مقالات
الوضع الثقافي في اليمن ومنتوج الانقسام!!
مساء السبت الماضي الموافق 17 أبريل، كنت متحدثاً رئيسياً، عبر تقنية الزوم، عن الوضع الثقافي في ظل الحرب الدائرة في اليمن، التي نظمها "ملتقى شباب الاشتراكي" في الخارج، بمشاركة فاعلة من أساتذة وزملاء، أثروا الأفكار -التي قدّمتها- بنقاشاتهم، واستفساراتهم النابهة. جملة الأفكار التي طرحتُها دارت حول ثلاث نقاط رئيسية:
الأولى: اتصلت بمقاربة حالة الانقسام التي يعيشها المثقفون، وكيف أن الحرب ورعاتها ومموليها وأدواتها في الداخل لعبوا جميعاً دوراً سلبياً في تفجير هُويات عصبوية متخلّفة في أوساط المثقفين، التي ابتدأت بالاستقطابات القويّة داخل بنيتهم، وانتهت بالكثير منهم بالتحوصل داخل هُوياتهم الأضيق (السياسية، والمناطقية، والطائفية)، حين لم يجدوا مؤسسات الثقافة، التي ينتمون إليها، قادرة على حمايتهم، والتعبير عن استقلاليتهم، وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها، فصاروا -خلال سنوات الحرب السبع- عنواناً لانقسام المجتمع، عوضا عن وحدته وتماسكه. بل وصاروا عنوناً لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات، لأنهم لم يستطيعوا تشكيل صوت نابذ للحرب، ومجرَم لها، بسبب الضغوط الشديدة التي مُورست عليهم، والأخطر بسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية، التي من المفترض أن تكون عابرة للجغرافيا، والطائفة، والعائلة.
أشرت -في هذا السياق- إلى أن تدمير الثقافة بالإفساد، وتفريغها من مضامين الحداثة والحُرية، قد أفضى إلى إفساد دورة الحياة في المجتمع، بما فيها الحياة السياسية، ونخبها (أحزاباً وأفراداً)، التي سرَّعت، بفعل فسادها، في تعاظم هذا الانقسام المُميت في المجتمع، الذي لا يمكن أن نتجاوز تشظياته، إلا بنبذ الحرب وتجريمها بالكيفية النابذة للاستبداد والقهر ذاتها، من خلال اصطفاف قوي في إطار مشروع وطني جامع يعبِّر عن تعدد المجتمع، وحق الجميع في التعبير عن ذواتهم وحاجاتهم، بوصفهم مواطنين أولاً، وأفرادا تقوم علاقتهم بالدولة بالمباشرة، تماما كعلاقتهم بالدين دون وصايا من السلطة القاهرة للجماعة والطائفة والحزب والمنطقة.
الثانية: خاضت في معاينة تاريخية لنصف قرن، تتصل بأنموذج الانقسام المكثّف في حالة اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين، وتمّت المقاربة فيها لمحطات حيوية في مسيرة الاتحاد منذ سنة التأسيس في العام 1970، حين اُعلن عن هيئة تسيير للاتحاد في مدينة عدن، كتكتل ثقافي يعبِّر عن وحدة أعضائه في الشمال والجنوب، بسبب وجود سلطتين في بلد واحد، وكان الخطاب السياسي وفعله الواضح مشغلاً حيوياً في ظاهرة الاتحاد طيلة عقدين.
أما في المؤتمر العام الخامس للاتحاد، الذي انعقد خريف عام 1990م في مدينة عدن، كان قد بدأ السؤال الأخطر بالتشكل، الذي لم يُقرأ بعناية كافية وقتها، وهو: ما الذي تبقّى من الاتحاد بعد عشرين عاما من حضوره في حياة اليمنيين كمرموز ثقافي وسياسي موحّد، خارج رغبة العقل السلطوي التشطيري ووعيه؟
متوجبات هذا السؤال وحافزاته تأسست على قاعدة أن الشعار، الذي تكتل تحته الأعضاء والمنتسبون خلال السنوات العشرين بين 1970 - 1990، كان يقول «تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة»، ولأن الوحدة صارت حالة متحققة منذ أواخر ربيع العام نفسه، كان لا بد من إعادة بلورة شعار وخطاب جديدين لعمل الاتحاد، يخفف من الحمولة السياسية الثقيلة، التي وُضعت على ظهره لعقدين.
