مقالات

لا غايات وطنية ولا معالم بين الخنادق

09/07/2025, 17:00:31

 

في الحروب اليمنية، لا قضايا واضحة ولا معالم يمكن أن تفصل بين المتصارعين رغم اللافتات الفاتنة.

يمكن أن يبدأ المرء صباحه حوثياً، ثم يمسي شرعياً، كما يمكنه العبور ذهاباً وإياباً بين الضفتين لأسباب شخصية محضة، وسيتم تفهمه في كل مرة!

تحالف صالح مع الحوثيين وكان رأس الحربة في الانقلاب لكن من خلفهم. شاركهم جرائمهم وصنع أكثر منهم هذا الجحيم الماثل لأنه باعهم ميراث خمس جمهوريات ومخازن سلاح دولتين. بين عشية وضحاها، صار صالح قائد ثورة ضد الحوثيين ليس لأنه تذكر فجأة أنه “جمهوري” في مواجهة الحوثي الإمامي، بل لأن حلفاءه الحوثيين قرروا التخلص منه فقصفوا منازل العائلة كما قال يحيى صالح، ثم قتلوه!

على وقع هذا الصراع بين المنقلبين، جرى طمس كل شيء ببساطة، وكأن صالح كان في رحلة صيد، بل جرى مكافأته في الوعي الجمعي اليمني كثائر ويجري مكافأة عائلته بترتيبات حكم!

التقلب بين المواقف والخنادق سمة الحروب اليمنية، سيما في الشمال. من الحروب الجمهورية الملكية إلى الحرب الحالية، ليس ثمة قيَم يصطف الناس حولها بشكل راسخ، ولا غايات وطنية يترتب عنها مصائر والتزامات قانونية ودستورية ومسؤوليات واضحة، بل مجرد لحظة تتعلق بالمزاج الشخصي لصاحبها ومصالحه. هذا السلوك كان شبه حصري على القبائل، وقد شاع في الحرب الملكية الجمهورية في ستينيات القرن الماضي اصطلاح “جمهوري في النهار، ملكي في الليل”، تعبيراً عن الافتقاد للقيمة والتقلب الشديد في المواقف المحكومة بالمصلحة المباشرة.

هذه اللوثة لن تبقى حكراً على القبيلة، بل ستصيب بعد عقود من حكم أفسد ودمر الذمم، مثقفين ونخباً، حتى أنك ستجد بين هؤلاء الذين يزعقون في وجه الحوثي اليوم على الشبكات الاجتماعية، حوثيين حقيقيين تعاملوا مع الانقلاب باعتباره وجهة نظر، وقاتلوا كإعلاميين أو ككتّاب أو نشطاء إلى جانبه.

كثير من هؤلاء لم يغادروا دكة الحوثي لأنهم أدركوا الخطر على الجمهورية، بل لأن الحوثي لم يمهلهم وكشر عن أنيابه لإزاحتهم واستهدف مصالحهم. كل ما فعلوه أنهم نقلوا التكية لطرف آخر وبعضهم صار متعهداً إقليمياً يبحث عن الجمهورية والبلاد في جيب من يدفع.

في هذا السياق يبدو التداعي القبلي حيال احتجاز القيادي الحوثي محمد الزايدي في المهرة للمطالبة بالإفراج عنه رغم تورطه في التحشيد والمساندة للحوثي، غير مستغرب. لم تغادر القبيلة اليمنية بيئتها المعروفة، حيث تشكل رابطة الدم والهوية الفرعية كعصبية ناظمة هوية أعلى ومهيمنة على ما عداها من روابط وطنية مفترضة. كما أن محددات اصطفافاتها غالباً ما يطغى عليها الجانب النفعي المباشر. ولأسباب اقتصادية واجتماعية، تتحول الحرب إلى مورد بغض النظر عن المكان الذي تقف فيه، وهو أمر على كل حال ليس بالمطلق.

في حالة الزايدي، تبحث القبيلة عما يبرر سلوكها العصبوي، فهي تتحدث عن “عيب أسود”، وتزعم أن الشيخ القبلي المقبوض عليه كان في طريقه للعلاج. هذه القبائل نفسها لا تتحدث عن “العيب الأسود” باعتباره مبدأ قبلياً حاكماً لسلوكها، بل باعتباره فعلاً عصبوياً محضاً، يتعلق بما قد يتعرض له أحد أعضائها، رغم أنها يمكن أن تنخرط في عيوب سوداء بلا حدود.

لم تكن القبيلة بريئة من العيوب السوداء التي مارسها الحوثي، بل كانت أداته. دفعت بأفرادها للقتال مع ميليشيا الحوثي ووقعت وثائق نكف، وانتهكت الأعراف القبلية والقوانين الوضعية والدينية، فشاركت في تفجير المنازل على رؤوس ساكنيها، وحاصرت المدن، وتبولت على شحنات المياه، واختطفت النساء، بل إن هناك ممارسات لا أخلاقية باتت جزءًا من نهج الميليشيا في إدارة الشأن العام.

