مقالات
تموز وأسئلة الغناء والغبار والحرب!!
(1) عن الغبار وأشلائه
مررت، خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو/ تموز، بكثير من اللحظات الصعبة، تُضاف إلى صعوبات جمّة تعايشنا معها في وقت صار عنوانه 'الرتابة والملل والانسداد'؛ حتى إن نوبة الحساسية الموسمية، التي أفرطت بي وقادتني إلى الطبيب، اعتبرتها جزءاً من مغايرات شهر تموز الصعبة، الذي كان حينما يدخل بحرارته وجفافه يردد استاذي الراحل الكبير أحمد قاسم دماج مثلاً شعبياً يجري على ألسنة أهل المناطق الحارة، وخصوصاً في عدن ومجاوراتها وتهامة، الذي يقول [تموز يفوِّر الماء في الكوز]، أي أنه من فرط حرارته وشدّتها يستطيع أن يجعل الماء يغتلي في أكواز الفخار الطينية، التي يستخدمها السكان لتبريد الماء في الأصياف الفائضة.
حمل إلينا تموز في أسبوعه الأول الكثير من قسوته في صنعاء، فلم "تتهطل" مطراً بعد استسقائها، لأن ضروع السماء غدت جافة، فنثت في الأرجاء غباراً ملحاحاً، عوضاً عن قطرات غيث مستأنس ووديع، يروِّض مشاعر الناس الجافة والخشنة.
(2) الغناء في يومه الأول
في أول أيامه، احتفل ناشطو اليمن ومثقفوه وأدباؤه بيوم 'الأغنية اليمنية'، في رد بليغ منهم على عملية طمس الهُوية الموسيقية وإرثها الطويل، واستبدالاها بأناشيد الحرب وزوامل الموت.
ومثل غيري أعدت نشر العديد من المواد التي كتبتها في أوقات متفرِّقة عن وجوه الفن والموسيقى في اليمن، وإن إحدى هذه المواد - وكانت مقاربة لكتاب الصديق يحيى قاسم سهل عن الأصوات الغنائية النسوية في اليمن خلال نصف قرن (1950-2000) – تعرَّضَت للسطو من قِبل ناشطة مستعجلة قوي، لم تكلف نفسها اعتذاراً صغيراً، فقط اكتفت بمسح المادة من صفحتها، وتركتها في المواقع تتداول باسمها!!
أعدت أيضاً نشر مادة عن فناني الشارع في صنعاء (المرحوم رشيد حريبي وعبدالله البحري)، وعن صوت اليمن الدافئ عبد الباسط عبسي، والشعراء الذين تعاون معهم؛ عن سائق باص أنيق في صنعاء يحتفظ بمشغل صوتي يبث أغاني يمنية رائجة لفنانين معروفين من كل أنحاء اليمن. وأجَّلت نشر مادتَين أخريين عن الفنانة أمل كعدل، وعن قصة أغنية "يا بائعات البلس والقات" للفنان العبقري محمد محسن عطروش، الذي يُحكى أنه قال:
" في أول زيارة له إلى مدينة تعز، أواسط الستينيات من القرن الماضي، شدّته مظاهر الحياة المختلفة في المدينة، التي كانت قبلة الثوار والمثقفين والمغامرين، ومن المظاهر غير المألوفة لديه هي بيع نساء 'جبل صبر' القات والفواكه في أسواق المدينة الرئيسية (الجحملية وباب الكبير وباب موسى)، وبعد عودته إلى "أبين"، بدأ يحكي لزوّار مقيله عن المدينة، وعن نساء الجبل في حضور خاله الشاعر الراحل الكبير "عمر عبدالله نسير"، الذي انتحى جانباً ليكتب هذه القصيدة، وهو الذي لم يزرْ المدينة أصلاً، واستلهمها من حديث الفنان العطروش:
"يا بائعات البلس والقات/ يا حوريات يا نازلات من علالي إلى البندر/ يا لابسات الذهب زينات/ يا سُعد من يشتري من صبايا صبر الاخضر/ في حسنهن شا ضيع يابوي .. لو ذا الجمال للبيع يابوي .. عتشتريه الناس.
