مقالات

أمير صنعاء ونشوتها الفاتنة

02/10/2024, 07:45:42

لا أعرف فناناً آخر نجح في وضع الكلمة المثالية في صيغة غنائية وإيقاعية "كما هي"، ونجح مراراً وتكراراً في إعطاء صوت لملامح الروح المدنية الصنعانية كما فعل الفنان أحمد السنيدار.
 
لقد رسّخت أغانيه حساسيّتي العاطفية والإبداعية منذ وقت مبكر. أغانيه لا مثيل لها في رأيي. صفاء صوته وعذوبته، وما يتجلى فيه من إحساس عاطفي مكثف، يجعله منظومة كاملة من الموسيقى.

الموسيقى والغناء فن غير منفصل عن مضمونه- كما يقول هيجل- إذ أنه يخاطب عُمق الذات الأبعد غوراً. إنه الفن الذي تتوسله النفس للتأثير على النفوس. الصوت العذب لا يجد صداه إلا في أعماق الذات التي تتأثر به.

هوية الروح هذه المتضمنة في الغناء تجد نموذجها الأمثل في صوت أحمد السنيدار.

الأذن تلتقط، لا الهيئة المادية الهادئة، بل مثالية أولى صادرة عن ذات الفنان، وقوة ترددات إحساسه الداخلي.

أتذكر في طفولتي أن أخي أحمد عاد من روسيا ليقضي إجازة يعود بعدها لمواصلة دراسته. جلب في عودته تلك "مُسَجِلة" روسية لم أرَ قط مثيلا لجودة صناعتها، وقوة صوتها. الصناعة الروسية تقدِّم لك آلة لتستخدمها زمنا طويلا، عكس الصناعات الاستهلاكية التي اكتسحت بلادنا لاحقاً.

بجانب "المُسجِلة الروسية"، دخلت بيتنا مجموعة كاسيتات غنائية، تجاور فيها أحمد السنيدار مع فيروز ومارسيل خليفة وفنانين آخرين يمنيين وعرب.

استمعت لصوت الفنان أحمد السنيدار أول مرة من هذه المسجلة الروسية. كان صوته عذباً وفاتناً، ولا يشبه أصوات بقية فناني صنعاء الذين تأخر تذوقي لاصواتهم إلى مرحلة لاحقة بعد الثانوية والجامعة.

كان صوته يترنم جذلاناً يداعب الكلمات ويتمزج بغنائها:
يا جانيات العناقيد طاب العنب طاب يا غيد، والله لا سامر الجيد لما تغيب المُضية.

السنيدار صوت عذب وقريب لروح من يتفتح وعيه في بداية سماعِه للأغاني.
أيوب قريب نفسياً ووجدانيا لنا في تعز، غير أن أحمد السنيدار كان قادرا على الوصول إلى ذائقة عامة لا يصل إليها الفنان بسهولة إذا لم تكن برمجته الوجدانية وصوته وأداؤه قادرين على اجتذابها.

كان أيوب بديهية ذوقية في تعز، لكن أحمد السنيدار امتلك نغمة قادرة على تجاوز مربعها الذوقي، وفتح مغاليق بشر يجمعهم الغناء ويوحّدهم بصوته العذب، وهُيامِه العاشق الشفاف.

- أغانٍ ممتزجة بالحياة

يذوب السنيدار فيما يغنيه؛ كلمات ولحن وتجربة عاطفية.
أغانٍ عديدة كانت مشتركة بين تجارب عاطفية عاشها داخل ذاته، ووافقت كلمات قصائد غنائية، دمجها معا في لحن مكثف يتقد من شعلة الإحساس داخله.

"يا طبيب الهوى بالله داوي لهيبي"، من كلمات الشاعر عباس الديلمي، واحدة من أوائل أغانيه، أداها في عام 1968 تقريبا، ويقول إنها وافقت هوى في نفسه له صلة بتجربة عاطفية كان يعيشها آنذاك.

"حبوب حبوب لا تغضب" من أغانيه الأكثر انتشارا؛ هي من كلمات الشاعر عبدالله هاشم الكبسي، وقد حكى لنا مرة في ديوان الشيخ الراحل عبدالسلام شمسان قصتها.
قال الكبسي إنه لاحظ كدراً في مزاج صديقه الفنان أحمد السنيدار لم يستطع أن يفك شفرته عدة أيام.
كتب الكبسي هذه القصيدة هدية منه لصديقه أحمد السنيدار بعد أن عرف ما يعانيه، فوافقت هوى خاصا في نفسه، وفرح بها، وأسرع في تلحينها؛ لتكون مفتاحاً لتجاوز جفوة طارئة في حياته العاطفية.