في المؤتمر العام السادس، الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1993م (عشية اندلاع حرب صيف 94)، بدأت تظهر شهية المتصارعين لتجيير موقف الاتحاد لمصلحة خطاباتها وتكتيكاتها السياسية، غير أن الاتحاد خرج من هذا المؤتمر متماسكا، لكنه بعد انقشاع الغمامة الصفراء للحرب وجد نفسه عاريا من دون مقرّاته الرئيسة في عدن والمحافظات الجنوبية، التي اجتاحها تحالف السلطة في صنعاء.
بعد هذه الجائحة بدأت تتشكل في المحافظات المقهورة ردة فعل رافضة لعملية الإخضاع، والانحراف بمسار الوحدة إلى ما تشتهي رغبات المنتصر، التي عملت على تجريف إرث دولة الجنوب الثقافي والاجتماعي، وثرواتها، التي رأى فيها أبناء هذه المناطق ومثقفوها احتلالا مضمرا.
وفي المقابل، كانت مرحلة اللاتوازن في عمل اتحاد ما بعد الحرب استجابة لهذا الطارئ النفسي لمنتسبيه في الجنوب، الذين كانوا يرون الاتحاد جزءا من ذاكرة جغرافيتهم؛ إذ شهدت ولادته وتملّك مقراته، وبها أصدر مجلته «الحكمة»، إضافة إلى عملية نقل إدارته المركزية ومجلته إلى صنعاء، ابتداء من منتصف التسعينيات، كان عند معظمهم نوعٌ من تجيير تاريخه الرمزي.
ربط الاتحاد بالمؤسسة البيروقراطية للنظام المركزي بإعادة تسجيله مثل أي جمعية خيرية، ودمج مخصصاته بموازنة وزارة الشؤون الاجتماعية، أمور ساعدت على تدجينه، وانخفاض صوته السياسي، وساعد في ذلك أيضا تواري قياداته الوازنة والمؤثرة، إما بالموت، أو بالإزاحة، أو بإعادة ترتيب أوضاع البقية منها في مواضع حزبية ووظيفية، فصار الاتحاد كموقف وحضور استجرارا لماضيه.
وما لم يستطع النظام فعله طيلة رُبع قرن فعله في سنوات قليلة من خلال فرض المحسوبين عليه، ومتساقطي الأحزاب في مواقعه القيادية، من خلال إعادة شروط التمويل والدعم أو شراء أصوات مقترعي المؤتمرات، وكان الهدف من ذلك توظيف إرث الاتحاد وتاريخه ضمن عملية تنصيع صورة النظام الشائهة، حين بدأ بتقديم تجربة الحكم الهلامية في البلد المتخلف بوصفها ديمقراطية ناشئة، بحاجة للإعانة والدعم الخارجي.
بين المؤتمرين السابع 1997م والتاسع 2005م، استنفد الاتحاد كل إرثه السياسي تقريبا، غير أن شريانه اليابس ترطّب بدماء شابة من أديبات وأدباء، أكثر صلة بالشأن الثقافي والأدبي، وإن كانت أقل خبرة نقابية وسياسية، فبدا أكثر اعتلالًا في شقه السياسي، لكنه أكثر تعافيا في نزوعه النقابي وحضوره الثقافي المتعززين بحالة الاستقرار المالي، فعادت إليه روح مختلفة، تحلّق به في فضاء نوعي يقترب من الطبيعة الحقيقية في وجوده، فكان مشروع الإصدار وانتظام مجلته، وتنظيم مناشطه الثقافية والأدبية.
ومع كل ذلك، كان يلاحظ أن مسألة "المركزة" واستبداد الجغرافية في الوعي التشطيري هي التي تعمل بكفاءة عالية في بنيته التنظيمية، فتحوّلت الفروع إلى أطراف مهملة لا يُلتفت إليها إلا في أثناء التحضير للمؤتمرات، بوصفها خزان أصوات يغترف منها مرشحو دوائر الحاكم، فكان في الغالب يعاد ترتيب وضع المجلس التنفيذي والأمانة العامة بغلبة المركز ومزاجه، حتى بأولئك المحسوبين على الجنوب، واستقروا في صنعاء وسكنتهم رغباتها.
