مقالات

اليمنيون ومهنة الحرب

28/05/2021, 09:01:41

(1)
منذ أكثر من عام أعمل مع مجموعة من أساتذتي الأجلاء (من علماء اجتماع، وتاريخ، وفلسفة، وأدب، وإعلام، وفنون) في إطار مشروع رائد يبحث في موضوع "الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية"، وإسهام اليمنيين الحضاري في البلدان التي هاجروا إليها؛ وفي سياق البحث  عن أسباب الهجرة خلال الفترة "من القرن السابع إلى القرن السابع عشر الميلادي"، برز سبب واقعي جداً، لهجرة ألوف اليمنيين، إلى جوار أسباب عديدة مثل دوافع الفقر والحاجة، ودوافع الجهاد، هذا السبب هو (دافع الطمع في الغنائم)، وجاء في التمهيد العام للدراسة، التي أعدّها الأستاذ أحمد صالح الجبلي عضو الفريق العلمي:
"لا يختلف هذا الدافع كثيراً عما سبقه (الجوع والفقر). وإذا كان الطمع في الغنائم هو من قبيل تحصيل الحاصل لأهداف الحرب بصورة عامة، فإننا نجد في كتب التاريخ الإسلامي ما يؤكد على هذه الحقيقة. من ذلك ما يورده البلاذري من أن الخليفة عمر كان قد ندب الناس إلى العراق، فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه.. وقدم عليه خلق من الأزد (*) يريدون غزو الشام، فدعاهم إلى العراق ورغّبهم في غنائم آل كسرى، فردوا الاختيار إليه، فأمرهم بالشخوص إلى العراق. وقدم جرير بن عبدالله في 'بجيلة'، أن يأتي العراق على أن يُعطى وقومه ربع ما غلبوا عليه، فأجابه عمر إلى ذلك، فسار نحو العراق" (البلاذري: 295-296).

للتأكيد فقط، إن "التسليم بدافع الطمع في الغنائم كأحد أهداف الحرب/ الفتوحات، ولا يعد أمراً معيباً - من وجهة نظر التعاليم الدينية - إذا ما عده المرء هدفاً ضمن أهداف أخرى، أهمها نشر الإسلام، إذا ما رفض الطرف الآخر عدم قبول اعتناقه مع رفض دفع الجزية".
(2)
هذا الاستنتاج، توصلت إلى ما يشبهه في النص الأدبي، حينما درست مجموعة من النصوص الشعرية والسردية المتصلة بموضوع الهجرة اليمنية في القرن العشرين؛ فبعد أعوام عشرة من سكوت مدافع المتحاربين على جبهتي "المحور والحلفاء" في الحرب الكونية الثانية، التي قسّمت العالم إلى معسكرين، كتب الراحل محمد أنعم غالب  نصه الشعري الرائد (الغريب) متتبعاً حالة المهاجر اليمني والمهن العديدة التي زاولها، ومنها مهنة الحرب. ويقول في النص على لسان المهاجر علي:
"الحرب قامت منذ شهر/ والمجندون يمرحون/ ويشترون المتعة الأخيرة/ الحرب مربحة .. الحرب لي عمل/  أنا المحارب الشجاع/ أجيد إطلاق الرصاص / رصاصتي ما أخطأت هدف!
وسجل اسمه في دفتر المجندين / ولم يزل يذكر ما في الحرب من أهوال!/ "حاربت لا دفاعاً عن وطن/ حاربت من أجل الرغيف، بجانب الفاشيست/ وفي الليالي السود بين الدم واللهب
رأيت لي أصحاب ../ كانوا من اليمن في الجانب المضاد/ حاربتهم وحاربوني / لا دفاعاً عن مُثل/ وكان لا يهم من يعيش أو يموت/ ولا يهم قاهر أو منكسر".

في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة"، للراحل محمد أحمد عبد الولي، تظهر شخصية محمد مقبل، وهو مهاجر يجوب الأقطار ويعمل في كل المهن، يعود ليقيم في مقهى في عدن، ومنه يعود مرة أخرى "إلى قريته ليراجع تاريخه، ويكتشف أنه أمضى حياته في ضياع، بلا هدف، ودخل في قتال مع أناس لا يعرفهم، قاتل معهم مرة، وقاتل ضدهم مرّة أخرى، وقاتل في قضايا يجهلها، ولصالح ناس لا ينتمي لهم، فقد قاتل الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية ضد الانجليز، ثم قاتل مع الانجليز ضد الإيطاليين"، يعود وقد "أعطته الحياة بعض أسرارها وعلمته مقادير من حكمتها، فإذا هو رجل خبير ذو رؤية سديدة وثاقبة".