الغريب أن انتشار هذه الأغنية راج في العلاقات السياسية بين الشطرين قبل الوحدة، والفرقاء بعدها، أكثر من علاقات الحب.
إذ كانت تفهم ك"رسالة سياسية" إذا بثتها إذاعة عدن، مثلها مثل أغنية محمد سعد "قال بن سعد قلبي فوش يا ما صبر"، وأغنية كرامة مرسال "على مهلك وقد الحال تكلم يا حبيبي بالكلام الدارجي"، التي استخدمت في إذاعة عدن أثناء حرب 94.
كما كانت إذاعة صنعاء تركز على بثها في المرحلة الانتقالية بعد الوحدة مع كل اعتكاف لنائب رئيس مجلس الرئاسة الأستاذ علي سالم البيض.

أغنية "مشتاق لك يا نجم فوق شمسان" من كلمات الشاعر محمود الحاج، وراءها قصة حقيقيه، ولكنها تتعلق بحياة كاتب كلماتها لا بالفنان.

كان محمود الحاج في صنعاء وزوجته في عدن أيام التشطير، ولم تتمكن من اللحاق به. التقى بالفنان أحمد السنيدار وعرف منه أنه مسافر لإحياء حفل عيد أكتوبر في عدن، ويريد منه قصيدة جديدة ليلحنها، ويغنيها هناك.

كتب محمود الحاج قصيدته، رسالته إلى زوجته هناك:
مشتاق لك يا نجم فوق شمسان
شوق المحب الوفي
وأردد اسمك في الليالي ألحان
والشوق لا ينطفي
وأحلم بوصلك في سفوح عيبان
ودمعتي هاتفي
مشتاق لك مشتاق

وطلب من الفنان أحمد السنيدار أن يشير إلى اسمه قبل إلقائها على الهواء.. وهو ماحدث في حضور سالم رُبيِّع، وفور انتهاء السنيدار من الغناء وقف الأستاذ عمر الجاوي وسط قاعة الحفل، وصاح منادياً قيادات الحزب "رجعوا له زوجته"، وعادت زوجة محمود الحاج في حفل رسمي.

لا يُذكر الفنان أحمد السنيدار إلا ويذكر معه الشاعر الثائر الشيخ أحمد عبد ربه العواضي، فقد جمعتهما صداقة رفيعة أقامت روابطها بالكلمة واللحن والصوت العذب.
من أهم ما غنى له السنيدار:
لا صاحب فرَق صاحبه، يا ظالم الحب، يا غصن صنعا اليمن، لا تشلوني ولا تطرحوني سلموا قلبي الذي هم يحبوه.

تتجلى شخصية أحمد السنيدار الغنائية وصوته العذب وطابعه الفني أكثر ما تتجلى في عشر أغانٍ، أراها حسب ذائقتي مرتبة بالتسلسل التالي:
الحب أعياني، إذا قيس حُبٌ، يا طبيب الهوى، قُل للغواني، تعال ما قلك، كتابك يا حبيب، ليت والله والأيام ثواني، يا غصن صنعا اليمن، ما أجمل الصبح، قل لمن مال عنا واختفى واحتجب.

- بدايات موهبته

نشأ أحمد السنيدار في صنعاء القديمة، داخل أسرة عُرفت بتعدد أنشطتها وفعاليتها العامة. لم تكن أجواء الفن بعيدة عنه، إذ كانت علاقات كبار الأسرة تجتذب شخصيات عامة متنوعة الاهتمامات، وفي جنبات المقيل استمع لفنانين، ورأى العود وأوتاره الناطقة بأعذب النغمات.

في وجدان الطفل زُرعت بذرة الفن، وأثمرت لاحقاً فناناً لمع في سماء اليمن كلها.

كانت صنعاء القديمة قد كُتمت تدريجياً، في النصف الأول من القرن العشرين. حُرِم الفن، رَحَل فنانون إلى عدن ولحج، وآخرون استولى عليهم الإحباط، وبعضهم استمرّ بالاعتناء بفنه وموهبته بالتخفي والاحتيال على بيئة معادية للغناء.

في 48 استبيحت صنعاء، ورحل كثيرون ليستقروا في تعز وغيرها. الفنان علي الآنسي كان في بداية شبابه عندما استقرت أسرته في منطقة الجحملية بتعز، وبدأت موهبته بالتفتح هناك في مناخ أقل قسوة في معاداته للغناء.

بزوغ نجم الفنان أحمد السنيدار، أواخر الخمسينات، كان شرارة انبعاث جديد للفن في صنعاء القديمة.

لم يكن الغناء ليموت في مدينة عريقة يمتد تاريخها آلاف الأعوام، مدينة أنتجت شعراء وفنانين، وكانت منارة حضارية لزمن طويل، قاومت فيه تقلبات الزمن، وعجزت فترات الجدب المتخلفة عن كتم أنفاسها في فترات قاحلة لا علاقة لها بالفن والأدب والثقافة.