بِكمًّا اشتيت قالت لي / وتنظر لي وتضحك لي/ نسيت اسمي / نسيت أهلي / يا رب يا ساتر يابوي / من نونها الأخضر يا بوي.. هيمرعوه الناس".
(3) عن ذكرى العلَمين
في يوم واحد من هذا الشهر، وتحديداً في الخامس منه، صادف ذكرى رحيل اثنين من أعلام اليمن الكبار، هما: الشاعر عبدالله عبد الوهاب نعمان (الفضول)، والناثر الخطيب محمد علي الربادي، وعن الثاني كنت قد كتبت مادة، وأعدت نشرها في ذكرى رحيله في الخامس من يوليو 1993م، مقرباً فيها سيرة تكوينه الباكرة، وكيف صار "الطفل الفقير شديد النباهة والذكاء، الذي كان يتلقى دروسه الباكرة في الجامع الكبير وملحقاته، على أيدي أحمد الضراسي، ومحمد وهابي، وعلي باسلامة، وقاسم شجاع الدين، في مدينة إب، كان يفتش عن الإجابة عن سؤال يكبر في ذهنه الصغير: لماذا خرج هؤلاء عن طاعة ولي الأمر -كما كان يُشاع عنهم- لتبرير سجنهم واضطهادهم!؟
وحين اختصر الإجابة بالظلم والافقار والتجهيل الذي يجذّره نظام الإمامة في حياة الناس، بدا يقتفي أثر هؤلاء في تعرِية الظلم ومحاربته بالكلمة الصادقة في المنابر والمجالس والأسواق في نصف قرن عاشها تالياً".
وعن الفضول الذي رحل في اليوم نفسه من العام 1982، كتبت ذات وقت عن "الثنائية من الجغرافية إلى الاحتكار المحبب" أنه "قبل متلازمة أيوب لم يكن الفضول في الوعي الشعبي البسيط، ولا حتى في السردية الثقافية السيارة غير ذلك الصحافي الساخر، الذي أصدر في مدينة عدن، في العام 1948، صحيفة 'الفضول'، تيمناً باسم الحلف التاريخي لنصرة المظلومين، فذاب اسمه في اسمها فصارت هي اسماً له، وفي الوعي السياسي هو اسم المناضل الصلب الذي تسنّم أكثر من موقع حكومي، كان أشهرها على الإطلاق موقع وزير الإعلام في واحدة من حكومات ما بعد العام 1967.
لكن قبل ذلك، تقول أقرب التراجم عنه إنه من مواليد قرية 'ذبحان' بالقرب من مدينة 'التربة' مركز مديرية 'الحجرية' في العام 1918، ووالده هو قائم مقام 'الحجرية'، درس في 'زبيد' وعلى يد ابن عمه الأستاذ أحمد محمد النعمان، والأستاذ محمد أحمد حيدرة في مدرسة 'ذبحان'، وبعد عودة الأستاذ النّعمان من مصر إلى تعز أوائل 1941، وانضمامه إلى طاقم ولي العهد، انتقل الفضول إلى تعز حيث عمل مدرساً في المدرسة 'الأحمدية' حتى العام 1944، حين التحق من جديد بابن عمه الذي فرَّ إلى عدن، وكان معه من أوائل مؤسسي "حزب الأحرار اليمنيين".
في عدن عمل معلماً لمادة اللغة العربية في مدرسة "بازرعة" الخيرية، في منطقة 'العيدروس'، ثم ترك التدريس في العام 1946، وعمل في صحيفة "صوت اليمن" الناطقة باسم 'الجمعية اليمنية الكبرى'، التي بدأ منها كتابة المقالات الساخرة التي تتهكم على نظام الإمامة، بالإضافة إلى كتاباته السياسية في جريدة 'فتاة الجزيرة' بتوقيع "يمني بلا مأوى" وكتابة الشعر.
وبعد فشل ثورة 1948 الدستورية، أصدر صحيفة "الفضول" لمدة خمسة أعوام، وإن بشكل غير منتظم، حتى أغلقتها الحكومة الاستعمارية بضغوط من حكومة الإمام.