وهي تتحدث عن “العيب الأسود”، لم تر هذه القبيلة في مهاجمة رجل أعزل كالشيخ صالح حنتوس قبل أيام إلى منزله عيباً أسود. “جريمة” الرجل الطاعن في السن بنظر ميليشيا الحوثي، أنه قضى حياته في تعليم القرآن وخدمته، كما فعلت مع مئات غيره قبله. لذلك هاجمته وزوجته بمختلف الأسلحة إلى منزله بمشاركة آلاف من عكفتها، وقتلته وتركته ينزف حتى الموت.

لم يكن ذلك عيباً يستحق الفزعة، بل ربما رأته عملاً يستحق الاحتفال، وليس مستبعداً أن يكون بين أفراد هذه “الغزوة” المظفرة من رجال القبيلة نفسها، خادمة الحوثي ومصدر الكثير من عكفته.

إن الزايدي ليس شخصاً عادياً محايداً يمكن تقبل فكرة الإفراج عنه، بل رجل مقاتل يحتشد بوقائع موثقة مع الميليشيا في كل معركة، يستخدم نفوذه للتغرير بأبناء القبائل البسطاء والمعدمين والدفع بهم إلى محارق الموت لقتل إخوانهم اليمنيين لتحقيق مصالحه الشخصية. فوق ذلك، تسبب الرجل بقتل ضابط كبير في الجيش اليمني وجرح آخرين، ما يعني أنه بات مرتكب جناية مباشرة. ذلك ليس مهماً بنظر القبيلة.

بالنسبة للقبيلة الحوثية، فهي لن تكون شيئاً مختلفاً عما عرفناه طوال فترة الحرب. المشكلة في فروعها التي يُفترض أنها تقاتل مع الشرعية وتقف مع الزايدي الحوثي! هنا تختفي الفروق الفاصلة بين من يقاتل مع ما يُفترض أنها الجمهورية والدولة كهدف وغاية، ومن يقاتل ضدها. لكأن الدم الطازج المسفوك مباح من أجل سلامة الشيخ الحوثي القاتل!

لقد جرى طوال سنوات الحرب طمس المعالم الفاصلة بين معركة وطنية لاستعادة جمهورية ودولة تم الغدر بها من قيادات عسكرية وسياسية وقبلية ومثقفين ونخب، وبين الحرب باعتبارها مصدر دخل أو مصلحة شخصية لصاحبها.

في اليمن، يمكنك طوال الوقت، كنافذ، التلاعب بالحدود الفاصلة بين الخنادق رغم تضحيات الرجال النبلاء، أن تمدها كما تشاء حتى تصبح خندقًا واحدًا، وأن تنتقل بين خطوط القتال دون أن يرتب ذلك جرماً مستحقاً على ظهرك. بل إنك دائماً على حق!

الأدهى أن وجودك في صف الميليشيا ومشاركتها مختلف الجرائم يمكن أن يرتب لك وضعاً جيداً في صف الشرعية إذا قررت الانتقال في أي لحظة. سجل جرائمك لا يحول دون أي شيء حتى أنه يمكنك أن تطمح للحكم، وكأن ما فعلته بحق وطن وشعب كان مجرد تسلية لتمضية الوقت!

لا حرمة للدم ولا لكرامة الناس في هذا البلد. لا تبدو العدالة مطلباً لأحد. لا يختلف الأمر هنا بين مثقف وقبيلي، بين مسؤول ومواطن، الكل يتواطأ ضد نفسه لإبقاء البلاد مساحة شاسعة للحروب والفوضى والدم، ومرتعاً للاستباحة الخارجية.

هنا يتجلى معنى أن تغدو الحرب عبثية بكل جوارحها!

ستنتهي هذه الحرب وقد أصبح الجميع شهداء: من قاتل ضد الميليشيا الطائفية العنصرية والظلم ومن قاتل معها، من تصدى للانقلاب ومن كان جزءًا منه.

لكنني أحتار حقًا: ما الذي سنقوله وقد انتقلنا إلى العالم الآخر؟

مقالات

أيُّ مستقبل للحوثيين بعد حرب إسرائيل وإيران؟

بتهديداتهم المتكررة وغير الواقعية أو العملية، لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا، وحتى التلويح باستهداف بعض دول الجوار، يضع الحوثيون أنفسهم في مواقف لا يُحسدون عليها، ليس فقط من جهة ردود فعل تلك القوى الدولية في حال تكررت مغامراتهم باستهدافها مباشرة أو من خلال التعرض لسفنها في خطوط الملاحة المارة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ولكن أيضاً لكون تلك التهديدات باتت تُثير السخرية والتندّر لدى كثير من الأوساط في تلك الدول.

مقالات

غزَّة أولاً

حرب الإبادة على غزة، وصمود شعبها، فيه تقرير مصير أمَّتِنَا العربية، ومستقبل سيادتها على أرضها.

مقالات

"خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" (2)

في أول اجتماعٍ حزبي كنا خمسة أو ستة أعضاء، ولم يكن بينهم أحد من قريتي، لكن خوفي كان قد تبخّر، وكان المسؤول الحزبي شخصاً في غاية اللطف، يقول كلامًا بسيطًا عن الظلم والعدالة وعن الحزب، وكنت قد بدأت أستلطفه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.