احتاج الفنانان علي الآنسي وعلي السمة إلى بيئة أخرى لبزوغ موهبتهما في الغناء، فغادرا صنعاء، الأول مع أسرته والثاني بقوة إرادته كطائر يحلق بعيداً، تحرّكه رغبة عارمة للغناء لم يكن بإمكان أي عائق أن يقف أمامها.

الفنان محمد حمود الحارثي نمت موهبته في مدرسة كوكبان، بالتأثر بمن تبقى من فناني الجيل الذي سبقه.

وحده الفنان أحمد السنيدار بزغ في صنعاء أواخر خمسينات القرن الماضي، وحتى رحلته لدراسة الموسيقى في مصر لم تكن سوى استجابة لموهبة وجدت بيئة أسرية داعمة، عززتها دراسة الموسيقى في دولة عصرية مثل مصر، ولم تكن هي حافزها الأول.

الفن الصنعاني عنده وحده لا سواه: أحمد السنيدار.
أما ما يسمى الفن الصنعاني عند غيره فهو فن الغناء التراثي اليمني، إرث فني واسع تشكَّل عبر مئات السنين، وساهمت فيه صنعاء مثل غيرها من الحواضر اليمنية التي كانت حواضن الفن والفنانين عبر أزمنة مختلفة، قبل أن تظهر النسخة الأولى من التراث المسجل في أسطوانات "الحاكي" أو "الفونوغراف" بأصوات الروّاد، في بداية القرن العشرين، في عدن وحوطة لحج.

ندرك بصمة صنعاء من صوته العذب. لا نحتاج بعدها إلى معرفة تفاصيل متى بدأ الغناء، وبمن تأثر.

العود، الذي امتلكه والده ليستخدمه بعض ضيوفه من الفنانين في مناخ المنع آنذاك، كان صديقه الذي ألهمه المُضي في طريق الغناء.

العود كان أقرب إلى روحه، والتأثير فيه من أصدقاء والده الذين يُقال إنه تأثّر بهم.

كان الاستاذ أحمد السنيدار من ضمن مجموعة من الفنانين أسّسوا أول فِرقة موسيقية في صنعاء بعد ثورة سبتمبر 1962، بمشاركة الفنان فضل محمد اللحجي، الذي يجيد العَزف على كل الآلات الموسيقية؛ ومن ضمن المشاركين من الفنانين: محمد مرشد ناجي، محمد سعد عبدالله، محمد حمود الحارثي، وعلي عبدالله السمة وآخرون.

انتماء الفنان أحمد السنيدار لروح العصر والزمن الجديد حينها دفع به إلى المشاركة في الأغنية الوطنية، والأناشيد الثورية. وسِجله في هذا المجال لافت سواءٌ في أداءاته الفردية أو بمشاركة فِرقة الإنشاد، وقد سافر حينها إلى بيروت لتسجيل عدد من الأناشيد والأغاني في إسطوانات.

- إطلالة بعثت كل إرثه الغنائي

مقطع فيديو جميل يعبِّر عن روحه التي لم تنطفِئ، هو ذاك الذي ظهر فيه الفنان أحمد السنيدار قبل عامين أو ثلاثة، وهو يرقص على إحدى أغانيه، التي صادفها تُبث على الشاشة.

تحسّ كأنّك سمعت كل ما غناه، وأنت تشاهد روحه البهيجة لم تخبُ، ولم ينطفئ فيها الشجن.
كانت رسالة جميلة ومبهجة لجمهوه.

كان يرقص بأناقة على نغماته الأولى؛ من يمتلك هذه الروح لا يشيخ، ولا يهزمه الزمن.

صوت السنيدار وغناؤه تعبير مكثّف عن هوية مدنية، تعبير عن صنعاء القديمة تحديداً، روحها ونغمتها وشخصيّتها ونشوتها الفاتنة.

السنيدار يغني بأناقة ولُطف ومزاج عالٍ، كأنّه يمتزج ويتماهى مع الكلمات ونغمات اللحن، ورنين أوتار العود.

لا يغنِّي خارج ذاته؛ هو يذوب ويُقطِرُ إحساسه في كلمات ونغم.

بينما اختتم مقالتي هذه، استمع له يغنِّي "كتابك يا حبيب"، التي يتجنبها كل مقلديه لصعوبة أدائها بنفس رتم صوته العذب:

كتابك يا حبيب لما أتاني
وضعته يا منى قلبي على الـراس
وقَبَّلته ولكن ما شفاني
ولا أطفا حرقتي يا غصن ميّاس
ولكن زاد يا سِيّد الغواني
هيامي والقلق في جـنح الاغلاس

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.