مقالات
الوعي المناطقي واستفحاله في اليمن؟
في استدراك ثانٍ لقضية التشكّل المناطقي في اليمن المعاصر، نسعى في هذه المقاربة الإمساك بأهمّ محطات تضخّم هذا الدّاء في وعي المجتمع، الذي يبرز مستشرساً مع كل أزمة تمرّ بها البلاد، ويتشكّل بملامحها العبوسة، بوصفه مشكل مستفحل ومستدام في حياة اليمنيين(*)
في واحدة من افتتاحيات 'مجلة الحكمة'، التي كتبها رئيس التحرير الراحل الكبير عمر الجاوي في مارس 1987م، مستشرفاً الحالة العامة للبلاد المشطورة في ذلك الوقت أشار إلى أن "كل ما هو قائم الآن في وضعنا اليمني يُفرح الانفصاليين، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين يريدون 'بيع أراضي اليمن لغير اليمنيين'
لقد أزداد حجم الخطر في الوطن بكامله، لا بسبب جهلنا بالمؤامرة التي تحاك ضد شعبنا، وإنما لغياب الخطاب الوطني، ولاتساع مدى المصالح الانفصالية وانتعاش المخلّفات المغرقة في الرّدة والتراجع عن أهداف ثورتنا اليمنية.
ولا يقوم الأعداء بمعجزة مهولة نجهلها ولا نستطيع صدها، وإنما نحن الذين نقدّم لهم التربة الصالحة للتآمر وعلناً، لأننا فضّلنا القبيلة والطائفة والسلالة والمنطقة على الوحدة الوطنية لشعبنا في صالح الفائدة اليسيرة لجزء منه.
هناك أخطار واضحة أمامنا على قضيتنا الوطنية ووحدة يمننا تؤكده خلخلة قائمة في انتظام صفوف الوطنيين وصراع اتخذ طابعاً منافياً للتحالف المطلوب، الأمر الذي أنعش الأحزاب الانفصالية.
أما الحل فيكمن في الحوار العلني بين الأطراف الوطنية لا يجاد هذا التحالف مقابل التحالف المصنوع من الخارج للقوى الرجعية، وبمقابل الانتعاش المصنوع للأحزاب الانفصالية التي خرجت من السيادة الوطنية بعد تكريس الانفصال". (**)
يزيد عمر هذه الافتتاحية عن ثلث قرن من الزمن، غير أن سطورها تقول إنها كتبت لتجيب عن أسئلة حيوية تنتجها لحظة الشقاء الكبرى التي نعيشها في وقتنا الحاضر، الذي استفحل واستشرس فيه الوعي التفكيكي بمحمولاته المناطقية الفجّة، الذي لم يخجل أصحابه من قضايا بيع أرض اليمنيين لغيرهم، فما بالنا بعملهم الدؤوب على الضدّ من أي تحالف وطني يناهض المؤامرات التي تحاك ضد الشعب اليمني ومقدراته وإرثه الحضاري الذي يتجلّى بتعدد ثقافاته ومذاهبة وأجناسه.
(2)
بعد عام واحد من تفجّر الحرب (18 مارس 2016) كتبت موضوعاً تحليلياً ضمن ملف عن حالة اليمن في الآداب 'البيروتية'، كان عنوانه "مدخلات متعددة لأزمة مستدامة أفضت إلى حرب لا يمتلك طرف بعينه قرار إنهائها في الوقت الراهن"،
معتبراً أن "الترحيلات الطويلة، لاختلالات المسألة الوطنية، من أكثر المُدخلات صلابة، للأزمات المستدامة في هذا البلد المنهك سياسياً واقتصادياً.
فقد عمل الوعي السياسي المرتبك، على إنتاج وتكريس منظومة حكم، اعتمدت في إدارتها للشأن العام على تقسيم اليمن إلى ثُنائيات متعارضة لم تسمح، ومثل أي سلطة استبداد، بمقاربتها بالدرس والتحليل في أكثر المنعطفات قسوة ودموية. أما أكثرها اختزالاً هي ثنائية الجغرافيا والمذهب في اليمن المجزأ، وأضيفت إليها ثنائية الأصل والفرع في اليمن الموحّد. وهذه الثنائيات أنتجت تفريعاتها (الظلية) النشطة، التي كانت تبرز مع كل أزمة تدخلها البلاد"، ومنها استطالة الخطاب المناطقي ووعيه الجمعي الفاعل.
