مقالات
"المتعة الروحية في السيرة الذاتية"
كنا قد تناولنا ما يتعلق بكتابة المذكرات السياسية، التي تم تحميلها فوق ما تحتمل، وهنا نتناول باختصار المتعة والفائدة الروحية والفكرية والإنسانية فيما يتعلق بقراءة كتب السيرة الذاتية، التي اشتهرت ولمع أصحابها، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصياتهم، وعوامل تكوين المبدع والقارئ معا، وخاصة أولئك الذين خاضوا غمار الحياة بكل تفاصيلها وأنواعها الإبداعية، سواء في مجال الشعر، أو الكتابة الإبداعية عامة وما أكثرها، أو ميدان الصحافة، أو أولئك الذين شغلوا مناصب وزارية وكانت لهم علاقة متينة بالأدب، أو عتاولة الصحافة، وفي مقدمتهم محمد حسنين هيكل، الذي ما نزال نقرأ ما كتبه حول استئذانه القُراء بالانصراف عن الكتابة في مجلة "وِجهات نظر"، التي كان أبرز كتَّابها، حيث تجلى ذلك الانصراف كأجمل لوحة مكتوبة بأرشق لغة أدبية على الإطلاق، وكذلك مذكرات أنيس منصور، وسلامة أحمد سلامة، وسلامة موسى، وغيرهم كثير.
الكثيرون كتبوا مذكراتهم وسيرتهم الذاتية بأساليب غاية في الفتنة والجمال والسلاسة، فأصبحت علامة مميّزة، وأكثر شُهرة من كثير من كُتبهم التي ألَّفوها في حياتهم الطويلة.
وتنوَّعت طرائق كتابة السيرة الذاتية، وعبَّرت عن أصحابها كأصدق تعبير، وامتاز الكثير منها بالعُمق والتشويق والإثارة والاعتراف بكل شيء تقريبا، مما جعل بعضها يتحوّل إلى أيقونة من شدة جرأة صاحبها؛ مثل رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، الذي قام بتشريح المجتمع المغربي وطبقاته الدنيا، وما مرّ به من تجارب حياتية يندى لها الجبين، فكانت سيرته الذاتية أيقونته التي أخذته إلى آفاق الشُّهرة، وبوابته لاحتراف الأدب، عكس كل كُتاب السير الذاتية، الذين اختتموا بسيرتهم الذاتية حياتهم مع الكتابة والقلم، مثل "حياة قلم" للعقاد، وكتاب "أنا" للعقاد نفسه، حيث تبدّت سيرة ذاتية فكرية أكثر من كونها سيرة ذاتية خاصة، سرد فيها العقاد آراءه في كل تفاصيل حياته وقراءاته وكتبه من منظور فكري رصين. وهي سيرة تدل بوضوح على شخصية العقاد، حيث لا تخطئه عين، ولعلّ أجمل ما في كتاب "أنا" هو فلسفته للحب من منظور عقلاني أكثر بكثير من أي منظور عاطفي، فبدا تنظيره رصينا ودقيقا إلى أبعد الحدود، واستطاع من خلاله أن يبرز كل المفكرين والفلاسفة والشعراء حول ما قيل عن الحب والمحبين عبر العصور المختلفة؛ لأن العقلانية تكون هي الطريق إلى حقيقة المشاعر الإنسانية النبيلة.
طبعا، إذا قمنا بإحصاء كُتب السيرة الذاتية، خلال القرن العشرين والعشرين السنة الماضية من القرن الواحد والعشرين، لن يتسع المجال لذكرها والإلمام بكل تفاصيلها في هذي العُجالة، وهي في متناول الجميع قراءة وتحميلا وطباعة وكُتبا ورقية.
ولكننا نختار السير الذاتية، التي شكّلت مفصلا مهما في تكوين الكثير من القُراء والمثقفين، وغيرهم؛ مثل: سيرة عميد الأدب العربي طه حسين (الأيام) بأجزائها الثلاثة، وكيف أصاب التوفيق هذه السيرة التي بلغت الآفاق قراءة وطباعة، ثم تحويلها إلى مسلسل مصري غاية في التشويق والإثارة، التي جسَّدها وشخّصها الممثل أحمد زكي بطريقة مذهلة أدهشت الوطن العربي كله، إلى درجة أنها سكنت ذاكرة كل من شاهدها أو قرأها، ولعلَّ تأثير القراءة أعمق من كل مشاهدة، فكيف يكون الحال إذا كانت قراءة ومشاهدة معًا، وكذلك كتاب "الولد الشقي" لمحمود السعدني المشهور جدا.
