مقالات
المقالح كلمة اليمن الخالدة (3)
من المفارقات في تاريخ اليمن أن مدينة حجة التي جعلها الإمام منفى وسجناً للأحرار، وميدانا لإعدام طلائع التغيير، والتنوير في البلاد، تحولت آنذاك إلى مركز إشعاع فكري، وتعليمي، ذاع صيتها في أرجاء البلاد، وذلك بسبب وجود الأحرار، الذين لم يتوقفوا عن أداء دورهم التنويري، حتى وهم في السجون، والقيود على معاصمهم، والأثقال على أرجلهم.
في مطلع الخمسينات، خرج الاستاذ النعمان من سجن قاهرة حجة، بعد مراسلات جرت بينه وبين الإمام أحمد، وقد تمكن الاستاذ من إقناع الأول افتتاح مدرسة تتبنى التعليم الحديث، واستقدام مدرسين من مصر، وأدخلت مواد جديدة في التعليم، يقول الأستاذ النعمان حول ذلك: "فتحنا مدرسة اسمها المدرسة المتوسطة فكان الإمام يلبي كل طلباتنا؛ لأننا قلنا له إن حجة القاعدة التي انتصرت منها محتاجة إلى مدارس، وخاصة في المناطق المظلمة منها، وإذا بالمدرسة المتوسطة تتأسس ويبدأ التعليم، واستعنا بمعلمين من الخارج لتعليم اللغة الانجليزية والرياضة البدنية والكشافة" [أحمد محمد نعمان مذكرات ص54، مراجعة وتحرير الدكتور علي محمد زيد]
وبسبب المنهج الدراسي الحديث الذي تبنته المدرسة تحت إدارة الاستاذ المناضل أحمد محمد نعمان، الذي سمح له الإمام بالإشراف على التعليم في لواء حجة، -حيث كان يتم إطلاق سراحه نهاراً، وإرساله بصحبة أحد الجنود لمرافقته خشية - أن يهرب - لأداء مهمته التعليمية، ويعاد إلى السجن ليلاً -، ذاعت شهرة هذه المدرسة في أوساط المسؤولين، والوجاهات الاجتماعية في لواء حجة، فكانوا "يرسلون أبنائهم إلى المتوسطة كي ينالوا حظاً تعليمياً وتربوياً في أحدث مدرسة في اليمن" [عبدالوهاب جحاف حقائق ومواقف ص15]
غير أن المنهج التعليمي الحديث للمدرسة المتوسطة التي تم افتتاحها، لاقى هجوما عنيفا من قبل أتباع الإمامة، وأنصارها، فتم إغلاقها بعد ثلاث سنوات، بسبب نقاش بين طفل صغير وصهر الإمام حول الرئيس المصري آنذاك محمد نجيب، وحول الثورة المصرية التي قامت في يوليو 1952، ووصل تأثيرها إلى تلك المنطقة المعزولة بين الجبال، يقول الاستاذ النعمان "بدأت هذه الثورة تحدث ردود فعل ونقمة على الوضع القائم، وإذا بالإمام يتأثر هو نفسه، وبدأ يتنكر حتى للأسلوب الذي سمح به بفتح المدرسة، لذلك أمر بإغلاق المدرسة المتوسطة، لأن هذا الطالب لقي مرة صهر الإمام، فظل يتناقش معه، صهر الإمام يحمل على (الرئيس المصري آنذاك) محمد نجيب، فرد الطالب قائلاً إن محمد نجيب رجل مسلم حرر مصر من الرجعية، رد صهر الإمام قائلاً: هذا كافر يلبس (برنيطة) و(البرنيطة) ليست لكم بل يلبسها النصارى، قال الطالب: طيب إذا لبس النصراني العمامة هل يصبح مسلماً؟ فلما رأى الطالب الصغير قد أخرسه بالمنطق في حين عجز عن الرد رغم تقدمه في السن، ذهب إلى الإمام ينبئه بأن حجة ستشهد ثورة مفسدة للدين، عندئذ أمر الإمام بإغلاق المدرسة المتوسطة، حاولنا إعادة فتحها ولكن ذلك كان متعذراً"[أحمد محمد نعمان مذكرات ص54، مراجعة وتحرير الدكتور علي محمد زيد].
لقد صدقت نبوءة صهر الإمام، وتخرج من تلك المدرسة، على يد الأحرار، وتأثر بهم، سواء من أبناء حجة، أو أبناء المناطق الأخرى الكثير من الطلائع، فضلاً عن أبناء الأحرار أنفسهم الذين انتقلوا إلى جوار آبائهم، ورضعوا منهم النضال، والمعرفة، أمثال الدكتور عبدالعزيز المقالح، وعبدالله عبدالسلام صبره، وعلي عبدالله السلال وغيرهم، وأصبح أولئك التلاميذ الصغار فيما بعد ثواراً، لعبوا دوراً مهماً ورئيسياً، في قيام ثورة سبتمبر المباركة عام 1962م، وفي كسر حاجز العزلة التي فرضها النظام الإمامي على البلاد، وسعوا لنشر التعليم في كل ارجاء الوطن، وخلق ثقافة وطنية جديدة تربط اليمن بالعصر، وتسعى للتخلص من عبء التخلف، والجهل، الذي أطبق على البلاد خلال النصف الأول من القرن العشرين.