طريق الهجرة، الذي سلكه سيف حزام طربوش  (أبو عزيز) في رواية "ربيع الجبال" لمحمد مثنى "كان بذات مسلك الجميع وهو البحر، ووسيلته في الانتقال إلى الضفة الثانية كانت القوارب والسنابيق، وعمله الأول اتصل بالبحر، عمله الجسماني هو الذي عرَّف به عند الآخر .. استخدم علاقته العاطفية في تحقيق بعض حلمه، ومثل كثير في تناسخ الشخصيات المهاجرة في النص الأدبي عمل محارباً في ضمن قوات المحور من أجل مدام جيوفاني الإيطالية في أسمرا، وقاتل في صفوف الحلفاء (الانجليز والفرنسيين) من أجل عيون روزا في باريس: "التحقت بصفوق الفرنسيين والانجليز ضد الألمان، ولكن من أجل ماذا؟ أمن أجل أن يعطوا بلادنا الحرية بعد أن ينتصروا .. أم من اجل أفخاذ روزا؟ والحقيقة أفخاذ روزا"،
في رواية "رجال الثلج" لعبد الناصر مجلي يتتبع قصة مهاجر يمني ينتقل من قريته إلى عدن، وبعد مكوثه لستة أشهر في عدن سيركب باخرة باتجاه "مصوع" على الضفة الأخرى من البحر، حيث قضى ثلاث سنوات "كانت أجمل سنين العمر، قات ونساء سُمراً، كما لو كنت في الجنة"،
وأثناء ما كان يقوم بتفريغ أحد المراكب مع حمالين آخرين داهمت الشرطة المركب للبحث عن الذين، ليس لهم إقامة أو يقيمون بطريقة غير قانونية، غير أن عدم انتباه أفراد الشرطة لوجوده داخل المركب نجاه، وبقي في داخل المركب الذي غادر الميناء، وحين اكتشف أمره البحارة أرادوا رميه في البحر، غير أن القبطان منعهم، وطلب منه أن يعمل بلقمته، وحين وصل ليفربول كانت حرب كبيرة قد اندلعت، وقد استدعوه ضمن بحّارة المركب للتطوع في الحرب ففعل، وحارب إلى جانب البريطانيين لمدة أربعة أعوام، وبعد الحرب ذهب إلى ألمانيا التي عمل فيها كل الأعمال وأفظعها.


أثناء قيامي بتحرير سيرة حسين السفاري استوقفني ما رواه عن والده وجده بقوله:
"كان جدي يملك دكاناً بسيطاً في جيبوتي، وأخذ معه -في تلك الفترة- عمي ووالدي للعمل في الدكان، غير أن عمي عاد إلى القرية وتزوج امرأة جميلة واستقر بها حتى تحول إلى عاقل فيها، أما والدي فأراد الالتحاق بالقوات الفرنسية كمقاتل، لكنه في آخر لحظة عدل عن قراره، وبدأ يعمل في التجارة، فقد كان ذا حس تجاري حاد.
ويقول والدي عن تلك الفترة أن دكان والده في جيبوتي كان ملتقى لأهل قريتنا والقرى المجاورة، وخصوصاً من العمال الذين كانوا  يعملون في خط السكك الحديد وفي الميناء وكذا العائدين من الجبهات المشتعلة وراء البحار، وكانوا يتجمعون ويقسمون العمل بينهم... منهم من يعجن ومنهم من يطبخ وثالث يعمل الخبز الطاوة ورابع يعصد، وكانت الحياة حميمية، تخفف عنا نار الغربة وقلق الحرب، وكان لانعدام المواد بسبب الحرب وتقطع الأوصال والغلاء  تجعل الناس يتقشفون في تناول الأطعمة".

(3)

في قراءاتي في الشأن السياسي، وتتبعي لبعض المحطات في تاريخ اليمن المعاصر في سير الهامش استوقفتني عديد حالات، أبرزها في فترة حصار السبعين لمدينة صنعاء وما بعدها، وصولاً إلى حالة الحرب القائمة اليوم وتلف البلاد منذ سبعة أعوام:
ففي شهادته عن حصار السبعين يوماً في كتاب "حصار صنعاء" يتحدث الشيخ الراحل أحمد علي المطري عن الكيفية التي كان يتبعها الملكيون في كسب القبائل للمحاربة في صفوفهم، وكانت الوسيلة الناجعة بالإضافة إلى الإشاعات الكاذبة كان الذهب والسلاح والذخائر التي تعطى لهم بسخاء، وحين تنتهي مثل هذه العطايا، كان من السهولة أن يستمالوا إلى الطرف الآخر بالوسيلة ذاتها وهي المال، وذكر شواهد عديدة حينما كان يقود جبهة 'بني مطر' لكسر الحصار عن صنعاء.  