ولا أحد لم يقرأ رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، التي هي جزء مهم من سيرته الذاتية، وكذلك رواية "الرباط المقدَّس"، وكتاب "يوميات نائب في الأرياف".
في الأدب الروسي، تميّزت السِّير الذاتية من خلال أعمال المبدعين الروس الروائية ذاتها، إذا لا تخلو بعض الروايات والقصص من استلهام لمواقف كثيرة من حياتهم الخاصة، وهذا ينطبق على أدباء الغرب وأوروبا، وكذلك أمريكا اللاتينية، وتميَّز مكسيم غوركي بسيرة ذاتية خاصة.
ولا شك أن الجميع يعلم السِّيرة الذاتية لأنطوف بافلوفيتش تشيخوف الطبيب، كاتب أروع القصص القصيرة الخالدة، وكذلك تولستوي صاحب رائعة "الحرب والسلام"، وكذلك ديستوفيسكي.
ولم يقتصر الأمر على الأدباء الذكور فقط في الوطن العربي، بل هناك كاتبات خُضن تجربة كتابة السِّيرة الذاتية؛ مثل لطيفة الزيَّات في كتابها "حملة تفتيش أوراق شخصية"، وكذلك فدوى طوقان في سيرتها الذاتية الجزء الأول "رحلة جبلية رحلة صعبة"، ثم كتاب "الرِّحلة الأصعب" الذي تخلّت فيه عن الحذَر، وتحدثت عن بعض تجاربها العاطفية.
وهنا يجب أن نشير إلى أن كل من كتبوا سِيرهم الذاتية اختلفوا في طريقة الغوص في تفاصيل حياتهم، فهناك من كتب بسطحية وحذَر، وهناك من وقف أمام مخاوفه الداخلية في حِيرة كبيرة، وهناك من نشر غسيل حياته بلا تردد.
ولا ننسى ما كتبه نجيب محفوظ تحت عنوان "أصداء السِّيرة الذاتية"، حيث حاول إضاءة جوانب محددة من خلال ومضَات دون الإيغال في المباشرة.
وكذلك "سيرة الجَمر والرماد" للأكاديمي الفلسطيني هشام شرابي، التي تميَّزت بالصراحة المطلقة، وإمتاع -إلى حد مذهل للقارئ، لشخص أكاديمي لم يتوقع له النجاح في كتابة سِيرته الذاتية.
وليس خافيا أن الروائي جبرا إبراهيم جبرا اعتبر طفولته في سيرته الذاتية "البئر الأولى" هي التي يظل المبدع يغترف منها كل قصصه ورواياته وإبداعاته.
وهو أمر أكده الكاتب اليمني الساخر عبد الكريم الرازحي أكثر من مرة بأن الطفولة هي منجم للروائي والسارد، ولعلنا هنا نشير إلى سيرته الذاتية "أبو الرُّوتي"، التي تُنشر على منبر "بلقيس" على حلقات؛ هي سيرة ذاتية ستحجز مكانها بين أهم كتب السيرة الذاتية مستقبلا، إن لم تكن قد فعلت ذلك من اليوم.
وهنا لا ننسى المرور على سيرة غازي القصيبي، التي توزّعت على أربعة كتب؛ هي: "العودة سائحا إلى كاليفورنيا"، و"كتاب مواسم"، و"كتاب الوزير المرافق"، وكتابه المعروف "حياة في الإدارة"، ومما يعرفه الجميع أن القصيبي كان له أكبر دور في محاولة التخلّص من العمالة اليمنية وسعودة الوظائف، ولكن كل جهوده باءت بالفشل لأسباب كثيرة، ليس هنا المجال لتفاصيلها.
ويتفرّد كتاب "عشت لأروي" لغابرييل ماركيز بين أهم كتب السيرة الذاتية؛ باعتبار مكانته الروائية في أمريكا اللاتينية والعالم.
ولا شك أن الغربيين والأمريكيين استحوذوا على نصيب الأسد في كتابة سِيرتهم الذاتية، التي فتحت الآفاق للجميع في أنحاء العالم لخوض غمار تجربة هذه الكتابة الفاتنة التي تقرِّب القارئ من المبدع، وتقرِّب المبدع من القارئ.
ولا ننسى أن نشير إلى المصداقية الشديدة التي يكتسبها هذا النوع الأدبي (السيرة الذاتية) باختلاف درجاته، حيث لا سياسة، ولا خوف، ولا تعقيدات، ولا محاذير.
وكلما كان كاتب السِّيرة الذاتية من فِئة المبدعين الكبار تتجلّى متعة القِراءة في أبهى صُورها.