مقالات

اليمن بين مقبرة الغزاة وجاذبيتهم

24/11/2025, 12:24:35

قراءة في الجذر التاريخي لثقافة الغلبة والاستقواء بالخارج

على مدى قرون طويلة، ظلّت العبارة المتداولة في الموروث الشعبي اليمني: "اليمن مقبرة الغزاة"
تتردد كتعبير عن الصمود التاريخي للشعب اليمني في وجه الحملات الأجنبية التي حاولت إخضاعه.
وقد ترسخت هذه المقولة في الوجدان الجمعي كأيقونة للفخر الوطني، حتى باتت تُستخدم شعارًا على الدوام كلما تجددت محاولات السيطرة الخارجية على هذا البلد الذي كان، وما يزال، موضع أطماع القوى الإقليمية والدولية.

غير أن قراءة متأنية في التاريخ اليمني، القديم والحديث، تكشف جانبًا آخر من الصورة، جانبًا أكثر عمقًا وأشد إيلامًا.
فاليمن، إلى جانب كونها مقبرة الغزاة، كانت أيضًا — في كثير من المراحل — جالبة للغزاة.
ليس فقط لعوامل الجغرافيا وموقعها الاستراتيجي، بل لأسباب تتصل بالتكوين الثقافي والنفسي للمجتمع اليمني، وبنزعة راسخة نحو الصراع الداخلي وتغليب منطق الغلبة على منطق التعايش.
هذه النزعة التي تشكلت عبر قرون من التاريخ، جعلت الإنسان اليمني يعيش في دوامة من الانقسامات القبلية والمذهبية والمناطقية، الأمر الذي أضعف تماسك البنية الوطنية، وفتح منافذ لا حصر لها أمام كل غاز أو طامع يجد في الداخل اليمني دائمًا من يفتح له الباب ويستدعيه.

ولعل التأمل في التاريخ اليمني يبين أن الغزو الخارجي لم يكن — في الغالب — إلا نتيجة من نتائج الانقسام الداخلي، وأن اليمنيين أنفسهم كانوا في كثير من الأحيان هم من يستدعون الغزاة للاستقواء بهم على خصومهم المحليين، في مشهد يتكرر جيلًا بعد جيل، وسلطة بعد سلطة.

في هذا السياق، يصبح الحديث عن "مقبرة الغزاة" أقل أهمية من فهم كيف تحولت هذه الأرض إلى ساحة مفتوحة للغزاة أصلًا، وكيف ساهمت طبيعة النزاع الداخلي في جعل اليمن أكثر انكشافًا أمام الطامحين بها من الخارج.
ولفهم هذه الظاهرة على نحو تأصيلي، يمكننا أن نتتبع جذورها في التاريخ، عبر ثمانية محاور متتابعة، تبدأ من تكوين الشخصية اليمنية وتمر بمراحل التدخل الأجنبي، لتصل إلى العصر الحديث وما بعده، ثم تنتهي إلى الدرس الحضاري الذي يلخص التجربة اليمنية في علاقتها بذاتها وبالعالم.

المحور الأول:
الجذر التاريخي لثقافة الغلبة والانقسام

منذ أقدم العصور، عرفت اليمن نمطًا اجتماعيًا يميل إلى التعدد والانقسام لا إلى التوحد.
فالقبيلة اليمنية القديمة، رغم قوتها، كانت تميل إلى الاستقلال والتمركز حول ذاتها أكثر من ميلها إلى إقامة سلطة مركزية جامعة.
وهكذا ظل المجتمع اليمني يتكون من كيانات متجاورة لا من كيان موحد، وكلما قامت دولة توحيدية سرعان ما تنهار تحت ضغط العصبيات المحلية أو بفعل نزاعات الزعامة.

لقد تحولت فكرة الغلبة إلى مبدأ حاكم في الوعي الجمعي يحدد علاقات الأفراد والجماعات.
وفي ظل غياب مفهوم الدولة الحديثة، ظل الولاء الأول للقبيلة أو العشيرة أو المذهب، لا للوطن الجامع، مما جعل الوحدة السياسية دائمًا هشة وعرضة للانقسام بمجرد ضعف السلطة المركزية.

