مقالات
اليمنيون والنظريات بين التغيير والتبرير
كان الفشل الإداري، الذي مُنيت به اليمن مطلع القرن الميلادي السادس، هو الضربة القاصمة، التي حطّمت الدولة اليمنية، وأنهت فترة الاستقرار الذي عاشته البلد، في ظل الدولة الحِميرية، بحيث لم تتمكّن السلطة من الحفاظ على كفاءتها في حكم البلد، بحيث عزز ذلك من طموحات الأقيال، للانفراد بحُكم المناطق الخاضعة لنفوذهم، وخلخل بنيان الدولة، الأمر الذي سهّل للخارج السيطرة على البلد، دون أن يجد قوّة موحّدة تقف في وجهه.
خلال الألف وخمسمائة عام الماضية، حكمت اليمن العديد من القوى الأجنبية، أو التيارات الوافدة، والطارئة على البيئة، والمنظومة الاجتماعية للبلد، وقد تحقق لها ذلك نتيجة الصراعات السياسية، بين القوى المحلية على السلطة، التي أنهكت المجتمع، وأضعفت قدرات الدولة، وفتح المجال أمام الآخرين للتدخل في شؤون اليمن، والسيطرة على قدراته، والاستفادة من موقعه الجغرافي، المشرف، والمتحكِّم في طرق التجارة بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.
كانت الخاتمة المفزعة لفشل المنظومة الإدارية لليمن، واليمنيين هي الاحتلال الحبشي عام 575م، ثم الاستعانة بالفرس للتخلّص من الأحباش، لتخضع البلد مرّة أخرى، وتدخل تحت سيطرة فارس. وكل ذلك أربك الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية في البلاد، بل وضرب الحضارة اليمنية في مقتل.
ومن المآسي التي حلَّت باليمنيين أنه لم يحدث أن شعباً من الشعوب، أصيب بما أصيبوا به، نتيجة فقدانهم استقلالهم، إذ تفرَّق وتناثر في أرجاء المعمورة، حين ضاعت دولته، وفقَد حكومته الراعية لشؤون حياته، بل إنه منذ فقد اليمن استقلاله مع الغزو الحبشي، فقد اليمنيون ثقتهم بالطبقة السياسية، والنُّخب الاجتماعية حتى اليوم.
انتهت الحقبة الزّمنية، للنفوذ الأجنبي بظهور الإسلام، ودخول جموع اليمنيين فيه أفواجاً، بحيث أقبلوا على الدِّين الجديد للهروب من حياة التمزّق التي عانوها، كما يرى شاعر اليمن عبد الله البردوني، وللتخلّص من النفوذ الفارسي، الذي كان يمثله باذان، ومن تابعه من أهل البلاد، غير أن السياسة التي اتبعها الإسلام حينها، أقرَّت المرزبان على ما هو عليه من إدارة المناطق، التي كانت تحت نفوذه حين أعلن إسلامه، - وهي بعض المدن والمراكز المهمّة، أما بقية البلد فلم تكن خاضعة لا للفرس، ولا للأحباش من قبلهم، - الأمر الذي لم يقنع اليمنيين، فشهدت البلاد العديد من التمرّدات الداخلية، جعل الدولة الفتية للإسلام، في عهد الخلافة الرشدة تسارع في إخمادها، والإطاحة بقادتها، والانتباه بعد ذلك لعنصر الولاة الذين تقيمهم، وتنصبهم في اليمن، لكن الوضع تغيّر عند مجيء الدولة الأموية، وتحديداً في عهد أول خلفائها، الذي بدأ في إعادة نفوذ الأبناء مجدداً.
من هنا بدأت اليمن مرحلة جديدة، لم تتغيّر فيها الأوضاع إلى الأحسن - كما تحدثنا كتب التاريخ ومروياته - فظلت البلاد، تخرج من صراع إلى آخر، نتيجة سُوء إدارته، وجور الولاة، وفشلهم، مما صبغ الحياة السياسية بالتمرّدات، والوضع الاجتماعي بالاضطرابات، والقلاقل المستمرة، سواء في عهد الخلافة الأموية، ومن بعدها العباسية، وقد بلغ الحد بوالي اليمن في عهد أبو العباس السفاح - أول خلفاء الدولة العباسية- أن أمر بتجميع "الحطب لإحراق المصابين من أهل اليمن بمرض الجذام، لكن العناية الإلهية حالت دون تنفيذ حماقته بهؤلاء المرضى وقدّر له الوفاة قبل فعل ذلك" [يحيى بن الحسين، "غاية الأماني" صــ129].
حين كان اليمنيون يثورون على عسف الولاة في جباية الضرائب، ورفض أساليبهم في جمعها من الناس، فإن الطريقة التي كان يتم استخدامها للتعامل معهم، تختزلها مقولة الرشيد لحماد البربري -قائد جيشه- الذي أرسله إلى اليمن، وهو يوصيه: "أسمعني أصوات أهل اليمن"، حتى وصل الفشل في عهد الخليفة المأمون إلى الاعتراف للزياديين 204 هجرية، وهو تأريخ قيام سلطتهم في زبيد -بحسب المؤرّخ عمارة اليمني- في حكم المناطق التي تحت نفوذهم باسم الخلافة، الأمر الذي أغرى بقية القوى، والزعامات المحلية للحصول على الاعتراف من سلطات الخلافة، في حكم المناطق الخاضعة لنفوذهم، وكان ذلك تدشيناً، لبزوغ عهد الدويلات، والسلطنات المتصارعة في تاريخ اليمن الإسلامي على السلطة، بحيث لم تعرف البلد الاستقرار إلا فلتات زمنية محدودة.
ظلت اليمن -منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- بركاناً لثورات شعبية، تتقاذف حممه بين الآونة، والأخرى، وكل ذلك بسبب احتدام الغيظ في قعر المجتمع، نتيجة للمظالم، والفساد الذي كان يقوم به مبعوثو الخلافة الأموية، والعباسية، فشهدت العديد من الانتفاضات، والتمردات، وكانت جميعها تهدف إلى تغيير أساليب السلطة، ورفع المظالم، وفي كل مرّة كان يتم وصم الخارجين من أهل اليمن على الولاة، والعمّال من قِبل سلطات الخلافة بالمارقين عن الدّين، من هنا سعى اليمنيون إلى تبنِّي بعض النظريات الدّينية التي تساندهم، وتجيز لهم الخروج، وتبرر الثورة على السلطات المركزية، وكل ذلك من أجل نفي تهم المروق عن الإسلام، وصبغ تمرداتهم، وثوراتهم بصبغة شرعية، فتبنّوا رؤية الخوارج، والإسماعيلية، والزيدية، وكان ذلك هو الباب الذي ولجت منه المذاهب الدّينية، ونظرياتها السياسية إلى أرض اليمن.
لقد أقبلت جموع اليمنيين، سواءً في أعالي الجبال أو السهول والوديان، على المذاهب، والنظريات الدّينية والفكرية، من أجل أن تجد طريقة، أو رؤية تساعدها على تغيير أحوالها الاجتماعي، وتحسين وضعها الاقتصادي، وإيجاد حل لواقعها السياسي المضطرب، غير أن تلك النظريات، وخصوصاً، النظرية السياسية الزيدية، "التي ترى أن الإمامة في البطنين"، سعت إلى تبرير الواقع، وتجميده، ومنح دورات الصراع مبررات الانبعاث بين فترة وأخرى.