في مطلع عام 2007م، بدا الصوت الخافت يعلو تحت سقف «الحراك السلمي» في الجنوب… الكثير من فاعلي الحراك وناشطيه رأوا أن استعادة الدولة لا يمكن أن تتم إلا بتكوين قطاعات مهنية ونقابية يُلتف حولها، لتصير هي المحور القائد في تكتيل وتنظيم منتسبيها لإسناد خطوات «تقرير المصير»، فظهرت أصوات تدعو إلى تشكيل رابطة للصحافيين الجنوبيين، وأخرى للأكاديميين، وثالثة للفنانين، وبدأ الصوت الداعي لتشكيل اتحاد أدباء وكُتاب جنوبي أكثرها نشازا وانفلاتا، وسَهُل شيطنته بداية الأمر، في سياق الخطاب الرسمي المناهض للحراك، غير أن الأمر كان قد بدأ يتعزز في وعي شريحة الانتساب هذه، فأبانت أكثر الأصوات عقلانية فيها عن مبادرات لحل المعضلة باقتراح «فدرلة» الاتحاد بوضعين جغرافيين «اتحاد للشمال ومماثل آخر للجنوب»، حتى إن هذا الاقتراح نُقل إلى اجتماعات رسمية تخص المجلس التنفيذي والأمانة العامة، في تجاوز يجرِّمه في الأصل النظام الداخلي ولوائحه.
في مايو 2010م، انعقد المؤتمر العاشر في عدن، في وضع شديد التعقيد، فالبلاد كانت تنزلق إلى الانفجار. الشحن المناطقي كان قويّا والوعي التشطيريّ كان يعمل بوقود الظلامة السياسية؛ لهذا انشطر المجلس التنفيذي المنتخب إلى كتلتين متساويتين ومتباينتين «شمالية وجنوبية»، تعبيرا عن الانقسام البائن في جسم الاتحاد، الذي اختزل الانقسام الفعلي في المجتمع وعبَّر عنه، لهذا لم تتشكل الأمانة العامة إلا بعد مُضي أربعة أشهر من انعقاد المؤتمر في سابقة خطيرة، وتشكلت بمزاج المحاصصة أيضا، وبالتناصف «شمال وجنوب».
لم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى كانت ثورة فبراير 2011م تعرِّي النظام، وتكشف هشاشته.
ساحات الشمال كانت تطالب بإسقاط النظام، وساحات الجنوب كانت تطالب بإسقاط الوحدة، وليس للاتحاد من صوت واضح حيال ما يجري.
وفي هذا التوقيت تحديدا، بدأت الاستقالات من عضوية الأمانة والمجلس من أسماء جنوبية وازنة، أعلنت صراحة سعيها لتشكيل اتحاد أدباء وكُتاب جنوبي. تعطل انعقاد هيئات الاتحاد بسبب الاستقالات، وغلق مقاراته؛ بسبب قطع التمويلات الحكومية في منتصف عام 2014م، لتأتي حرب عام 2015م، واجتياح الجنوب مرة أخرى.
بروز المجلس الانتقالي كوريث لكل فصائل الحراك، ومعبّر سياسي وأمني لصوت فك الارتباط مع الشمال في مايو 2017م، كان اللحظة المثلى التي استثمر فيها الصوت الداعي لتشكيل اتحاد أدباء وكُتاب الجنوب، الذي استطاع -في ذكرى استقلال الجنوب في 30 نوفمبر 2018م- إعلانَ هذا الكيان، وبدعم من المجلس، كتعبير جليّ عن موجة سياسية عاتية أكثر منها فعلا ثقافيّا ونقابيّا يمكن ترسيخه كمفهوم للتنوع.
النقطة الثالثة حاولت فيها تقديم صورة عابرة لفعل المقاومة بالكتابة، الذي ينتهجه أدباء وكُتاب ومثقفون وصحافيون وفنانون يمنيون مشتتون داخل البلاد، وفي القارات الخمس، وكيف أنهم بدأبهم استطاعوا تقديم صورة مختلفة وخلاقة عن اليمن، بعيداً عن تلك الصورة المنمَّطة التي توصِّف اليمن كجغرافية نائية وهامش قصي، وإن نتاجهم الإبداعي والمعرفي صار فاعلاً ونشطا داخل دورة الحياة الثقافية العربية، ولعبت الإصدارات الورقية في الخارج والداخل فعلاً حيوياً لمقاومة عملية التجريف التي انتهجها المتحاربون لطمس الهُوية الحضارية الجامعة لليمنيين.