مقالات

بين مطهر الشاعر ومطهر المؤرخ: قراءة موسّعة في مقدِّمة المقالح وسؤال الهوية التاريخية (2-3)

05/06/2025, 10:31:17

تناولتُ في مقالي السابق مطهر الإرياني الشاعر، وأجلت الكتابة عن مطهر الباحث في اللغة اليمنية القديمة والمؤرِّخ المتخصص في قراءة نقوش المسند إلى الجزء الثاني، والمفترض أن يكون هذا المقال.

أعدت تصفّح مؤلفاته، وبينها كتابٌ خصصه لشرح نقوش مسندية والتعليق عليها، صدرت النسخة الأولى منه عام 1972 بعنوان "في تاريخ اليمن: شرح وتعليق على نقوش لم تُنشر - 233 صفحة"، والطبعة الثانية صدرت في عام 1990، مزيدة ومنقّحة بعنوان "في تاريخ اليمن - نقوش مسندية وتعليقات - 528 صفحة".

كتب الدكتور عبدالعزيز المقالح مقدِّمة الكتاب، وقد أثبتت في الطبعتين: الأولى المحدودة، والثانية الموسّعة.

في قراءتي للمقدّمة، أثار انتباهي ذلك التوتر الخفي بين تقديمه للمؤلف من جهة، وتحفّظه الحذِر على بعض مسارات مشروعه من جهة أخرى. فالمقالح لا يخفي إعجابه بمطهر الإرياني، ولا يقلّل من قيمة جهوده في الكتابة العلمية الموضوعية في التاريخ اليمني، وكيف تحوّلت على يده النقوش المسندية من كتابات ميتة على الصخور إلى حقائق حيّة نابضة تُلقي مزيدا من الضوء على تاريخنا القديم، لكنه طرح في ثنايا المقدِّمة رأيين ناقدين، رأيت أن من المُهم الكتابة حولهما؛ لا لمناقضتهما لجوهر المشروع الذي يمثّله المؤرخ، بل لِما يختبئ خلفهما من تصوّرات معرفية وفكرية متباينة حول وظيفة التاريخ وحدود استعادته.

الأولى حول العلاقة بين روح الشاعر وعقل المؤرّخ، وما يُفهم من تلميحاته أن رومانسية الشاعر أخّرت اكتشاف مطهر الإرياني لهويته الحقيقية، وكادت أن تحرمنا منه، حتى وجدها بعد عناء: الكتابة للتاريخ!

واضح هنا اعتقاده بانفصال الشاعر والمؤرّخ؟

أما الجانب الآخر، فيتعلق بما يشبه المرافعة الفكرية التي قدّمها المقالح دفاعًا عن تجاوز ثنائية "العدنانيين والقحطانيين"، بوصفها "مؤامرة" نتج عنها خلط تاريخ العرب بالأكاذيب والروايات الملفّقة. وهذه ذهنية تتجنّب تحليل الصراعات وفهم أسبابها، وتُفرغ القومية من طابعها الجدلي، وتراها كيانًا مصمتًا ومكتملًا.

هاتان الملاحظتان بدتا لي مفتاحاً مناسبا لإعادة النظر في الطريقة التي قُرئ بها مشروع مطهر الإرياني التاريخي، بل وربما في الطريقة التي نقرأ بها التاريخ نفسه حين يقع في تماس مع الشعر، أو حين يُطلب منه أن يتخلى عن صراعاته من أجل هوية مصمتة. 

لهذا السبب، سأُخصص هذه المقالة لنقاش النقطة الأولى، والمقالة التالية لتناول النقطة الثانية، ليس بهدف دحض ما ورد في تقديم المقالح، بل لفهم ما يكشفه ذلك التقديم من زوايا خفية في علاقة المؤرخ بذاته وبمحيطه، وفي العلاقة بين الحلم القومي والسردية التاريخية؛ وهما نقطتان تختلفان في الشكل، لكنهما تشتركان في المعنى والموقف من التاريخ.

-حس الشاعر؛ عين ثالثة للمؤرخ وليس عبئًا مربكًا لحفرياته في النقوش والتاريخ

بعد أن أشاد الدكتور المقالح في مقدِّمته بالمؤرخ مطهر الإرياني، وصنّفه ضمن 'المدرسة الجديدة' في كتابة التاريخ التي تضم المستشرقين الأجانب والمؤرخين العرب، وهي مدرسة تجاوزت سرديات جورجي زيدان، وحافظت على المسافة من “المتاهات الفنية"- ألمح إلى أن الشاعر "الرومانتيكية" في مطهر قد أخرّ ظهور المؤرخ، وكاد أن يحرمنا منه.