انقطع عن الكتابة الصحافية، وعن كتابة الشعر لسنوات طويلة، حيث فضَّل الاشتغال بمهن حُرة مختلفة، وبقي متنقلاً بين عدن وتعز وصنعاء حتى العام 1966، حيث تم اعتقاله في سجن 'القلعة' بصنعاء ضمن مجموعة من السياسيين المعارضين للتدخل المصري في الشؤون الداخلية، وبالتزامن مع الاعتقال الشهير للرموز السياسية اليمنية وحكومة 'حسين العمري' في 'السجن الحربي' بالقاهرة، ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد 'نكسة 1967'.
في هذه الفترة تقريباً، عاود الفضول كتابة الشعر، بل وكتابة القصيدة الغنائية بشكل مكثف، بعد أن كانت بالنسبة له نوعاً التنفيس، على نحو قصيدة "شبان القبيلة"، التي لحّنها في وقت مبكر (1964م) الفنان محمد مرشد ناجي، وغنّتها الفنانة 'نجاة الصغيرة'، والفنان محمد صالح عزاني في وقت لاحق، وأغنية "رح لك بعيد" التي لحنها لمنى علي الفنان علي بن علي الآنسي.
يقول الفنان أيوب طارش عبسي إن أول تعارف له بالفضول كان في مدينة تعز في العام 1967، بعد أن صار أيوب اسماً معروفاً، وبدأت إذاعة تعز ببث تسجيلات لأغانيه الباكرة التي أرسلها من عدن إلى الإذاعة في العام 1965، ومنها أغاني: "بالله عليك وا مسافر لا لقيت الحبيب"، "قد كان طبعك حلى"، "بس لا تأشر لي سلام بيدك"، وهي من كلمات أخيه الفلاح محمد طارش، بالإضافة إلى أغاني من ألحان أحمد عبدالرحمن الكعمدي: "ارجع لحولك" و"رامي الغزال" و"واحبيب"، وأغنية عبده علي ياقوت الذبحاني "صُدفه من الصبح".
أما بداية التعاون الفني بينهما -كما يقول- كان بثمان أغان تم تسجيلها في بيروت، نصفها بمصاحبة الفرقة الموسيقية (هات لي قلبك، ويشتيك قلبي، وحبيت من فيه خاب الظن، ودق القاع)، ونصفها الآخر بمصاحبة العود فقط (نجم الصباح، و بكِّر غبش، ووادي الضباب، والليل والنجم).
هذا التعاون سيصير في عقد ونصف من السنوات (1967ـ 1982) اختزالاً وتعبيراً لمعنى الثُّنائية الفنية في تظهيرها الأول في تعز، أو ما صار يُعرف بخصوصية الغناء في منطقة الحُجرية.
(4) عن الحرب البيضاء
في السادس من الشهر ذاته، قفز إلى بالي سؤال يجول بخاطر الكثيرين، ويُبنى على النحو التالي:
هل لمعارك البيضاء المتسارعة علاقة بقرار الولايات المتحدة الأمريكية استئناف الدّعم المقدم للجيش اليمني؟ الذي عبّرت عنه الخارجية الأمريكية ببيانها مطلع الأسبوع الماضي والذي جاء فيه:
"إن الولايات المتحدة قررت إعادة التعامل مع القوات المسلحة اليمنية التي تتبع الحكومة المعترف بها دولياً، وبناء قدراتها دعماً للمصالح الوطنية الأمريكية بما في ذلك مكافحة التطرف والإرهاب والتهريب غير المشروع وضمان حرية الملاحة عبر مضيق باب المندب".
القرار ربّما جاء بعد انسداد أفق الحل السياسي، الذي بشَّرت به، خلال الأشهر الأربعة الماضية، عن طريق مبعوثها الخاص (تيموثي ليندركينغ)، ورأت في سلطنة عُمان ضامناً رئيسياً، التي بدورها أرسلت وفداً من الديوان السلطاني، في الخامس من يونيو الماضي، إلى صنعاء، غير أن هذا الوفد عاد إلى مسقط، مع وفد الحوثيين المفاوض الذي يُقيم في مسقط، دون إحداث أي اختراق.
وهل للتسريبات الإعلامية العُمانية والسعودية عن زيارة مرتقبة للسلطان هيثم إلى الرياض، مطلع الأسبوع المقبل، علاقة بما يجري على الأرض؟
أسئلة ستجيب عنها الأيام الحبلى.