مقالات
الوحدة والدعوة إلى الجمهورية (1)
كانت الشعوب في فترات تاريخية من حياتها، تتقبل وجود سلطة مطلقة، (رغم أنها مفسدة مطلقة)، لأسباب وظروف تتعلق بمواجهة الاعداء، الذين يهددون الوطن وبقاءه، أو لاستعادة أجزاء من البلاد يحتلها العدو الاجنبي، وتحت هذه الضغوطات كانت تقبل مضطرة بالسلطة المطلقة.
وفي بلادنا تربع على السلطة مطلع القرن العشرين الإمام يحيى حميد الدين، وقد تحقق له ذلك إبان صراع اليمنيين مع الأتراك. فبعد خروجهم من اليمن، تقبله اليمنيون باعتباره أحد قادة الاستقلال، وأن المخاطر ما زالت محدقة بالوطن، من الشمال (الأدريسي حليف بريطانيا)، والجنوب (الاحتلال البريطاني الذي يحتل الشطر الجنوبي من الوطن آنذاك)، لكنه عقب استقلال البلد، بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، سعى ليشيد حكما قروسطيا، وسلطة مطلقة، دون أن يقدم لليمن منجزا واحدا، أو يتقدم خطوة لمواجهة العدو الذي يحتل جزءاً من الوطن، بل زاد على ذلك أن مني بهزيمة مدوية نتج عنها فقدان اليمن أجزاءا منه على يد ابن سعود في مايو 1934م، وقبلها في شهر فبراير من نفس العام وقع اتفاقية مع المستعمر، استسلم بموجبها للسياسات البريطانية بخصوص المناطق المحتلة، وإن لم يتنازل عن تبعيتها لليمن.
بعد استقلال اليمن عن تركيا 1918م، كان المؤمل منه أن يتقدّم لتحرير بقية المناطق من المحتل الانكليزي، غير أن الإمام ماطل في ذلك، رغم الدعوات التي كانت تصله من بعض المناطق المحتلة تدعوه للتقدم من أجل تحريرها، وتحقيق الوحدة، وكانت أهم الدعوات هي تلك التي كان يوجهها علامة اليمن الكبير ومؤرخها عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف مفتي حضرموت، وذلك في آواخر العشرينات.
وقد جوبهت سياسات الإمام المتخاذلة في تحرير ما تبقى من المناطق اليمنية، بمعارضة من داخل صفوف العلماء في صنعاء، وكان أهم صوت ارتفع آنذاك هو صوت العالم اليمني أحمد الطرماح، الذي رفض سياسة الإمام الساعية لعقد اتفاق مع المستعمر، وصرخ في وجه الإمام بقوله: " "إذا كنا حاربنا الأتراك في شهارة ولحج فهل نهادن الإنجليز، إذا كان صراع الأتراك واجباً فصراع الإنجليز أوجب، ولسنا يا مولاي في قلة من المال حتى تنقصك الرجال" [عبدالله البردوني قضايا يمنية ص24] لكن الإمام لم يقبل بما طرحه عليه الطرماح، ومضى وفق نهجه وسياساته، والتي كانت تؤكد مع مرور الأيام بأنه مجرد جابي ضرائب لا قائد دولة.
وهنا يؤرخ أغلب دارسي الحركة الوطنية، بأن البدايات الحقيقية للتغيير في اليمن بدأت عند هذا التاريخ 1934، ولم يكن تأثير الهزيمة، والاستسلام للسياسات البريطانية، عبر تجميد الأوضاع في المناطق المحتلة في جنوب البلاد، قد انعكس على الطلائع اليمنية في الشمال، بل وكذلك في جنوب الوطن.
ففي رسالة من الاستاذ محمد علي لقمان إلى الزعيم التونسي عبدالعزيز الثعالبي، أحد قادة النهضة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، تطرّق فيها الأول إلى الانعكاسات السلبية لسياسات الإمام الخاطئة في التفاوض مع الانكليز، على الأوضاع القائمة في الجنوب، بحيث استغل الاستعمار الاتفاقية، الموقَّعة مع الإمام عام 1934م، في ترسيخ مواقعه داخل المحميّات. حيث جاء في رسالة لقمان، بتأريخ 13 أبريل 1935م: "اليمن يا مولاي ضاعت تقريباً كلها، فإن المحميات أصبحت الآن بعد اعتراف الإمام بتنازله عنها جزءاً من الإمبراطورية الحمراء (بريطانيا). وقد شرعت حكومة عدن تعمل بهمة ونشاط لتأسيس المخافر وميادين الطيران والمطارات ومحطات اللاسلكي وغير ذلك من وسائل سلب الحرية"، [عبدالعزيز الثعالبي، "الرحلة اليمنية"، ص237].
إن تنازلات الإمام وتفريطه في استعادة الجنوب بعد اتفاقية 1934 مع الاستعمار البريطاني، وهزيمته من السعودية، قد اعتبرته جميع القوى الوطنية في اليمن شمالا وجنوبا إعلانا مرا بالهزيمة، وانتكاسا للدولة الوطنية التي كان من المؤمل أن تحرر الأجزاء المستعمرة من جنوب البلاد، وتنهض لإقامة دولة يمنية حديثة، لا أن تتخلى عن أراض جديدة.
وقد اندفعت الطلائع اليمنية، التي شعرت بجرح كرامتها الوطنية، لتواجه الكارثة التي حصلت، وما نزل باليمن في ذلك العام، من تفريط ورضوخ واستسلام من قبل النظام الإمامي لتجزؤ الأرض والكيان اليمني، فبدأت حين ذاك تتبلور لدى الطلائع المستنيرة في مدينة صنعاء الأفكار الأولية لإصلاح منظومة الحكم، وفق ما هو متاح أمامها في ظروف تلك الفترة.
وقد ظهر أول ملمح، وأثر مكتوب عن تلك المرارة فيما خطه حكيم الثورة اليمنية، وأحد أوائل قيادات العمل الوطني في اليمن الشيخ حسن الدعيس، عقب هزيمة 1934م حيث وضع برنامجا تطرق فيه إلى إصلاح أحوال اليمن وأوضاعها، وتفادي ما جرى.