مقالات
اليمنيون في الشتات: التغريبة الأولى.. مخافة ومجاعة و"إمام" 4-2
معلومٌ أن الهجرةَ والاغتراب ظاهرةٌ تاريخيةٌ في حياة اليمنيين منذ قرون؛ لأسباب مختلفة، وذلك كما حدث بعد انهيار سد مارب العظيم، ونزوح اليمنيين إلى العراق والشام، أو عند مشاركة اليمنيين الفتوحات الإسلامية، شرقاً وغرباً، حيث استقر بعضهم في بعض البلدان، ولا يزال الكثير من عائلاتهم يحتفظ حتى اليوم بألقابه، ويتذكر موطنه الأصلي الذي جاء منه أسلافها الأوائل، بل إن بعض القلاع والحصون، وحتى الوديان في بلاد الأندلس، ما برحت تحتفظ ببعض أسماء قادة الفتوحات الذين شيدوها أو استصلحوها، وعاشوا على زرعها وضرعها أزمنةً طويلة.
ومع أن الجفاف كان السبب في تلك الهجرات إلاَّ أن الاستبداد في الداخل كان كذلك دافعاً قوياً لذلك، منذ عهود الولاة العباسيين والأمويين على اليمن، مروراً بعد ذلك بالعهود "الإمامية"، حيث تقاسم الأئمة الحكام اليمن، وتنازعوها لدرجة أن توزع اليمن في إحدى الفترات بين أكثر من "إمامٍ" في وقت واحد.
لا نعرف الكثير عن تلك الحقب، لكننا قد نعرف الكثير من المعلومات والتفاصيل أكثر عما جرى لليمنيين من عسفٍ وتنكيل على أيدي "الأئمة" في العهود اللاحقة، خصوصاً منذ زمن الإمام "المتوكل يحيى شرف الدين، إلى أن جاء الإمام "يحيى حميد الدين"، الذي أبرم اتفاقاً مع العثمانيين العام 1911، وتمكّن من السيطرة على شمال اليمن بمغادرة العثمانيين البلاد العام 1918، وتأسيس ما عرف بـ"المملكة المتوكلية اليمنية"، حيث تحول الإمام من "بطل تحرير" مزعومٍ إلى جابٍ للزكاة والواجبات باسم الدين، وبقوة الحديد والنار، وبالملاحقات والسجون التي دفعت بآلاف اليمنيين إلى التشرّد والفرار، خصوصاً إلى شرق أفريقيا.
ورغم شح السرديات والدراسات المعمّقة، التي تناولت ظروف وملامح هذه "التغريبة"، في القرن العشرين الماضي، إلاَّ أننا لا نزال نتذكر الكثير من ذلك، سواء من خلال أحاديث أجدادنا وجداتنا عن المجاعات التي دفعت باليمنيين إلى ترك مزارعهم وقراهم وبيوتهم، واللجوء إلى دول الشرق الإفريقي، ولم يكن الجفاف السبب الوحيد وراءها فحسب، بل تلك الأساليب والطرق البالغة القسوة، التي اتّبعها ولاة الإمامة لجباية الزكاة، وجلب المداخيل النقدية والعينية إلى خزائن ومخازن الإمام، حتى في أسوأ أحوال الجفاف.
مع هذا نتذكّر قصصاً ووقائع مرعبةً عن مجاعة "تهامة"، وكيف امتنع "يحيى حميد الدين" عن إغاثة بعض سكانها الذين نزحوا إليه في صنعاء، واكتفى بمخاطبتهم بقوله الشهير: "من عاش منكم فهو عتيق، ومن مات فهو شهيد"!.
بلغ الأمر من بخل الإمام أن أكل السُّوسُ أطناناً من الحبوب المكدَّسة في مخازنه، وضنَّ الإمام بما ظل في مخازنه؛ رافضاً إطعام الجياع من رعيّته حتى بحبوب القمح والشعير والذرة المتسوّسة.
لم يجد الإمام المقتر على شعبه من وسيلةٍ لـ"إغاثة" رعيّته الجياع سوى بمكافحة أي عرضٍ للمساعدة على مكافحة "الجراد"، الذي ساهم بالإضافة إلى الجفاف وجبايات ولاة الإمام في خلق تلك المجاعات.
ذكر الدكتور "محمد سعيد العطار"، وهو أحد أبناء المغتربين الذين فرّوا إلى شرق أفريقيا، أنه عندما عاد إلى اليمن برفقة بعثة من الأمم المتحدة قَدِمت تُعرِض على الإمام "يحيى" تعاون المنظمة الدولية لمكافحة الجراد، كيف أن الإمام نهض من مكانه مستغرباً "كيف تريدوننا أن نحارب نعمةً ساقها الله إلينا؟“.
التجويع إذاً وليس الجفاف فقط كان واحداً من أساليب الحكم لدى الإمامة، بل وسببا أساسيا في دفع اليمنيين إلى مغادرة بلدهم؛ بحثاً عن لقمة العيش.
في ملحمته الشعرية (البالة) يحدثنا الشاعر الراحل الفذ "مطهر الإرياني" بلسان أحد من أجبرهم فساد وظلم الإمامة على الرحيل بعيداً عن وطنه، وذلك بقوله بالعامية اليمنية:
"ذكرت اخي كان تاجر اين ماجا فرش
جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش
بكر غبش اين رايح قال أرض الحبش
وسار واليوم قالوا حالته ناهيه
بكرت مثله مسافر والظفر في البكر
وكان زادي مع اللقمة ريالين حجر
وابحرت في ساعيه تحمل جلود البقر
والبن للتاجر المحظوظ والطاغية"
في ارتحالهم عن وطنهم، اجتاز يمنيون كُثر مسالك وعرة، وبحاراً هائجة، وجوعاً ومشاق كبار، ومات بعضهم غرباء بعيداً عن ديارهم وذويهم، دون منقذٍ أو مغيث، وذلك بسبب بعض الأوبئة والأمراض التي واجهتهم، خصوصاً في شرق إفريقيا.
من هؤلاء من أسعفه الحظ بالاستقرار، ومنهم من التحق بأحد الجيشين الفرنسي في جيبوتي، أو الإيطالي في الصومال، ليبدأوا معهما هجرات جديدة أخرى إلى بعض مستعمراتهما في كمبوديا وفيتنام مثلاً، غير أن الحنين إلى ديارهم ظل يلازمهم، القليل جداً منهم عاد إلى اليمن، بينما تلاشى بعضهم في متاهات الحروب والصراعات، وتحللت الهوية اليمنية لدى آخرين في مجتمعاتٍ غريبة، وثقافات أكثر غرابة.