في استعاداته لفترة ما بعد الحصار وما بعد المصالحة، يروي عبد الرحمن الحرازي في "سيرة الظل" - التي قمت بتحريرها ونُشرت بالتتابع في 'منصة خيوط' -  مشاهد دخول شيوخ القبائل ومسلحيهم إلى صنعاء لإعلان ولائهم للنظام الجمهوري، وحسب الحرازي فقد كانوا يجيئون إلى المدينة مع مقاتليهم، ويعلنون ولاءهم للنظام الجمهوري، وكانت تسبقهم الطاسات والمرافع وينشدون الزوامل (كلمات شعر شعبي غارقة بالعامية أشبه بالزجل، يؤديها مجموعة من المنشدين بإيقاعات لحنية محددة)، ويصلون إلى القصر الجمهوري، حيث تتم مراسيم استقبالهم، وتصرف لهم أموال كان يسميها أهل صنعاء (الزَلَج) ويغادرون بعدها مع مجاميعهم، فكان السكان حينما يسمعون الطاسات والمرافع والزوامل تتقدم المجاميع القبلية يقولون "وصل أصحاب الزَلَج".

في الحرب الدائرة اليوم، وظف ممولو الحرب ورعاتها الكثير من الأموال لتجنيد ألوف اليمنيين الفقراء في متارس المحاربين، حيث عمدت السعودية إلى تحديد ألف ريال سعودي لكل مجنّد جديد، فكان هذا المبلغ يسيل لعاب الشبان الفقراء في أرياف ومدن اليمن، الذين جُندوا في ألوية ومعسكرات على الحدود اليمنية السعودية للدفاع عنها، أما وكلاء السعودية  في بنية هذه القوى من جانبهم لعبوا أدوارا مشبوهة وخسيسة في تجنيد المئات من هؤلاء الشبان، مستغلين حاجتهم وفقرهم، وزجّوا بهم في جبهات الحدود  وصحارى 'ميدي' و'الجوف' في حرب عبثية، تحصد منهم يوميا العشرات. وبالمثل خصص الإماراتيون عشرات الملايين من الدراهم لتجنيد ألوف الشبان الفقراء من أرياف جنوب اليمن في الأحزمة والنّخب، التي تستخدم كمخلب ضد المناوئين للإماراتيين، تحت شعارات "استعادة دولة الجنوب".


الحوثيون (وكلاء إيران) يستخدمون الشعارات المضللة، والوعود الكثيرة، والأموال، وأيضاً القوة في تجنيد شبان القبائل التي تحت سيطرتهم، وزجّهم في جبهات القتال المشتعلة في  مأرب والجوف وتعز والحديدة وحجة والضالع. الممولون السرِّيون لحرب اليمنيين كثر أيضاً، ولهم أذرعهم في الأحزاب والكيانات المتورّطة في استدامة الصراع.
باختصار الحرب في تاريخ اليمن البعيد والقريب هي مهنة مستسهلة عند الكثيرين لعوائدها ومنافعها المتنوعة، بسبب الفقر والحرمان الذي يعيشونه.

(*) تعتبر قبائل الأزد من القبائل العربية القديمة، التي تَجُول في أرجاء اليمن تحت راية قائدهم عمران بن عمرو بن المزيقبة، وتنحدر سُلالة القبيلة من نسل الأزد بن غُث بن نبث بن مالك بن كحلان.

مقالات

السلام مع ذيل الكلب!

منذ سنوات طويلة، ونحن نقرأ أو نسمع عن السلام في اليمن، وعن تسوية سياسية، وعن حوار عبثي، وعن رحلات مكوكية، بين العواصم التي تخوض معاركها على الأرض اليمنية، والضحايا هم اليمنيون فقط.

مقالات

عن الأحكام التي تسبق الجريمة

أظن أن النفس البشرية، حتى في أشد حالات نزوعها نحو الشر والجريمة، تبحث في الغالب عن مبررات لأفعالها، ومنها تلك الأحكام الذاتية التي يطلقها الإنسان على غيره، قبل أن يرتكب في حقهم جرما معينا، وهذه الأحكام غالباً لا تمت للقيم الإنسانية بصِلة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.