مقالات
"الطلبنة" من كابول إلى صنعاء!!
قبل أيام، وجّهت إلى إحدى الزميلات الصحفيات - ضمن مشمولين باستطلاع- سؤالاً عن الدافع الذي قاد الناشطين لإطلاق يوم للأغنية اليمنية في الأول من يوليو من كل عام، واعتبرت أن
"المبادرة الشعبية كانت في البداية ردة فعل تجاه التصرفات الظلامية التي قامت بها الجماعة الحوثية ومتناسلاتها بفرضها قيوداً على فناني الأعراس وحبس بعضهم، وفرضها نمطا محددا في إحياء الأفراح، ووصل بهم الأمر إلى منع الغناء وتحريمه في بعض المدن كعمران وصعدة وحجة، حيث حواضنهم الأيديولوجية والقبلية.
هذه المبادرة صارت مع الوقت فعل مقاومة مكتمل، ضدة محاولات تجريف ذاكرة اليمنيين الطربية، فبدأ الكثيرون يفتشون عن فنانين مطمورين وأغانٍ منسية وترويج السماع لها.
بعد عامين من هذه المبادرة، يمكن لأي متابع أن يرى كيف أن التنوّع الموسيقي والغنائي في اليمن صار حاضراً وبقوة في فضاء التواصل، وأن مهتمين كثر بدأوا بإتاحة "اراشيفهم" الموسيقية النادرة للمتابعين، ويحضر في بالي في هذا المقام الدكتور عبدالله عبد المجيد مسعود، الذي يحتفظ بمئات من التسجيلات النادر لفنانين وأغان لم يعد يسمع بها أحد من ابناء هذا الجيل.
في المناسبات الوطنية، يتوحد اليمنيون في فضائهم الأزرق ضد مشاريع التجزئة والتفكيك وتجريف الذاكرة، التي يتبناها المتحاربون، وصار إحياء يوم الأغنية جزءا من هذا الفعل المقاوم، الذي يتوجب المراكمة عليه لحفظ إرث اليمنيين، الذي يتعرض للتبديد خدمة لتوجهات المتكسبين من استدامة الحرب وتدمير كل ما له علاقة بحياة الناس وذائقتهم الموسيقية والجمالية".
قبلها تناولت قرار الحوثيين بمنع جلوس النساء على ضفة سائلة صنعاء القديمة، ومنع سفرهن إلا بمحارم، وتجريم لبسهن للبالطوهات الملونة، وقلت:
"كان الأولى بمكتب الأشغال أن يزيل التعدي الصارخ الذي استحدثه الحوثيون في أجمل مكان في السائلة، حينما وضعوا خيمة في الاستراحة الحجرية الانيقة عند مدخل حارة وبستان القاسمي، وتطل على فضاء بستان المهدي عباس، من أجل إقامة انشطتهم التعبوية والتحشيدية لشبان المدينة الفقراء. كان المكان قبل أن يضع الحوثيون فيه الخيمة، ويمنعوا الناس من الاقتراب منه، من أجمل المتنفسات البسيطة بمصطباته الحجرية المنقوشة ودرجاته الأنيقة.
الأولَى بمكتب الأشغال أن يكف أذى موظفيه من ابتزاز أصحاب المحلات التجارية والباعة الجائلين في سوق المدينة التاريخي، وإزالة أكوام القمامة في الأزقة، وإزالة العشوائيات التي تؤذي العين في المدينة التي صارت مهددة بالخروج من قائمة التراث العالمي؛ بسبب مثل هذه التعديات، التي يُغض الطرف عنها رسمياً؛ بسبب قوة النفوذ وقوة النقود، وليس ممارسة وظيفة ظلامية وتسلطية.
كان الحوثيون قد أصدروا قبل ذلك قراراً ظلامياً يمنع سفر وتنقل النساء إلا بمحرم، وبدأت الكثير من الجهات ذات العلاقة وغير ذات العلاقة بتطبيقه بطريقة فجة ومضحكة، ويعرف الحوثيون قبل غيرهم أن ألوف النساء المتسولات في زمنهم يجبن الشوارع بدون محارم، وقذفت بهن حالات الجوع والنزوح لهذا الوضع المزري.. تتزاحم النساء والرجال على خزانات المياه الخيرية في الحواري والأحياء للحصول على ليترات قليلة من الماء، بعد أن توقفت مؤسسة المياه عن تزويد المساكن بهذه الخدمة، ومضاعفة رسومها التي لم تعد الأسر قادرة على تحملها.
قال لي أحد الأصدقاء إن متسولة أرملة تقتعد هي وأطفالها الصغار الشارع العام حتى وقت متأخر من الليل للحصول على القليل من المال، الذي يعينها على تدريس صغارها، ودفع إيجار المسكن بعد أن فقدت عائلها جراء الحرب.