معالم بروز الوعي المناطقي خلال السبعين عاماً الماضية يمكن تعيينها في القراءات الفاحصة للخطاب السياسي الذي تشكّل في عدن أواخر أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي، التي جسَّمت النزوع الاقصائي الانغلاقي لبعض التكوينات السياسية والاجتماعية (الجمعية العدنية 1949م)، لأن ما قبل هذا الخطاب لم يكن مطروقاً في الكتابة السياسية، التي استوعبتها الصحافة الجديدة في المستعمرة الإنجليزية.
هذا الخطاب استجلب إليه نُخب المدينة التي كانت ترى أن عدن لا يمكن لها إلاَّ أن تكون لعدنيي المخْلقة الانكليزية (الذين يحملون شهادة ميلاد تُصدرها الدوائر الصحيّة والبلدية في المستعمرة البريطانية)، وإن الوافدين إليها من سكان المحميات وعرب 'المملكة المتوكلية' ليسوا أكثر من عابرين في وقتها وجغرافيتها، استوجب وجودهم، بوصفهم قوى عاملة رخيصة، ذلك التصاعد العمراني والنمو الاقتصادي الذي شهدته المدينة بعد أن صمتت مدافع المتحاربين في أوروبا وشرق آسيا (دول المحور والحلفاء)، وتحول عدن بعد الحرب الثانية إلى مركز متقدّم (عسكري وخدماتي) للقوات الإنكليزية في المنطقة.
وبالمقابل أظهر "حزب رابطة أبناء الجنوب 1951م" نُزوعاً مناهضا لهذا الصوت، بخلق مساحة تشاركية أوسع من نٌخب الجنوب (سلاطين وزعماء قبليين وبرجوازية ريفية ومثقفين سياسيين)، فبدأ هذا التوجه أكثر وطنية وشعبية في انتمائه الجنوبي، الذي أصبح في أدبياته السياسية "الجنوب العربي"، بوصفة جزءا من الأمة العربية والإسلامية، لا علاقة له بالهُوية اليمنية!!.
ورداً على هذين الصوتين، بدأت تتأطّر المكونات المقْصيَّة والمهمَّشة من الوافدين في النقابات العمالية، التي أخذت زخمها في مارس 1956 بتشكيل اتحاد نقابات العمال؛ وفي ظرف أعوام قليلة تحوّلت النقابات، ومؤتمراتها العمالية إلى خزان بشري، يرفد القوى السياسية والكفاحية الجديدة المناهضة للاستعمار بالمئات من الأعضاء المتحمّسين، الذين وقعوا تحت تأثير تبشيرات الخطاب القومي (البعثي أولاً والناصري تالياً)، الذي وعد الجميع بالوحدة والتحرر والرّفاهية!!
فالجبلي (توصيف الاستنقاص)، الذي أطلقه الوعي الشعبي على كل وافد من الريف إلى عدن، تحول، بفعل التغيرات التي شهدتها البلاد في أوجّ الزخم القومي، إلى رقم فاعل في إطار المعادلة السياسية، وفي ممارسة النّخبة التي أمسكت بالسلطة لاحقاً، وتحوَّل صوت إلغائه السابق الى مجرد ذكرى مجرَمة، وتحول مشروع اندماجه إلى حقيقة فرضتها طبيعة التحولات آنذاك. فعدن الجديدة صارت تعبِّر عن تعدد يمني واضح، وصارت تتباهى بمنجزها هذا على غرار تباهي الصوت القديم بـ"كوزموبوليتية" المدينة في أوجّها الاستعماري.
ومع ذلك لم يمت الصوت الإقصائي والانعزالي، بل ظل كامِنا في التحوّل ذاته، وكان يعبِّر عن نفسه أيضاً في إطار بنية الحكم الجديد، التي تسرّب إليها على قاعدة التكيّف، تماماً كما تكيّف سدَنة الإماميين مع خطاب الثورة وأذابوا رموزهم الجديدة في جسمها.
