مقالات
اليمن ونزعة الاستقلال (3)
نشأت حضارة اليمن، في وديانها الشرقية الفسيحة، منذ الألف الثالث قبل الميلاد، محاطة بالبحار، والصحاري والجبال، وقدّمت لها بذلك الحماية الطبيعية، وجعلتها في مأمن من جيوش الطامعين والطامحين، بحيث لم تكن أي من القوى الدولية -خلال الألف الثاني والأول قبل الميلاد- قد حققت أي إنجازات على صعيد اكتشاف الملاحة البحرية في البحر الأحمر، بينما كان من الصعب على أي جيش في تلك الفترة أن يغامر بقواته في الفيافي والجبال.
ورغم صعوبة التضاريس ووعورتها، وتعقّدها، التي تقف حائلا أم الغزو الخارجي، إلا أن بلادنا -رغم كل ذلك- لم تسلم من هجمات الدول الاستعمارية عبر التاريخ، فقد ظل الموقع المتوسط لليمن عامل إغراء وجذب للقوى الدولية خلال فترات الحُقب المختلفة.
لقد استطاع اليمنيون بناء حضارتهم في مأمن من جحافل الغزو الأجنبي، التي كانت تحرث جيوشه بلاد الشام، ومصر، والرافدين، كما أتاح لها الموقع المتوسط بين شرق العالم وغربه الاتصال بحضارات العالم القديم، وأن تكون همزة اتصال ونقطة التقاء بين عوالم المحيط الهندي، والبحر الابيض المتوسط.
فقد ساعدت الأوضاع الجغرافية اليمن "على أن تنشأ فيه مدينة ذات طابع خاص، اتسمت مؤسساتها ومعتقداتها بالاستمرار طويلا دون أن تكون في الوقت نفسه منغلقة على نفسها، إذ أنه -من خلال النشاط التجاري- عماد ازدهار اليمن القديم وقاعدة تمدّنه قد دخلت المؤثرات بالقدر المطلوب لتجدد تلك الحضارة وتساعد على نموها" [د. محمد عبدالقادر بافقيه "توحيد اليمن السياسي قديما"، ص22، ترجمة علي محمد زيد].
كانت المرة الأولى التي تتعرض فيها اليمن للغزو الأجنبي، الذي هدد المجتمع والدولة، هو الغزو الروماني الذي جرى في 24 ق. م.، وقد تم على يد القائد الروماني إليوس جاليوس بأوامر من القيصر الروماني أغسطس، الذي أمر قائده في مصر بتجهيز حملة لغزو العربية السعيدة.
وكان من نتائج تلك الصدمة، ومن أول ردود الفعل عليها، بداية العودة نحو الجبال للسكن فيها، والاستقرار، بحثا وطلبا للأمان، وصيانة للاستقلال، ولم تكن نزعة الاستقلال، وصيانته، هي السبب الوحيد، لكنها المحرك الأول، إلى جانب عدد من العوامل الأخرى، وذلك أنها تسهّل الدفاع عن البلاد، والتصدّي للمعتدي الأجنبي، في الوقت الذي كان يصعب الدفاع عن السهول المفتوحة أمام الغزاة.
وقد تمكَّن اليمنيون تحت قيادة الشرح يحضب من صدّ العدوان الروماني، إلا أن نتائجه كانت وخيمة، حيث دمّر العديد من الحواضر اليمنية، والمنشآت العمرانية، وقضى على الحكم الائتلافي في اليمن، الذي كانت قاعدته ومستقره في مأرب، وبعده انتقلت القوة والثقل إلى ذي ريدان، جنوب صنعاء. ومثله الغزو المملوكي والعثماني في العصر الحديث، حيث أعاد مركز الثقل وبناء الدولة إلى منطقة الأعالي في شمال اليمن، بعد أن كانت المناطق الوسطى والجنوبية هي قاعدة الدولة، ومستقرها، حيث كانت جبن بالقرب من رداع عاصمة الدولة الطاهرية، ثم انتقلت إلى عدن.
