مقالات
انتحار بوعزيزي: نبيُّ الحرية ومسيحُ الثورات
قبل أيام مرّت علينا الذّكرى العاشرة لرحيل الشاب التونسي محمد البوعزيزي، الثائر الذي افتدى وجودنا المهدور بحياته، أشعل النار في جسده؛ كي يُطهرنا من عار الحياة الذليلة والمستقبل المجهول.
لقد فتح محمد ثقبا في جدار الواقع المسدود، وافتتح معه حقبة تاريخية جديدة من حياة العرب.
بقليل من الزّيت وكثير من الغضب أحرق الرجل هياكل الأنظمة العربية المتهلهلة جميعها، وهدم جدرانها حتى الأبد، كشف عورات الحُكام دفعة واحدة، وفتح صفحة جديدة في تاريخ الشعوب، مات واقفاً وشكّل برحيله فاصلة تاريخية حاسمة طوت عقودا من الطغيان.
سيذكر التاريخ أن ما بعد موت بوعزيزي يعد حقبة مختلفة تماماً عن ما قبله، لقد فجّر الرجل بركاناً هائلاً في وجوه الجميع، وسلّم الرآية للشعوب مجددا.
انتحّر بوعزيزي، ونحر معه مستقبل رؤساء العرب جميعاً، لن ينجو أحد من طوفانك يا محمد، سيغرق الجميع ويطمرهم التاريخ، وتشيّعهم الأجيال باللّعنات، وستبقى أنت أسطورة مجدٍ عابرة للزمان.
محمد البوعزيزي: هذا هو مسيحٌ الثورات العربية، نبيّ الحُرية الذي صلب روحه بالنّار؛ كي يصنع خلاصا للشعوب المقهورة، حفّار أخدود الأنظمة وصانعُ جحيم السلاطين، هو قدّيسنا الوحيد بلا منازع، وبطلنا الأوحد في ليلٍ عربي كلّه جبن وعار.
لم يفعل بوعزيزي شيئا سوى أنه رفع الغطاء على واقعنا المغشوش، أزاح الستار وكشف أقنعة الأنظمة "المُمكيجة"، وهذا هو ما يفسّر حجم الخراب الذي حدث على امتداد الجغرافيا العربية، بعد أن انتقلت شرارة الغضب وتردد صدى صرخة البطل في شوارع العرب.
لم يكن الخراب الكبير، الذي لحق بحياتنا بعد اندلاع الثورات، خيارا حتميّا لا بُد منه، بل خطيئة متعمّدة ذهب إليها الحُكام عمدا؛ كي يوقفوا شعلة الحُرية الممتدة، أرادوا إطفاء جسد الشاب المحترق بإحراق مزيد من أجساد الشباب الغاضبين، لكنهم نسوا أن النار تذكي مزيدا من الغضب، وأن غضب المقهور يتناسل إلى ما لا نهاية، وكلّما أوغل القتلة في الدّماء منحوا الضحايا مزيدا من الإصرار، وصارت المعركة بين الجلّاد والضحيّة معركة وجود وبقاء.
ولعلّ أعظم إنجاز، تمكّن بوعزيزي من إحداثه، هو أنه أخرج الشاب العربي من دائرة العطالة وجلد الذّات، إلى دائرة الفعل والحضور الحيوي.
فبعد عقود من استلاب الأنظمة لشعوبها، وتدجينها، جاء محمد ووضع حدا للعجز وقلّة الحيلة، وأعاد تذكير الشعوب بقدرتها على تغيير واقعها، واستعادة زمام المبادرة.
قبل محمد البوعزيزي كان الحُكام العرب قد أعلنوا بلداننا حظائر خاصة بهم، أمعنوا في إذلال الشعوب، وظنّوا أنهم قد استملكوا مصائرنا حتى الأبد. فجاء محمد في صباح يوم غاضب، تعرّض فيه للمهانة من شرطية دنيئة، فقرر أن يضع حدا نهائياً لسفالة الأنظمة وأجهزة الأمن، التي أدمنت الاستهتار بالإنسان.
ثمة درس إنساني مُهم، أيقظه فينا سلوك محمد البوعزيزي، هو أن الإنسان الحديث مهما بلغ به مستوى الانكسار وثقافة التعايش مع الذّل، يمكنه في لحظة ما أن يستعيد إحساسه الغريزي بالكرامة، وشراسته الأولى في رفض الحياة المختلة، والاحتجاج على وجوده المغلوط.
فالانتحار في أحد معانيه: هو شكل من الاحتجاج الأخير على نوعية الحياة التالفة، وهذا ما صنعه محمد حين انتصر لوجوده بإحراق جسده؛ لكأنّه كان يسأل ما قيمة الوجود حين يحيا الإنسان بلا كرامة، لا شيء ينقص من عُمر البشر مثل المهانة يا فتى..!
وبقدر ما تحمل حادثة انتحار بوعزيزي أسبابها الواقعية والنفسية الكامنة في ملابساتها، إلا أنّي أميل أحيانا لمنحها تفسيرات أدبية ذات طابع غيبي بعض الشيء.
أقول إن انتحار الرجل يعد بمثابة إيعاز إلهي لتنظيف الوجود العربي من مشاعر الجُبن، لقد كان الرجل يتلقى وحياً سماوياً -من السماء أو من قوانين الطبيعة- بإعادة ضبط القيمة الوجودية للإنسان العربي.
لكأنّ استشهاده رسالة نبوية لاستعادة معنى الوجود الحق.. ففي لحظات الانسداد التاريخي، حين تُغلق الأنظمة كل وسائل المدافعة المدنية وتسيطر على مختلف مُمكنات الحياة، تغدو البطولة هي الملاذ الوحيد، لتصيح اختلالات الحياة وإعادة تعريف الوجود بطريقة مختلفة.
أخيرا: في ديسمبر من كل عام صلّوا على روح "المسيح محمد"، تعبّدوا في محراب الكرامة تمجيداً لذكرى رحيل البطل، انصبوا له تمثالاً في كلّ مدينة، وعلّموا الأجيال درس الكرامة الذي خطه الرجل بنار جسده، لا يحتاج بوعزيزي لشفاعتنا -وهو الذي أحرق وجوده انتصارا لكرامة العربي المهدور - بقدر حاجتنا -نحن- لشفاعة جسده المحروق، وتكفير خطيئتنا الممتدة وتصالحنا الطويل مع المهانة والاستبداد.