مقالات

بلاد تلبسنا مثل جلد فنهرب منها إليها!! (1-2)

26/05/2022, 13:27:52

أي قارئ لتاريخ اليمن القريب - خلال المائة العام الماضية على وجه التحديد- لا بُد أن تستوقفه عديد أحداث تُحيل بمجملها إلى مصائر واحدة ربطت اليمنيين في شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها،  ومنها أن الكثير، والكثير جداً، من الشخصيات - في أزمنة التقسيم السياسي المتعاقبة - حينما كانت تضيق بهم البقعة التي يقيمون عليها ينتقلون إلى بقعة مجاورة على الجغرافيا ذاتها من منطلق واحدية الأرض والإنسان.

مثلاً رافق الجيش التركي في تحركه إلى عدن ولحج في العام 1917م مئات الشخصيات والأفراد العاديين في بحثهم عن حلم سياسي كبير لم يتحقق، والعديد من هؤلاء اتخذوا من لحج وعدن مستقرات جديدة، صاروا مع الوقت أرباب أسر معروفة وكبيرة، ويقفز إلى ذهني ما سطره الراحل حسين علي الحبيشي، الذي أشار في مذكراته (محطات حياتي - 2003) أن جدّه ووالده قدما إلى لحج أولاً من القوات التركية، وكانا من متعهدي التموين للجيش، إذ كانا يوفرا لهم الخرفان والدجاج والبيض وغيرها من مواد الإعاشة، وبعد وفاة الأب استقر الابن في الشيخ عثمان مؤسساً لأسرة معروفة خرج منها القانوني الكبير حسين بن علي الحبيشي، أول مدير لكلية بلقيس في عدن منذ تأسيسها في العام 1961م، وتالياً الرئيس التنفيذي للمكتب القانوني في حكومة الجمهورية العربية اليمنية، ومستشاراً قانونياً للرئاسة اليمنية حتى وفاته في العام 2010م.

جد الفنان إسكندر ثابت من أمه حسين صالح، الذي تلقّب بالتركي، ويقال إنه كان يربي الديك الرومي في حوش منزله ويبيعه للإنجليز بعد أن كان يقوم بالمهنة ذاتها أيام تواجد الجيش التركي - وقد قدم غالباً مطلع القرن العشرين من إحدى مناطق اليمن الداخلية - وهذا الرجل كان له الفضل الكبير في تعليم العشرات من الطلاب اللغة الإنجليزية والموسيقى في مكتبه في الشيخ عثمان، وصار بعضهم أعلاماً كبارا في تاريخ اليمن، أمثال المرشدي ومحمد سعيد مسواط وإدريس حنبلة ومحمد أحمد يابلي (والد الصحافي الراحل نجيب يابلي)، بالإضافة إلى حفيده الفنان إسكندر وشقيقه سعيد ثابت والد الفنان نجيب سعيد ثابت.

يقول الفنان محمد مرشد ناجي إن والده، الذي ينتمي إلى معافر الشوَّيفة بالحجرية، قدِم إلى عدن هو الآخر هرباً من عذاب الإمامة، وفي عدن جنّد سُخرة في الجيش التركي الذي رابط في لحج والشيخ عثمان، وبعد خروج الجيش التركي تنقّل كعامل بالأجر اليومي في أكثر من  مكان حتى استقر به المقام في إحدى شركات الملح الهندية في منطقة الحسوة، بعدها تزوّج من أمه (عورلا عبدي) لينجبا هذا الفنان والمثقف العظيم.

هرب الفنان محمد بن شرف الدين، المنحدر من منطقة كوكبان، إلى عدن مطلع العشرينات بعد أن ضيَّق الإمام يحيى على المطربين بتحريمه الموسيقى والغناء، وتلقّب في عدن بالماس، تخففاً من حمولة اللقّب، فكان أن ورَّث شغفه بالطرب ولده إبراهيم، الذي صار مع الأيام واحدا من أهم المطربين ليس في عدن بل في اليمن والخليج طيلة فترة الأربعينات والخمسينات.

نشأت في عدن الكثير من الأسر التي تلقّبت بأسماء المناطق التي انحدر منها الأجداد، وصارت مع الوقت من واجهات المدينة الحيوية، وقت كانت بوابة للتحديث والعصرنة، وممراً حيوياً للمهاجرين من الداخل اليمني إلى بلدان شرق ووسط أفريقيا وموانئ العالم الحيوية، مثل ليفربول ومرسيليا وعصب ومصوع، قبل أن يعود أكثرهم ويستقروا فيها كتجار معروفين، ومن البيوتات اليمنية المعروفة في عدن بيت الزيدي، ومنها الفنان محمد عبده زيدي، وأسرة الهمداني ومنها أحمد علي الهمداني، وأسرة الصنعاني في لحج وعدن ومنها الفنان محمد سعد الصنعاني، وأسرة المقطري ومنها أحد مؤسسي حزب الرابطة علي محمد المقطري والمثقف الكبير الراحل هشام علي بن علي، وأسرة الشيباني ومنها الأديب والصحافي الراحل إسماعيل شيباني - أحد ضحايا أحداث 1986م-، حتى أن حواري كاملة في الشيخ عثمان تسمّت بأسماء المناطق التي انحدر منها الساكنون مثل حافة "القرَّيشة" وحافة "دُبَع"، في الحجرية.

