مقالات
المقالح كلمة اليمن الخالدة (5)
ترسّخت في ذهن الطالب عبدالعزيز المقالح، وتأسست عنده روح التطلّع إلى الجديد، ورفض التقليد، منذ البدايات الأولى لتكوينه العلمي، وتحصيله المعرفي، مطلع الخمسينات في حجة.
كانت البدايات الأولى لدراسته على أيدي عدد من العلماء المستنيرين، من أتباع مدرسة الاجتهاد اليمني، الداعية إلى رفض التقليد، والمنادية بالتحرر من الموروث، وعدم القبول والتسليم بما هو سائد، أو تلقي الرؤى والأفكار بالقبول بدون أي تمحيص أو دليل، وقد كان لذلك أبلغ الأثر، بحيث دفعه إلى رفض التقليد، أو متابعة ما يقوله أساتذته، ومشايخه، لأن ذلك لا يعد تحررا، بل تقليد، كما عزز لديه العقلية النقدية، التي تجلت فيما بعد عبر مشروعه الفكري والنقدي، وكتاباته عن تاريخ الحركة الوطنية بروح علمية ونقدية فاحصة.
لقد عزز أساتذته عنده رفض التقليد، والانحياز إلى الإبداع والتجديد، يقول عن أحد مشايخه: "وكان أستاذنا الشيخ عالماً جليلاً وصل في علمه إلى درجة 'التسنن'؛ وكان التسنن يومئذ إشارة النضج وعلامة الاجتهاد. وعندما كان يردد كلمة 'مذهب'، وهي ترد في ثنايا الكتاب أكثر من مرّة في الصفحة الواحدة، كان يطلق الكلمة بصوت عال ثم يتلفت يميناً وشمالاً ثم يقول بصوت خفيض: "مذهبهم"، يعني مذهب الزيدية. وقد شجعنا هذا التصرف على الثورة منذ وقت مبكر على الزيدية، ودفعنا إلى تقليد الكبار في التسنن بالرغم من استنكارهم ونصائحهم الغالية بهجر التقليد، لأن التشبه بهم تقليد وليس ثورة" [د. عبدالعزيز المقالح - قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة - ص6].
ولم يكن معنى التسنن آنذاك هو اتباع أي من مذاهب الأئمة الأربعة، أو علماء وفقهاء السنة، بل التسنن في اليمن مرتبط بالاجتهاد، وعدم التبعية، والتحرر من أسر التقليد، بحيث كان "التسنن -قبل ثورة سبتمبر في عهد الإمامة- يشير إلى التغيير والثورة" [محمد صلاح - مدرسة الإحياء واليقظة الوطنية (3-3)- نشر على موقع بلقيس بتأريخ 30/08/2021]، ولهذا فإن راحلنا الكبير في انطلاقته إلى الريادة في الشعر الحديث، والتجديد في الثقافة الوطنية، لم يكن طارئا عليها أو مقلداً، أو انطلق إلى ذلك محاكياً لما وجده عند شعراء الجديد في البلاد العربية، بل انطلق رائداً ومجدداً، من قناعاته الراسخة بضرورة التطوير، فهو منذ البدايات مهيأ ومعدٌ لرفض التقليد، وعلى قناعة راسخة لديه بضرورة وأهمية التجديد، وهذا ما أعطاه مكانة رائدة في الريادة العربية في الجانب الشعري والنقدي.
وهذه المؤثرات الأساسية، والبذور الأولى التي كانت تبذر في وعيه، كان لها فيما بعد أبلغ الأثر في مسيرة الشاعر، والناقد، والمفكر الكبير عبدالعزيز المقالح، كما أنها تمدنا بمفاتيح فهم مشروعه التنويري والحداثي، ورفضه المحاكاة، والتقليد، أو السير فيما سار عليه الأولون، من جهة، ومن جهة ثانية توضح لنا عدم تبنيه الأطروحات السقيمة، والعقيمة التي يراها بعض دعاة الحداثة، ممن يرفضون التراث، باعتباره معوّقا، وغير قادر على مواكبة العصر، أو رافدا من روافد التحديث.
بعد أول محاولة من كتابة الشعر بحوالي عامين، كتب أول مقالة نقدية في عام 1955م في حجة، لمجلة خطية، كان يحررها مع بعض أصدقائه هناك، وكانت المجلة تحمل اسم "الرياضة"، لكنها في الأساس كانت ذات محتوى أدبي وفكري، وكانت هذه المقالة بعنوان "الزبيري ضمير اليمن الثقافي والوطني"، يقول عن تلك البداية: "وقد كتبت فيها أولى محاولاتي النقدية المبكرة، وفي هذه الفترة كتبت مقالاً نقدياً مطولاً عنوانه 'الزبيري، ضمير اليمن الوطني والثقافي'، واستعرضت فيه نماذج من شعر الأستاذ الزبيري الذي كان شائعاً في تلك الأيام ويتردد على ألسنة الأحرار وطلاب المدارس، واعتقدت أنني قادر على نشر ذلك المقال في صحيفتنا الخطية، لكني تراجعت خوفاً، ثم طويته بين أوراقي، لأن نشره -حتى وإن كان في صحيفة خطية محدودة الانتشار- يشكّل خطراً محققاً بالنسبة لي وللصحيفة الوليدة. فقد كان الزبيري -في ذلك الحين- رمز المعارضة الأقوى لنظام الإمام أحمد الحاكم بأمره، وكان مجرد الحديث عن القاهرة مركز نشاط الزبيري السياسي يعتبر تحدياً للإمام واستنزالاً لبطشه!!" [د. عبدالعزيز المقالح [الزبيري ضمير اليمن الثقافي والوطني]، ص7].
لقد ظل محور ذلك المقال حاضرا في ذهنه ووجدانه، إلى أن نشره بعد ذلك في مقالات وجمعت في كتاب واحد بعد قرابة 25 عاما، من بداية أول شرارة للفكرة. بل وأصبح حامي تراث أبي الأحرار، وناشر كتبه وأشعاره، بل وحامل راية التجديد الشعري بعده.
أما عن بداية النشر لكتاباته الشعرية، فقد كانت "أول محاولة شعرية نشرتها في صحيفة النصر التي كانت تصدر في مدينة تعز، وكانت القصيدة في ذكرى وفاة صديق، وقد رغبت أن تنشر تحت اسم: ابن الشاطئ - وهو الاسم المستعار الذي اتخذته لكي أوقع به إنتاجي الشعري على مدى خمس سنوات".
وقد نشر أول قصيدة باسمه الشخصي صراحة، بعنوان "من أجل فلسطين"، أذيعت من راديو صنعاء بعد افتتاح الإذاعة في العام الأول لميلادها سنة 1956م، ثم تلتها قصيدة: "شكوى الغريب"، وكانت قد نشرت في صحيفة "الرياضة" التي كان يعدها الشاعر مع زملائه خطياً في حجة، ثم نقلتها عنها جريدة النصر سنة 1957م.