الفصل بين الشاعر والمؤرخ يتبدّى واضحا في هذه الفقرة:

"… إن هذه الدراسات الأكاديمية في جامعة القاهرة، وخصوصا في ألمانيا الغربية، ساعدت أيضًا على إنزاله من سماء الخيال الرومانتيكي إلى أرض الواقع، ونمَّت لديه روح البحث العلمى، وباعدت بينه وبين الأسلوب الشاعرى والإنشائى، وجعلت لغته أكثر ما تكون قربًا إلى لغة الباحثين، وهذه أظهر مميزات المؤرخ الحديث، ولكنه - وهذه شهادة له وعليه - لا يزال يتمتع برصيد ضخم من الرومانتيكية الشاعرة، إلا أنه قد عرف تمامًا كيف يصرف هذا الرصيد ويتصرف فيه، فهو عندما تشتد علية وطأة الحمى الرومانتيكية يفر مستنجدًا بالشعر فيطلق مشاعره الحبيسة فى قصائد غنائية جميلة، وأحيانًا ملاحم تاريخية طويلة".

وصفُ حسِّ الشاعر بـ"الحُمّى" يصدر من رؤيةٍ ترى البحثَ العلميَّ مجالًا منقطعًا كليًّا عن تكوينِ المؤرّخِ وعاطفتِه. هذا الرأي يمثل وجهة نظر تيار نقدي كلاسيكي يفصل بين "العاطفة" و"المعرفة"، بين "الخيال" و"المنهج"، وهو فصل أراه مضللاً، وبالذات في حالة مطهر الإرياني، وكأنَّه يأخذ عليه الجمع بين 'الشعر والتاريخ'.

مطهر الإرياني ليس مستشرقًا يقرأ النقوش المسندية بقلب بارد وذهن محايد؛ قراءته للتاريخ اليمني القديم هي نتاج تفاعل بين مؤرخ يحمل اليمن في مخيّلته ووجدانه، ولغة يمنية قديمة لا يمكن أن تكون بالنسبة له رموزا لغوية محايدة لا تعني له شيئًا.

كل حرف وكل اسم وكل حدث، تفصح عنه القراءة المتخصصة للنقوش المسندية، له دلالة عنده، ويبعث في مخيّلته أفقًا واسعًا من المعنى.

كلمات المسند تغدو شفرات يفك المؤرِّخ المتخصص ترجمتها الحرفية، ثم يعكسها ليقرأها ذهن شغوف بمعرفة تاريخه، يقرأها ويحوّلها إلى كتابة تستقصي أبعاد اليمن وتاريخها القديم، مناطقها وقبائلها وفلاحيها، وفنونها وملوكها ودولها وآثارها، وكل ما تركه اليمنيون الأوائل من موروث حضاري.

مطهر الشاعر، بحماسه وخياله، لم يكن نزعة إنشائية تربك مطهر المؤرخ، وتشوش حفرياته في اللغة والتاريخ.

كان حس الشاعر في جوار عقل المؤرخ عينًا ثالثة، ترى في نقوش المسند ما هو أبعد من كونها علامات لغوية؛ عين ثالثة تمده بشغف المعرفة، بالرؤية التي لا تكتفي بالتوثيق بل تحدس ما بداخل النقش المسندي، ونبض الروح التي خطته.

'حس الشاعر' هنا لا يعني المجاز البلاغي أو التهويم الذهني، بل يعني الانفعال الوجودي العميق أمام تاريخ اليمن، وما تركته الروح اليمنية من رموز في زمن ازدهارها الحضاري.

كأنّ ذلك الشغف العميق باليمن الحضاري القديم يعيد رسم تسلسل الأحداث كي يضيء للمؤرِّخ ما استغلق من معناها.

تمامًا كما يقول أينشتاين: "الخيال أهم من جمع المعارف".

كذلك كان الإرياني في لحظات بحثه عن هوية اليمن، لا يكتفي بالتحقيق الوثائقي، بل يشعل شرارة الخيال الخلاق التي تجعل من البحث الجامد رؤية مكتملة.

يتداعى أمام اسم القبيلة، المنطقة الجغرافية، القرية، المدينة؛ يستدعي تاريخها الممتد إلى الحاضر، اشتقاقات المسميات، وتفرعات وتبدلات يحدثها الزمن على الأفراد والقُبل والمناطق والخرائط. 