العديد من الشخصيات الحضرمية المرتبطة بالقضاء والحكم استقرت في صنعاء وتعز وإب وجبلة والحديدة  وذمار والبيضاء، وتزاوجت وصارت جزءاً من النسيج المجتمعي في هذه المناطق،  وتوارث أبناؤها مناصب عليا في الدولة كحكام وقضاة، ويقفز إلى الذهن ألقاب عوائل باعلوي والحبشي وباسلامة  والبار والحضرمي وبن عبيد الله والهدَّار وعقيل، وإن عديد تجار حضارمة استقروا في الحديدة والمخا وصنعاء، ونمت تجارتهم وصاروا مع الوقت جزءاً أصيلاً من بنية المجتمع التهامي وبيوتات تجارية معروفة ومنها: بيت شماخ وبا مشموس وبا عبيد وبا شنفر وبا مسلم وبا جرش والسقاف وغيرها.

 ومثلما استقرت بعض الأسر الحضرمية في مناطق الشمال اليمني، استوطنت أيضاً الكثير منها في مدينة عدن ومدن لحج وأبين، ومن هذه الأسر: آل باحميش، آل العيدروس، آل باهارون، آل باذيب، آل باخبيرة، آل العمودي، آل باعبيد، آل باقطيان، آل باصهي، آل بامدهف، آل باهيصمي، آل با طويل، آل بلفقيه، آل المحضار، آل العطاس، آل بازرعة، آل باسودان، آل باوزير، وغيرها وغيرها.

 قبل منتصف الأربعينات بقليل (صيف 1944)، بدأ توافد الكثير من المعارضين السياسيين للإمام يحيى وولده أحمد إلى مدينة عدن، وفي سنوات قليلة استنهضوا الوعي السياسي المناهض لحكم الأئمة في مناطق الداخل أولاً من خلال الكتابة الصحافية في فتاة الجزيرة (أنموذج مطيع دماج)، أو بواسطة أدبيات الجمعية اليمانية الكبرى وحزب الأحرار (صوت اليمن التي أصدرها الأستاذ النعمان ورفيقه القاضي الزبيري).

بعد فشل حركة 48 في صنعاء، هرب إلى عدن مجموعة أخرى من السياسيين، وبدأوا يعملون في مهن التعليم في الأندية والاتحادات التي أنشأها الوافدون من مناطق الداخل (أنموذج علي عبد العزيز نصر وقاسم غالب وأحمد حسين المروني والقاضي الغرباني)، وصاروا فاعلين ومؤثرين ليس في المشهد السياسي فحسب، ولكن في المشهد الثقافي، وجزءا حيويا من بنية الاتحاد اليمني الذي  تشكّل على أنقاض حزب الأحرار الدستوري، الذي سحبت السلطات الاستعمارية ترخيصه بضغوط من الإمام الجديد أحمد بن حميد الدين الذي خلّف والدة الإمام يحيى الذي قُتل في صنعاء في فبراير 1948م، وكان معظم المنتمين للهيئة الإدارية للاتحاد الجديد من التجار اليمنيين في المدينة، وعلى رأسهم التاجر الوطني أحمد عبد القادر علوان الذي تسلَّم الرئاسة خلفاً للشيخ عبدالله علي الحكيمي، بعد وفاته المريبة بعد فترة وجيزة من خروجه من سجن السلطة الاستعمارية في عدن في العام 1953م.

مع بداية النهوض التجاري والمالي في مدينة عدن في عقد الخمسينات، عادت بعض رؤوس الأموال اليمنية المهاجرة من شرق أفريقيا ووسطها، ومن جنوب شرق آسيا لتستثمر في المدينة الصاعدة، التي صارت مركزاً حيوياً للقاعدة البريطانية المتقدّمة في المنطقة، بعد مغادرة القوات البريطانية الأراضي المصرية في العام 1954م، وتقلّص نفوذها في إيران بعد ثورة الزعيم محمد مصدَّق التي قامت بتأميم شركة النفط الإنجليزية في العام 1951م.

برزت وقتها بيوتات تجارية في المدينة، استفادت من جملة التحولات الاقتصادية والمالية، فقفزت إلى الواجهة شركات السفاري وهائل سعيد والجبلي وأولاد المطهر وجمعان وعذبان والوجيه، وغيرها من الداخل اليمني، التي كان لها لاحقاً إسهامها الكبير في عمليات التحول الاقتصادي والتجاري التي شهدتها البلاد بعد ثورة سبتمبر 1962م.


(يتبع)

مقالات

لا ضوء في آخر النفق!

عندما بدأت الحرب على اليمن في 26 مارس، بدون أي مقدّمات أو إرهاصات أو مؤشرات تدل على حرب وشيكة، حيث تزامنت هذه الحرب مع هروب عبد ربه منصور إلى سلطنة عُمان، وكان قرار الحرب سعودياً، ثم إماراتياً خالصاً، تحت مسمى "إعادة الشرعية"، التي في الأصل قامت السعودية بفتح كل الطرق لدخول الحوثيين إلى صنعاء وطرد الشرعية منها، وأن هذه الحرب لم تكن مرتجلة بل مخطط لها لإعادة اليمن إلى ما نحن عليه اليوم، من شتات وتمزّق.

مقالات

هنا بدأت رحلتي

أضواء خافتة تقسم الشارع بالتساوي بين الذاهبين والقادمين، قمر في السماء يوزع ضوءه بين سطوح المنازل وقناة الماء في ميدلبورغ، وأنا أجلس خلف ضوء دراجتي الهوائية، وخلف أمنيتي أن يستمر الطريق بلا نهاية.

مقالات

حديث لن يتوقف!

يومَ أعلن علي سالم البيض بيان الانفصال، في خضم حرب صيف 1994م، تنصَّلت جُل - إنْ لم يكن كل - قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي عن مسؤوليتها تجاه هذا الإعلان المقيت، الذي لم تقوَ حُجَّته أمام كل ذي عقل بأنه كان اضطرارياً، كما حاول البعض الزعم به يومها، إذْ لم يجرؤ أحد على القول إنه يتفق مع مشروع الانفصال.

مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي". يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.