انشغلوا بملابس النساء وأنواع البالطوهات، التي ترتديها الفتيات وألوانها وتفصيلاتها، وعقدوا الاجتماعات المتتالية بشأن هذا "الأمر الخطير"، وأصدروا تعميمات للخياطين، ولم تحرك لهم ساكنا صور النساء وهن يقتتن من القمامة، أو يقمن بتجميع البلاستيك والخردوات من المكبَّات الخطرة لبيعها بأثمانٍ زهيدة على من يشتغلون بهذا النوع من الأشياء.
الموجة الظلامية، التي وصلتنا مطلع السبعينات من الجوار النفطي البدوي جرفت كل إرث اليمنيات الثقافي، الذي راكمنه على مدى قرون من مشاركة الرجل أعمال الفلاحة والإنتاج، فجاءت بالأغطية السوداء، وجعلت منها عورة عظيمة، وفرضت عليها تمييزاً ذكورياً بتبريرات زائفة، بها من معتسفات النصوص ما لا يقر بها عقل، لتخطوا الخمينية مطلع الثمانينات خطوة ظلامية أوسع في مصادرة حق المرأة في الحياة داخل مجتمع متعدد، راكم على إرث حضاري كبير. وبعد تمكنها في الداخل الإيراني بدأت بتصدير هذا الخطاب الظلامي عبر أدواتها في المحيط الإقليمي، حت امتد إلى هذه البلاد المنكوبة.
من هاتين المدرستين خرجت من الأولى السلفيات الجهادية وجماعات التكفير والهجرة والقاعدة وداعش ومتناسلاتها، ومن الثانية كل الاتجاهات الشيعية المتطرفة في العراق وسوريا ولبنان واليمن الناشطة اليوم.
وفي الوقت الذي بدأت السعودية بتفكيك خطاب التطرف سياسياً وكسر أنساقه الصماء، فيما يتصل بقضايا المرأة والفنون، تمضي الخمينية قدماً عبر أدواتها في إنتاج الأفكار الظلامية والانعزال، ومصادرة الفضاء العام لصالح خطاب الخرافة والكراهية في مجتمعات غارقة في الفوضى والحرب.
(*)
استعيد مثل هذه الأفكار اليوم بعد قرار كلية الإعلام في جامعة صنعاء بفصل الطالبات عن الطلاب من خلال جدولي محاضرات، الأول: خاص بالطالبات لأيام محددة في الأسبوع، والآخر خاص بالطلاب في أيام مختلفة، ومثل كل مرة ستختبر الجماعة ردة فعل الشارع حيال هذا القرار، فإن مضى ستقوم بتعميمه على كليات أخرى، وإن جُوبه بالرفض والمقاومة ستقول إنه تصرف فردي من القائمين على الكلية، ولم تتبنه كسلطة.
المقاومة المدنية الصامتة للقرارات الظلامية الحوثية هي التي ستفرض منطقها وسلوكها المدني في نهاية الأمر، فالتجارب الماضية تقول إن تقييد عمل المرأة قاد النساء إلى الانخراط في أعمال ومهن لم تكن تزاولها قبل استحكامات السلطة الظلامية، فنراها اليوم في المحلات التجارية والبقالات ومحلات التجزئة لسلسلة متاجر شركات الأغذية (شركات الدواجن)، وتستطيع الدفاع عن خياراتها.
انتشرت الملابس والبالطوهات الملونة بكثرة بعد قرار الجماعة فرض اللون الأسود بتفصيلات محددة كلبس للنساء في صنعاء وبقية المدن، رافقتها أيضاً موجة لا تخطئها عين من ظهور الفتيات بوجوههن المعلومة بدون براقع وأحجبة، بعد أن انتشرت العبارات والرسوم في واجهات الشوارع الرئيسية، التي تحث المرأة على التحجب وملازمة البيت، وتخويفهن بالكثير من ملفوظات الوعيد.
الملتحم بقاع المجتمع يستطيع سماع الأنين المكتوم ليس من سياسة التجويع والافقار، التي تمارسها السلطة بكل فجاجة ووحشية، وليس من مصادرة الوظيفة بدرجاتها العالية العامة لصالح موالي الجماعة السلاليين دون غيرهم، وإنما أيضاً من الاستبداد والانغلاق الكهنوتي المعاصر، الذي يسعى إلى العودة بالمجتمع إلى قرون مظلمة.
خلال العقود الماضية، كان ينقسم المجتمع حول أداء السلطة الغارقة في الفساد، وكان المنتفعون من فسادها وعطاياها داخل المنظومة السياسية والإعلامية هم أكثر المدافعين عنها، ويستخدمون الكثير من الوسائل لإعادة صياغة الوعي الشعبي للقبول بها، وما يوحّد الشارع اليوم هو كُره السلطة ونبذها، لأن ضررها طال الجميع، والمنتفعون منها ليس أكثر من عصبة مغلقة ومتعالية، وهي لا تثق بالمرة بالموالين من خارج بنيتها المتعصبة، حتى وإن قدَّموا لها الخدمات الكبيرة، لأنها تعرف أنهم سيكونون غداً مع غيرهم من الحكام إن انقلب الوضع.