المحور الثاني:
البنية النفسية والاجتماعية للإنسان اليمني

من الناحية النفسية، يمكن القول إن المجتمع اليمني تشكل في بيئة جبلية قاسية جعلت روح التحدي والمكابرة جزءًا من سماته الأساسية.
وقد لاحظ كثير من المؤرخين أن الجغرافيا الجبلية في المجتمعات التقليدية تُنتج نمطًا من الاستقلال المفرط الذي يُضعف قابلية الخضوع للنظام المركزي، وهو ما ينطبق على الحالة اليمنية بدرجة لافتة.
فالطبيعة هنا لا تكتفي بتشكيل الجغرافيا، بل تصوغ المزاج الاجتماعي نفسه: حذر، متوجس، عنيد، يميل إلى الاكتفاء بذاته ولو على حساب الكيان الأكبر.

غير أن هذه السمة التي كان يفترض أن تكون مصدر قوة، تحولت عبر الزمن إلى عامل تآكل داخلي، لأن الإصرار على التفرد ورفض الخضوع لأي سلطة جعل من التعايش صعبًا، ومن الاتفاق الدائم أمرًا شبه مستحيل.
تجلت هذه النزعة في الصراعات البينية المستمرة: بين القبائل، بين المذاهب، بين الأسر الحاكمة، بل حتى بين أفراد العائلة الواحدة.
وتحول مفهوم الكرامة والشجاعة من معنى الدفاع عن الذات إلى معنى الانتصار على الآخر، فصار الغزو الداخلي مشروعًا مبررًا، وكأن الغلبة قيمة في ذاتها لا وسيلة لتحقيق العدالة أو المصلحة العامة.

المحور الثالث:
ثقافة الاستقواء بالخارج — من العصبية إلى التبعية

الاستقواء بالخارج لم يكن انحرافًا طارئًا في التاريخ اليمني، بل امتدادًا طبيعيًا لمنطق الغلبة ذاته.
فحين تعجز العصبية المحلية عن الحسم، تُنقل المعركة إلى الخارج، ويُستدعى الغريب كحكم في نزاع داخلي لا حكم له.
وهكذا تحول الخارج، عبر العصور، من غاز طامع إلى شريك محلي بالوكالة، يشارك في تشكيل موازين القوة داخل اليمن بدلًا من أن يظل عاملًا خارجيًا مستقلًا.
ومن هنا، فإن الغزو لم يكن دائمًا فرضًا بالقوة، بل كان استدعاءً طوعيًا من الداخل الذي لم يتصالح مع ذاته بعد.

المحور الرابع:
الغزوات والتدخلات الأجنبية: تكرار التاريخ وتغير الأدوار

حين ننظر إلى خريطة الغزوات التي مرت على اليمن، نكتشف أن معظمها جاء بدعوة داخلية أو بتمهيد محلي.
فمن الغزو الروماني الذي استغل ضعف الممالك اليمنية المتناحرة، إلى الغزو الحبشي الذي دخل بدعوة من بعض الممالك ضد أخرى، ثم الغزو الفارسي الذي جاء استجابة لطلب من خصوم الأحباش.
ويكاد المتأمل يجد أن هذه السلسلة التاريخية لم تنقطع قط، بل تعيد إنتاج نفسها في كل عصر بلغة جديدة، من الروم والفرس إلى التحالفات الحديثة التي تُدار اليوم بأسماء مختلفة ولكن بالآلية ذاتها.

ثم جاءت الهادوية الزيدية التي استجلبتها الخلافات والانقسامات المحلية بين القبائل في شمال الشمال اليمني لتكرس نمط الحكم القائم على الغلبة المذهبية، تارة باسم الحق الإلهي وتارة باسم الاصطفاء، قبل أن يتجدد المشهد ذاته مع الأتراك العثمانيين الذين دخلوا اليمن عبر تحالفات داخلية أيضًا.

وتكرر المشهد ذاته في العصور الإسلامية المتأخرة، مع الأيوبيين ثم الرسوليين فالطاهريين فالعثمانيين، وكلها تجارب مثقلة بالصراع الداخلي.
وفي العصور الحديثة تكررت الظاهرة مع البرتغاليين والبريطانيين والسعوديين والإيرانيين والإماراتيين والأمريكيين والإسرائيليين — وكلهم وجدوا في الداخل اليمني من يسهل طريقهم نحو الداخل.

إنها إذًا علاقة بنيوية بين الداخل والخارج، حيث يولد الغزو من رحم الانقسام، ويستمر ما دام الداخل عاجزًا عن إنتاج مشروع وطني جامع.