وإذا كانت نزعة الاستقلال، وما يتعلق بها، قادت إلى العودة إلى الجبال، إضافة إلى عدد من العوامل، فإنه قد نتج عن ذلك تغيّر في خارطة الاستقرار البشري، من تناثر للكتلة السكانية في رؤوس الجبال والمرتفعات، وقد أسهم ذلك حتى اليوم، وإلى حد كبير، في زعزعة الاستقرار، بحيث صعب على أية حكومة مركزية في اليمن فرض هيمنتها وسيطرتها الكاملة، نظرا لصعوبة تحقيق ذلك، وأغرت كثيرا من القوى المحلية، والزعامات من الأمراء، والأقيال على التمرّد، وتهديد الحكومات المركزية، الأمر الذي كان يضرب الاستقرار الداخلي، ويجلب التدخل الخارجي، باندفاع حكّام بعض المناطق للدخول في تحالفات مع الخارج، بهدف الوثوب على السلطة، الأمر الذي كان وما يزال يعرّض الاستقلال للخطر.
ورغم أن نزعة الاستقلال لم تكن تخمد جذوتها، إذ سرعان ما تبادر القوى تحت ضغط المجتمع لرفع رايته مجددا، وإخراج الأجنبي، إلا أن ذلك كان يأتي بعد تضحيات جسيمة وعظيمة يقدّمها الشعب، وفي الوقت ذاته فإن مثل هذه الأحداث المتكررة، التي صبغت تاريخنا في اليمن قديمه ووسيطه وحديثه وإلى اليوم، قد عمل على حرمان اليمن من الاستمرار المتواصل لوجود دولة واحدة ذات مؤسسات ثابتة وراسخة.
إن التدخلات الأجنبية، بسبب التحالفات التي اندفعت إليها بعض القوى السياسية في غمار الصراع على السلطة، أواخر القرن الميلادي الثاني وأوائل الثالث، قد عرّض البلد للتدخل الحبشي، وأمام حالة الرفض الشعبي، وإرضاء للمجتمع عملت القوى اليمنية على إعادة بناء قوتها، وتحالفاتها للتخلص من هذا التدخل، وبحسب الدكتور جواد علي "يظهر أن السبئيين والحِميريين كانوا قد كونوا جبهة واحدة لمحاربة الحبش الذين هاجموا اليمن في عهد "جدرت" "جدرة".
ولقد كان من نتائج هذه الأخطار التي هددت الاستقلال، وصبغت الأوضاع في اليمن بالاضطرابات، التي حرمت البلد من الاستقرار، توحيد اليمن في ظل دولة مركزية قوية، خلال عهد الدولة الحِميرية، ولم يتوقّف الأمر عند ذلك، بل شهدت البلاد بعد تلك الفترة العصيبة قيام أهم وأقوى الدول التي عرفتها البلاد، التي امتد تأثيرها ونفوذها إلى خارج الحدود، وغدت الدويلات، التي نشأت في وسط الجزيرة العربية، تدور في فلكها، وتخضع لملوك اليمن، بل تحوّلت مدينة ظفار في منطقة "خبان" إلى أول عاصمة لإمبراطورية عربية شمل نفوذها أغلب بلاد الجزيرة العربية، وقد استمر ذلك الوضع حتى بدأ الضعف يدبّ في البلد مرّة أخرى، وتنهشها رغبات القوى الانتهازية، وصراعها فيما بينها على السلطة، فتعرّضت البلاد للغزو الحبشي الأخير عام 525م، الذي انتهى بتدمير حضارة اليمن.
في كثير من الأحيان، كانت القوى اليمنية هي من تستدعي الأجنبي، وتطلب منه العون والمساعدة، ولم يكن موقف سيف بن ذي يزن من استدعاء الفرس هو الأول، فقد سبقته العديد من المواقف منذ الملك علهان نهفان الهمداني، الذي وقف إلى جوار الملك الحبشي جدرت، أواخر القرن الثاني الميلادي، وذلك من أجل تخفيف الضغط الحِميري عليه، وما إن تحقق هدفه حتى عادت القوى اليمنية إلى مواجهة الأحباش.
وإذا كانت اليمن قد وقعت فريسة لمثل هذه التحالفات، فإن الإرادة الشعبية كانت تعمل على بلورة قيادات جديدة تعبِّر عن روح الشعب، وترفض الارتهان للخارج، وقد حصل مثل هذا في فترات تاريخية متعددة.
لكن المأساة اليوم هي في تنافس القوى الموجودة على الساحة لإرضاء الخارج، واستعداد بعضها لمهادنته في سبيل الحصول على السلطة والرئاسة، دون أن يلوح في خطابها أي تعبير عن روح اليمن، ونزوعها للاستقلال، أو الالتفات إلى مصير الوطن، أو استجابتها للتذمّر، والغضب الشعبي من هيمنة القوى الخارجية على المجتمع، والدولة.