يحضر الموروث الشعري الشعبي لكل منطقة، يفك رموزها في النقش، ويعلق عليه بذهن العارف لما يعتنقه ويحيل إليه من معلومات وأحداث ومسميات.

تخصصه في قراءة نقوش مسندية تعود إلى فترات ما قبل الإسلام، وما قبل الميلاد، ليس منفصلا عن الروح التي كتب بها "المجد والألم"، روح شغوفة باستعادة تاريخ يمني قديم، بعضه هُمش واندثر بفعل الزمن، ومعظمه تم دفنه وتجاهله وطمسه عمداً في سياق صراعات سياسية متشابكة داخل اليمن وخارجها.

ما لمسه الشاعر المؤرّخ في النقش لا يمكن للمُتخصص في التاريخ واللغة القديمة أن يلمسه وحده.

مطهر الإرياني تخصص في التاريخ وكأنه يصلي لليمن.

كتب في مقدِّمة ملحمته "المجد والألم":

أيا وطني جعلت هواك ديناً

وعشت على شعائره أمينا

إليك أزف من شعري صلاة

ترتل في خشوع القانتينا

وفي الإيمان بالأوطان برٌ

وتقديسٌ لرب العالمينا

ما يميِّز مطهر الإرياني هو هذا الخيط الرابط بين النقوش المسندية وعقل المؤرخ ووجدان الشاعر.

كل التطوّرات المعرفية الحديثة -من تأويلات 'فوكو'، وأطروحات 'بول ريكور' ونظريات الراوي والذاكرة وحتى التاريخ الشفاهي- تؤكد أن المعرفة لا يمكن فصلها عن الذات المتكلمة، عن وعيها، ووجدانها، وحتى انحيازها المبدئي.

مطهر الشاعر لم يُضعف المؤرخ الدارس المتخصص، بل أعطاه بوصلة داخلية، جعل النقش ينطق بمكنوناته، والرمز يتنفس بروح صانعيه، والتاريخ يتحول من معلومة ميتة إلى إلهام يبعث مكنوناتها في روح اليمني هنا والآن.

الحنين لاستكشاف اليمن التاريخي القديم، وشغف الشاعر المحب لمعرفة كل تفاصيله وأبعاده، ليس إضعافًا لتخصص الباحث المؤرخ المؤهل علمياً، ولكنه يحفزه للاستناد إلى معرفته والذهاب أبعد منها في إعادة بناء السردية اليمنية.

مظهر الإرياني هو الضلع الثالث في مثلث، قاعدته أبو الحسن الهمداني، وضلعه الثاني نشوان الحِميري.

المدهش هو التشابهات بينهم، لا فحسب اهتمامهم بكتابة التاريخ اليمني، وإبقاظ الانتماء للهوية الحضارية اليمنية.

ثلاثتهم جمعوا بين إجادة كتابة التاريخ، والإبداع في كتابة الشعر.

وثلاثتهم استخدموا أساليب متنوِّعة في مساعيهم لإعادة بناء السردية اليمنية الثقافية، واستخدامها في محاولة استنهاض حس الانتماء للروح اليمنية التي بنت متحدات حضارية في التاريخ القديم.

لم يكن مخيال الشاعر معيقًا للباحث والمؤرخ والمؤلف الموسوعي، لا في زمن الهمداني ونشوان، ولا في زمن مطهر الإرياني حيث تطورت العلوم إلى المدارس والجامعات والأكاديميات والمناهج العلمية الحديثة.

-التاريخ والفيزياء وتأثير المؤرخ والراصد

لفهم العلاقة بين المؤرخ ومعطيات التاريخ الذي يدرسه، لا يكفي تحليل العلاقة بين الشاعر والمؤرخ، نحتاج أيضًا إلى إضاءة بُعد ثالث: كيف تتغيّر الحقيقة التاريخية حين تدخلها نظرة الراصد؟

ليست الفيزياء الحديثة وحدها ما يُصيب الحقيقة بالارتياب حين يدخلها الراصد؛ التاريخ أيضا، مذ صار علمًا يسعى لفهم ما كان، لا يفلت من ظل العارف وهو ينظر، هكذا تبدو عبارة كروتشه:

"كل تاريخ هو تاريخ معاصر"

هذه ليست حيلة بلاغية، بل مبدأ معرفي ووجودي معاً. 

فالتاريخ لا يُكتب من أجل الماضي، بل من داخل الحاضر، ومن أجل أسئلته العاجلة.