المحور الخامس:
الإمامة الزيدية وتكريس الغلبة الدينية – السياسية

شكلت الإمامة الزيدية نموذجًا واضحًا لتحول فكرة الغلبة إلى منظومة حكم.
فمنذ قدوم الهادي إلى اليمن في القرن الثالث الهجري، بالتخادم مع نزعة الهيمنة والتسلط القبلي، تأسس نمط من السلطة يقوم على الجمع بين الدين والسيف، حيث يصبح الإمام هو الحاكم والمرجع الديني في آن واحد.
وبالرغم من وجود لحظات استقرار نسبي في بعض المراحل، فإن الصراع على الإمامة ظل مستعرًا بين الأسر الهاشمية نفسها، إذ لم يكن هناك مبدأ وراثة محدد، بل كانت القوة والغلبة هي الفيصل.

لقد زرعت الإمامة في الوعي اليمني نمطًا من "القداسة السياسية" التي تبرر الاستعلاء المذهبي وتخلط بين الخضوع الديني والطاعة السياسية، وهو إرث ما زال يتسرب في السلوك الجمعي حتى اليوم، ولو بلبوس مدني.
وهذا ما يجعل فكرة الدولة الحديثة في اليمن، حتى الآن، تصطدم بإرث ذهني يرى أن الطاعة تُمنح للغالب لا للمؤسسة.

المحور السادس:
من الغلبة القبلية إلى الغلبة الأيديولوجية — اليمن بين الاستقلال المجهض والتبعية المقنعة

مع بدايات العصر الحديث ودخول الأفكار الأيديولوجية إلى اليمن، لم تتغير البنية العميقة للصراع بقدر ما تغير شكلها.
فقد حلت الانقسامات الفكرية والمذهبية والسياسية محل الانقسامات القبلية القديمة، لكنها ظلت محكومة بالمنطق ذاته: منطق الغلبة والاستقواء بالخارج.

برزت التيارات المذهبية الحديثة مثل الوهابية، والحركة الزيدية المعاصرة، وتيارات الإسلام السياسي ممثلة بالإخوان المسلمين وغيرها، لتعيد إنتاج الانقسام الديني القديم بصيغ جديدة.
وفي المقابل، ظهرت التيارات القومية واليسارية (الناصرية، البعثية، الماركسية) كرد فعل على الموروث الإمامي والاستعمار، لكنها سرعان ما تورطت في نفس نمط الصراع الإقصائي، فصار كل تيار يرى نفسه الممثل الوحيد للحقيقة الوطنية.

ومع حركات التحرر في منتصف القرن العشرين، دخلت قوى خارجية على الخط — السعودية ومصر وبريطانيا والاتحاد السوفيتي — كل منها يستغل الاصطفافات اليمنية لخدمة مصالحه.
دعمت السعودية الملكيين ضد الجمهوريين، وتورطت مصر في حرب أنهكت الجميع، بينما غذت بريطانيا والإمارات لاحقًا الانقسامات المناطقية في الجنوب.

حتى بعد قيام ثورة سبتمبر في الشمال وأكتوبر في الجنوب، ظلت البيئة السياسية هشة، لأن ثقافة الغلبة لم تُستبدل بثقافة الدولة، فاستمرت الحروب والانقلابات حتى قيام الوحدة اليمنية عام 1990م، التي وُلدت من رحم التوازنات القسرية لا من مشروع وطني ناضج.

ومع اندلاع أزمات ما بعد الوحدة، عاد اليمنيون إلى المربع الأول، إلى ثقافة "أنا ومن بعدي الطوفان"، فاستُدعي الخارج من جديد عبر المبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن، ليصبح اليمن ساحة لتقاطع النفوذ الإقليمي والدولي، ووقودًا لحروب الآخرين.

المحور السابع:
دروس من التاريخ اليمني القديم — حين امتلك اليمن مشروعه الوطني الخاص

لم تعرف اليمن الاستقرار الحقيقي والنهوض إلا عندما كان لها مشروعها الوطني الخالص، كما في السبئية والحميرية والمعينية والقتبانية، وهي حضارات اعتمدت على مواردها الذاتية وأقامت نظمًا سياسية مستقلة ذات هوية يمنية واضحة.
ورغم أن تلك الحضارات لم تكن خالية من مظاهر الغلبة، فإنها نجحت في تحويل طاقة التنافس إلى بناء وازدهار وتمدن، لا إلى صراع داخلي مدمر.

