصهبانية لصاحبها الحاج القاضي أحمد بن ناصر الظفاري الصهباني).
قبل طوافه في مكتبتي الجامع الكبير والمكتبة الصهبانية، كان قد طاف في المكتبات الشهيرة في بريطانيا وأوروبا في فترة إعداده رسالة الماجستير.
تجول بعين الباحث داخل المتحف البريطاني، جامعة أكسفورد، جامعة ميلانو، وجامعة لندن.
قدَّم جعفر الظفاري رسالته هذه إلى الدكتور روبرت سارجنت، المشرف عليها عام 1961.
كانت هذه الدراسة عبارة عن ماجيستير، وعندما اطلع عليها العلامة والمستعرب البريطاني، روبرت سارجنت، كتب فوقها: To be promoted to Ph. D ترفع الى الدكتوراة؛ لأنها تستحق، وكي يأخذ وقتاً كافياً.
استمر في العمل عليها، منذ عام 1961، ودافع عنها عام 66 في جامعة لندن - مركز الدراسات الشرقية والإسلامية.
المقدِّمة وحدها كانت رسالة الماجستير، وعنوانها "وقفة حول المصطلح الحميني"، وبعد إشارة روبرت سارجنت باستكمالها كرسالة دكتوراة، أضاف الظفاري المبحث الثاني "تاريخ الشعر الحميني في اليمن"، وكذلك المبحث الثالث "شعر الموشح العربي في الديار اليمنية"، والمبحث الرابع "بحور الشعر الحميني في الديار اليمنية".
أخيراً وجدته!
كيف تُقال جملة كهذه عن كتاب في عصر الإنترنت، وبعد كتابته وتقديمه كرسالة دكتوراة في منتصف القرن العشرين في جامعة لندن؟
قصة هذا الكتاب غامضة وغريبة. أخذ هذا الكتاب مدى زمنيا طويلا، يمتد من 1966 إلى 2014، حتى يتحول إلى كتاب، ورغم ذلك ليس متاحاً، وما طُبع منه كمية محدودة وُزعت نُسخ منها على مراكز البحوث والمكتبات التوثيقية الرسمية في عدن وصنعاء، ولا يجده الباحث والقارئ المهتم متاحاً في المكتبات، أو على شبكة الإنترنت.
رسالة الدكتوراة حول الشعر الحميني، ترجم الظفاري نفسه عدة فصول منها، ونشرها في مجلة "اليمن"، الصادرة عن جامعة عدن في الفترة من 1992 - 1996، وجمع هذه الترجمات الدكتور أحمد علي الهمداني، وكتب مقدمة لها ونشرها ككتاب في العام 2014 بعنوان رسالة الدكتوراة نفسها (الشعر الحميني في اليمن).
في مقدمة الكتاب، أوضح الدكتور الهمداني هذا التأخير في ترجمة الأطروحة، إذ كتب يقول: "في الحقيقة كان الظفاري أول من قدّم أطروحة علمية في الشعر الحميني في الديار اليمنية، أو الشعر الحميني في اليمن. وقد توصل في هذا المجال إلى حقائق علمية مؤكدة. غير أن كتابة هذه الرسالة باللغة الإنجليزية (1961م - 1966م)، وعدم ترجمتها إلى العربية، ونشرها بين الناس في الوقت المناسب منعت من الفائدة العامة.
ولم تصل نتائجها وأفكارها إلى عامة القراء والباحثين في الوقت الذي كتبت فيه. إذ لم يترجم الظفاري رسالته أو بعضا منها سوى في وقت متأخر للغاية. وذلك على عكس محمد عبده غانم، الذي سرعان ما ترجم أطروحته (شعر الغناء الصنعاني من الإنجليزية إلى العربية)، ونشرها في كتاب عام 1973م، بعد نشر خلاصتها باللغة الإنجليزية في كانون الأول من عام 1972م، في مجلة الأبحاث الفصلية، التي تصدرها الجامعة الأمريكية في بيروت".
الدكتور الهمداني يضيف قائلاً:
"ولو أن أطروحة الظفاري، التي كتبت قبل أطروحة غانم، كانت قد تُرجمت ونُشرت في وقتها لربما حلت كثيرا من المسائل العالقة حول تاريخ الشعر الحميني، وحول مفهوم المصطلح الحميني، وحول قضايا أخرى مختلفة تمس جوهر الشعر الحميني".
-أول رسالة دكتوراة في اليمن والجزيرة العربية
الدكتور جعفر الطفاري هو أول أستاذ دكتور في جامعة عدن ينال درجة الأستاذية، ورسالته حول الشعر الحميني، في جامعة لندن عام 1966م، هي أول رسالة دكتوراة علمية لا في اليمن فحسب، بل وفي الجزيرة العربية.
خلفية الظفاري في دراسة الأدب العربي كانت سنداً له في رسالة الدكتوراة عن الشعر الحميني في اليمن.
كان الظفاري قد درس الأدب العربي وحصل على البكالوريوس من الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1956.
في جامعة لندن كان على اطلاع واسع في التاريخ العربي - الإسلامي والثقافة الإسلامية، وأصبح في هذه المجالات كلها عالما لا يُعلى عليه.
إتقانه اللغتين (العربية والإنجليزية) اتقانا كبيرا للغاية مكّنه من امتلاك أسلوبه الخاص، الذي يُعرف به في جميع أبحاثه.
"الشعر الحميني في اليمن" كان أهم ما قدَّمه الأستاذ الدكتور جعفر الظفاري في حياته كباحث وأكاديمي.
ماذا تتضمن هذه الأطروحة المهمة والنادرة؟ هذا ما سأتناوله في مقالتي القادمة.