كان يرى الصوت الإقصائي الكامن في السلطة الجديدة بعد الاستقلال - وعلى عكس الوحدويين الفوريين - إن التمايزات الجوهرية بين الجنوب (التقدمي) والشمال (الرجعي)، تجعل من أمر الوحدة مُعضلة حقيقية، دون إنجاز عملية التحول المنظور في بِنية المجتمع في الشمال نحو الاشتراكية، غير أن أحداث يناير 1986م كشفت هول الكارثة، وإن القشرة الخارجية للخطاب الأيديولوجي كانت تغطّي على تناقضات قاتلة في تركيبة المجتمع القبلي في الجنوب، الذي انعكس على تنازعات السلطة على أساس مناطقي واضح. ومن نتائجها كان ذلك الفرز والإقصاء للمواطنين على أساس الهُوية. هذا الزلزال أيقظ الناس من وهمهم الطويل مُتيحا للتيار الوحدوي الفوري التعبير عن نفسه بقوّة ووضوح، منقاداً ببوصلة حلمه الرومانسي الثوري في الوحدة، التي ذهب إليها، في ذروة التحولات في العالم وعلى رأسها سقوط المعسكر الاشتراكي!!
لكن بعد أشهر قليلة، ستظهر التناقضات الحقيقية في بِنية الحكم الجديد، وتقاطع مصالحها، فبدأت تتأسس تحالفات عسكرية وقبلية وسياسية، لخوض غمار معركة تصفية حسابات مؤجّلة، أخذت في ظاهرها طابعاً سياسياً، وفي باطنها نزوعاً ثأريا لم يخلُ في كثير من تجلياته من بُعد مناطقي، خصوصا تلك التي أعادت الصورة الدامية لأحداث يناير 1986م، حين عاد مهجرو الفصيل المنهزم من أبناء "أبين وشبوة" كطرف منتصر في حرب 1994 (في إطار تحالف استباحة الجنوب).
تداعيات الحرب ونتائجها (الضم والإلحاق والسيطرة والنهب باسم الوحدة)، أفضت إلى خلق هذا الشعور التذمّري، الذي تحول بعد سنوات قليلة إلى صوت قوي رافض للهيمنة والاستبداد لتحالف الحرب إياه.
غير أن هذا الصوت، الذي تعاظم وتقوّى بمرور الوقت، بدأ في انتاج انغلاقيّته وانعزاله، فاعتبر كل ما هو شمالي عدوّه، مُتيحاً للوعي الشعبي إنتاج ملفوظ "دحباشي" عوضا عن "جبلي" ككلمة "تدوين واستنقاص" ضداً على كل ما هو شمالي!.
فالعامل البسيط (في المقهى والمطعم والدّكان والورشة والبسطة) صار مُشيطناً في هذا الوعي، الذي بدأ بالذهاب نحو التطرّف، حتى غدا "الدحباشي" في هذا المسار سبباً في مصائب الجنوب ونهب ثرواته، وعزز من ذلك العمل المُمنهج للأجهزة، التي كانت تعتقد أن ضرب الجميع بالجميع سيُبعد القوى المؤثرة في المجتمع عن مساءلة نظام الحُكم ودوائره المتورّطة في الاستبداد والفساد.
وبمرور الوقت، صار المُضطَهد يبحث عمن هو أضعف منه لاضطهاده، في تركيم فاضح لعقد النقص، وعدم الاستواء النفسي والثقافي. وهي قضايا كان بالإمكان "معالجتها" لو أن مشروعا وطنياً مناهضا للاستبداد والفساد، وصل إلى عقل المجتمع قبل وجدانه بكثير من المكابدة، بدلاً من الاشتغال على موضوعات التقاسم السياسي، وتشبيك المنافع الصغيرة على حساب مصالح المجتمع ومكوٍّناته، التي بدأت أنسجته بالتهتك، جراء الأزمات المتعاقبة، التي أفضت في منعطفها الحاد والأخير إلى هذه الحرب، التي قوَّت خطاب الكراهية، الذي يكتسي الآن من خلال حضوره على الأرض، بهذا النزوع العنصري الأهوج، في مدينة ألهمت المنطقة برمّتها معنى التسامح والتعدد.
(*) نشرت الموضوع الرئيس تحت عنوان "المناطقية داء اليمنيين العضال" في مايو من العام 2018م بمعظم المحتوى المستوعب في الفقرة الثانية.
(**) افتتاحيات الحكمة (مختارات 1971-1989م) ص306 وما بعدها / كتاب الحكمة (3) اتحاد الأُدباء والكُتاب اليمنيين – ط1 بيروت 1989م.