كروتشه، الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي، يرى أن التاريخ ليس تجميعاً للأحداث، بل إنتاج للمعنى في ضوء ما يقلق المؤرخ ويشغله. 

إننا لا نستعيد ما حدث، بل نعيد خلقه عبر مخيلتنا، قيمنا، وتحيّزاتنا.

وهنا، كما في الفيزياء 'الكمومية'، يدخل أثر الراصد. 

فالفوتون لا يتصرّف كجسيم أو كموجة إلا حين يُراقَب. والمعنى التاريخي لا يتشكّل إلا حين يُؤوَّل، المراقب يُنتج الواقع، لا يرصده فحسب.

لكن إذا كانت هذه الرؤية مثالية وفردانية في جذورها، فإن "التاريخ الجديد" -الذي ولد من رحم مدرسة الحوليات في فرنسا- يُكمل النقص، فهو يُعلّمنا أن التاريخ لا ينتمي للفرد فقط، بل لعصره، لطبقة الأسئلة التي تحكم رؤيته، ولمخزونه الثقافي والجمعي واللاواعي.

 فالمؤرخ لا يختار فقط ما يراه مهمًا، بل يُوجَّه، بشكل لا واعي، إلى ما يعتبره مجتمعهُ جديرًا بالكتابة.

وهكذا، يصبح التاريخ كالفعل الكمومي: حقل توتر بين الملاحَظ والملاحِظ، بين ما كان، وما نعتقد أنه كان، وبين بنية تحكمنا، وحدس يجعلنا نعيد تسمية الزمن.

التاريخ ليس أرشيفًا، بل سؤال حيّ.

ولعل أجمل ما في هذا السؤال، أنه كلما اقتربنا من جوابه، تغيّر السؤال نفسه وأحالنا إلى نقطة أعمق لها سؤالها وفرضيات تفسيرها وتأويلها.

لنذهب أبعد في تأمل التشابك بين مخيال العالم ومعرفته ومعطياته حول موضوع بحثه.

ثمة ظاهرة مدهشة تتكرر في تاريخ العلم الطبيعي، من فيزياء وكيمياء وبيولوجيا، حيث يصل أكثر من عالم إلى العتبة نفسها من الاكتشاف، في التوقيت ذاته تقريبًا، وبالمعرفة ذاتها، لكن وحده من يمتلك تلك القفزة غير القابلة للتفسير، المزيج الغامض من الخيال والحدس والبصيرة، هو من يعبر العتبة.

الفرق لا يكون في وفرة المعلومات أو دِقة الحساب، بل في تلك اللحظة التي تتجاوز العقل التحليلي، وتُشبه ومضة شعرية داخل ذهن علمي.

'نيوتن' و'لايبنتز' توصلا إلى حساب التفاضل والتكامل بشكل متزامن تقريبًا، لكن نيوتن هو من طبّق هذه الرياضيات على حركة الأجسام، وجعلها تصوغ قانون الجاذبية.

 لم تكن "تفاحة نيوتن" مجرد لحظة مادية، بل رمزًا لرؤية غير مرئية، لحقل كوني خفي يؤثر دون لمس.

كذلك بول ديراك، حين كتب معادلته الشهيرة، لم يكن يصف ما هو معروف، بل ما ينبغي أن يوجد. قال ذات مرة: "الطبيعة تعتمد على مبادئ رياضية دقيقة، وإذا لم يكن الواقع جميلاً فأنا لا أصدّق أنه حقيقي".كان يؤمن أن الجمال الرياضي وسيلة لاكتشاف ما لم يُكتشف بعد.

أما آينشتاين فصرّح بوضوح: "الخيال أهم من المعرفة؛ لأن المعرفة محدودة، أما الخيال فيطوّق العالم".

وأضاف في موضع آخر: "لا يمكن للمنهج العقلي وحده أن يقود إلى الاكتشافات الكبرى، بل هناك شيء غير قابل للتفسير، أشبه بالحلم أو الإلهام، هو الذي يصنع الفارق".

ولعلّ ميخائيل فراداي، الذي لم يكن يملك لغة المعادلات، جسّد هذا المعنى بأدواته التجريبية وحدسه الغريزي، حين تصوّر خطوط الحقول المغناطيسية، قبل أن يترجمها ماكسويل لاحقاً إلى معادلات رياضية.

تُشير هذه الحالات إلى ما يتجاوز التخصص والانفصال الصارم بين الحقول. فالعالم الذي يرى بعين الخيال، يُشبه الشاعر الذي يرى ما لا يُقال.