والمفارقة أن الممالك القديمة التي لم تستند إلى قداسة دينية ولا وصاية مذهبية، كانت أكثر قدرة على تحقيق الوحدة، بينما فشلت النظم الدينية التي رفعت شعار "الحق الإلهي" في بناء كيان وطني متماسك.

لقد أدركت تلك الممالك أن الاستقرار لا يأتي من الخارج، ولا من توازنات القوة بين القبائل، بل من وجود مشروع وطني جامع يحدد الهدف المشترك ويصهر الانتماءات الجزئية في انتماء واحد.
وحين غاب هذا المشروع، انفرط العقد، وسقطت الممالك تباعًا، لتعود اليمن إلى حلقة الانقسامات ذاتها التي لم تنكسر حتى اليوم.

المحور الثامن:
العبر المستخلصة: نحو وعي جديد بالذات اليمنية

إذا كان التاريخ يعيد نفسه، فذلك لأنه لم يُقرأ بعد قراءة صحيحة.
وحين نتأمل سيرة اليمن، ندرك أن أزمتها ليست في الجغرافيا ولا في الأطماع الخارجية وحدها، بل في بنية الوعي اليمني ذاته، الذي لم يتحرر بعد من إرث الغلبة والانقسام.

إن أول خطوة نحو استعادة اليمن لذاتها هي الاعتراف بأن الخارج لم يغزها إلا حين دعاها الداخل.
فلا مقبرة للغزاة إلا إذا كُسرت من الداخل فكرة "الاستقواء"، ولا قيام لدولة ما دام الولاء الأول للعصبية لا للوطن.

إن اليمن كانت، وما تزال، مقبرة للغزاة حين تتوحد، وجاذبة لهم حين تنقسم.
والمفارقة أن القوة التي تهزم الغزاة في الميدان هي ذاتها التي تستدعيهم حين تُفتت في الداخل.
فبين المقبرة والجاذبية يتأرجح مصير اليمن، حتى يولد وعي جديد يجعل من الداخل حصنًا، لا ثغرة.

اليمن بحاجة إلى وعي جديد بالذات، وعي يقرأ التاريخ لا ليمجده، بل ليتجاوزه بعد استخلاص العبر منه.
وعي يدرك أن النهوض لا يأتي بالغلبة، بل بالشراكة، وأن الاستقلال لا يُستعاد من الخارج، بل يُبنى في الداخل أولًا.

المراجع:
▪︎ الهمداني، صفة جزيرة العرب
▪︎ نشوان الحميري، شمس العلوم
▪︎ ابن خلدون، المقدمة
▪︎ حسين العمري، تاريخ اليمن السياسي
▪︎ عبد الله البردوني، اليمن الجمهوري
▪︎ علي محمد زيد، قراءات في الفكر السياسي اليمني
▪︎ عبد الفتاح البتول، التيارات الفكرية في اليمن
▪︎ أحمد جابر عفيف، اليمن عبر العصور
▪︎ عبد الرحمن البيضاني، أزمة الأمة العربية وثورة اليمن
▪︎ محمد علي الأكوع، تاريخ اليمن الفكري والسياسي
▪︎ عبد الله العروي، مفهوم الدولة (للإسناد النظري)

مقالات

أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (٤)

مثّل انتقال السلطة في إبريل 2022 من الرئيس عبدربه منصور هادي – الذي حمل مشروع الدولة الاتحادية – إلى مجلس القيادة الرئاسي المكوّن من ثمانية أعضاء، محطة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية. فقد جاء القرار بدون إرادة وطنية، بل استجابة لضغوط إقليمية ورعاية مباشرة من الرياض وأبوظبي، مع تأييد عربي ودولي حرص على تأكيد وحدة الكيان الوطني واستمرارية الشرعية الدستورية، وذلك تحت غطاء ضغوط الواقع العسكري والسياسي، ومحاولة لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة وتوحيد الجهود في مواجهة الانقلاب.

مقالات

نتانياهو وكابوس الدولة الفلسطينية

عشية التصويت على القرار الأميركي في مجلس الأمن الدولي استمات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في تأكيده على استحالة أن تكون هناك دولةٌ للفلسطينيين على أرضهم المحتلة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.