إذا ما انتقلنا إلى علم التاريخ، والمناهج الحديثة في كتابته سنجد التشابك أكثر اتساعًا بين المؤرخ وموضوعه.

يشير نادر كاظم في كتابه "الهوية والسرد"، مستندا إلى أطروحات بول ريكور، أن الهوية ليست جوهرا مكتملا نعود إليه، بل بناء سردي يتشكل عبر التمثيل والتأويل، ومن خلال صراع الحاضر مع روايات الماضي. فالتاريخ لا يُستعاد بوصفه وقائع صلبة، بل يُعاد تشكيله سرديا، عبر ما يسميه ريكور "التأويل السردي للزمن".

بهذا المعنى، تصبح الكتابة التاريخية فعلاً إبداعياً ينتج الهوية بقدر ما يعبّر عنها، وتغدو شخصيات مثل مطهر الإرياني جزءًا من هذا التشكّل، حيث يتداخل المؤرخ والشاعر في حياكة سردية لا تبحث عن الأصل فحسب بل تعيد ابتكاره.

وبالمجمل، يبدو من المتعسف الفصل بين مطهر الإرياني الشاعر ومطهر الإرياني المؤرخ. فالمخيلة، التي تهجس بالمجاز، قد تكون هي ذاتها التي تُنقّب في طبقات التاريخ، لا بحثًا عن وقائع فقط، بل عن معنى يختبئ خلفها وبين ثناياها وتفاصيلها.

-ما يشبه الخاتمة: الهوية في زمن التمزّق والشتات

يتم الحفاظ على بقاء الأمة بطريقتين: بدولة تقوم على المواطنة المتساوية وسلطة القانون، وبهوية ثقافية وطنية نابعة من تاريخ الشعب وذاكرته الحضارية.

وفي اليمن، حين سقطت الدولة، لم يبقَّ سوى الهوية ملاذا أخيرا يلوذ بها اليمني، وملتمسًا فيها سندا للنجاة من التشظي وعودة الهويات ما قبل الوطنية.

ولكي تنهض الهوية الوطنية بدورها الجامع، لا بُد أن تكون متصالحة مع الدولة الحديثة، ونافخة في روحها، لا نقيضًا لها. هذه الهوية، التي تجسدت في ذاكرة اليمنيين قبل أن تنبثق دولتا الشمال والجنوب التي شكلت الجذر العميق لوحدة 22 مايو، هي ذاتها ما ينبغي إنقاذه اليوم من موجة التفكك، وتلخيصها المعاصر يتجلى في ثلاث كلمات: الجمهورية، الوحدة، الاستقلال.

وفي هذا المسار، يبرز مطهر الإرياني، شاعرا ومؤرخا ولغويا، كأحد أعمدة الذاكرة الثقافية التي يستعيدها اليمني في محاولته للتماسك، للحفاظ على المعنى، وعلى الروح حين يبدو أمامها أن كل شيء في طريقه للانهيار.

مثّل الإرياني رابطا عضويا بين الشعر والهوية، بين الحفر في التاريخ والبحث عن أفق، بين اليمني في وجدانه واليمن في نقوشه، بين الحلم بالدولة واستعادة الذات.

وهكذا، أرى الكتابة عن مطهر الإرياني فعل استدعاء للممكن؛ لأن أمثاله لا يموتون، بل يبقون معنا بإرثهم ومؤلفاتهم وأشعارهم.

وفي ما نحتاجه بشدة: ذاكرة تلملمنا، وهوية توحِّدنا، وصوت يقول في وجه الانقسام: "أنا اليمن".

مقالات

العيد كصورة بلا روح

تكن البشرية بحاجة إلى العيد، فالفرح لا يُختزل في طقس، ولا تُولد البهجة من إعلان مؤقت، ولا يُستدعى الابتهاج بأمر إداري، ذلك أن الفرح في جوهره ليس احتفالًا، بل انبثاق. يمكنك أن تفتعل لحظة من اللاشيء

مقالات

أبو الروتي 38

كان المعتقل عبارة عن حوش كبير في مدينة الشيخ عثمان. وعند وصولنا وجدناه مليئًا بالمعتقلين، وأغلبيتهم من أعضاء جبهة التحرير والتنظيم الشعبي - الذراع المسلح لجبهة التحرير - وكانت تهمتي أنا وأخي سيف أننا أعضاء في جبهة التحرير، بدليل السلاح الذي وجدوه بين الحطب في سقف الفرن.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.