مقالات
ثقافة استعارة الكتب...!
هذا مقال رمضاني؛ لأنَّ رمضان شهر الصيام والكُتب والتأليف والترفّع الروحي، والسمو النفسي، ولذلك أكثر كتب الحب الإنساني؛ مثل طوق الحمام لابن حزم، وروضة المحبين وبستان العاشقين لابن القيم الجوزية، ووحي القلم للرافعي، وكذلك كتبه "أوراق الورد، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر"، وغيره وغيرهم كثيرون.
تتبدَّى حربُ الكُتب واستعارة الكُتب وإعادتها حربا ثقاقية بكل ما في الكلمة من معنى، وهي حرب قد تكون محبوبة عند البعض، وغير محبوبة عند البعض الآخر، حيث تتبدَّى المودَّات ثم تظهر الحزازات، ثم تنقلب إلى عداوات من نوع ما، وهذا إن دلَّ فإنَّما يدل على قصور ثقافي، وقصور في فهم تجليات المعارف من بطون الكتب، وكل ذلك يصبُّ في سُوء الفهم لصاحب الكتاب، وسُوء فهم المستعير للكتاب.
وعندما نعيد النظر في أحد أهم مصادر الثقافة نجد الكتاب والكُتب المستعارة هي أول الأساس، وأول الغيث في تكوين الكثير من المثقفين، والمدماك الأساس في تشكيل نفسيات وعقول أكثر الكُتّاب إنْ لم يكن جميعهم على الإطلاق.
فقبل ثورة سبتمبر، كان الكتاب القادم من مصر يجوب آفاق المدن اليمنية سراً وجهراً، وكان هناك أرواح سامية تحب أن تشرك الجميع في التنوير الثقافي والمعرفي، حيث كان اليمن يغوص في الظلام المعرفي الدامس.
كانوا يقولون: الكُتب تؤلَّفُ وتُكتبُ في القاهرة، وتُطبعُ في لبنان، وتُقرأ في العراق، في الوقت الذي كان فيه اليمنيون يتبادلون ويتناقلون الكُتب سراً وجهراً، حيث أمكن الجهر، بكل أريحية وافتتان معرفي، حيث كان المُعِير يشعر بسعادة بالغة وهو يتسبب في إضاءة العقول، وكان المُستعِير يتمتّع بخاصية الوفاء بعد قراءة الكتاب وإعادته ليستفيد آخرون كثيرون في بلاد تخلو من المكتبات، ما عدا المكتبات الشخصية.
كانت القاهرة، ثم عدن، نافذة شمال اليمن إلى المعرفة وإطلالتها على عالم الثقافة التي اجتازت أشواطا طويلة في الوطن العربي من أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين الذي شهد حركة ثقاقية هائلة لتعويض أو كثورة ثقافية على عصور الظلام التي امتدت لقرون طويلة.
لكن ما نحن بصدده هنا هو السؤال التالي: لماذا يتحول التبادل المعرفي إلى سُوء فهم؟
لا شك أن لكل شخص مهتم في هذا المجال قصصه الخاصة به، وحكاياته التي قد تشيب منها صفحات الكُتب، وهذا نسميه "مجازا"، ويمكن لكل واحد من الكُتّاب أو المثقفين، والمثقفات عموماً، أن يسردوا أو يسردن ما يتَّسع لكتاب حول حكاياته مع إعارة الكُتب، أو استعارتها، أو استعادتها بشق الأنفس.
ولا شك أن بعضنا، أو كلنا، قد خسر الكثير من الكُتب المهمَّة التي يمكن أن تكون حجر الزاوية في تشكيل ثقاقة البعض أو الكل، ولها ارتباط وجداني عميق وكبير بصاحبها الأول، الذي أعاره، ثم الثاني الذي لم يفِ بإعادة الكتاب، حيث تصبح الكُتب جزءاً منا ونحن جزءا منها، وتمسي هذه الكُتب وقد احتلت رفوفاً مهمَّة من الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، مرتبطة بمصيرها (أين كانت وأين أصبحت؟).
ولعلنا هنا لا نكون قد خرجنا عن السياق إذا سردنا قصة مع أحد أهم الكُتب التي درسناها في الجامعة كمثال حي لثقافة الإعارة والاستعارة، حيث كان الكتاب يُناقش قضية في غاية الأهمية من حيث الجدة والموضوع، وكان عنوانه "الرؤية الرومانسية للمصير الإنساني لدى الشاعر العربي الحديث"، والمصير هنا هو الموت، وكيف استطاع الدكتور طلعت أبو العزم (مؤلف الكتاب) اقتناص هذا الموضوع الشفاف والبائس والحزين، الذي يتناول اثني عشر شاعراً عربياً ما توا وهم في ريعان الشباب؛ حيث أغلبهم ماتوا ولما يتجاوزوا ال٢٥ عاما؛ لأسباب كثيرة، منها أمراض عانوا منها، مثل القلب، والرئة، والصدر، وغير ذلك من الأمراض التي فاجأتهم وهم في ريعان الشباب، لكنهم إلى جانب ذلك عانوا بشدة من الشعور بالتمزّق الذاتي، والفراغ العاطفي، أو الخواء العاطفي، والشعور البائس والنفسي بالحرمان من الحب، وكذلك تساؤلات القلق الوجودي، التي امتلأت بها قصائدهم الفاتنة التي كانت أشبه بعرائس الشعر، وخاصة مع انتشار المذهب الوجودي القادم من الغرب، الذي أصاب نفوس وقلوب عدد من هؤلاء الشعراء الموهوبين، وصادفهم وهم يتساءلون عن الوجود والخلق والحياة والموت والخلود، ولعلَّ قصائدهم تفيض بتلك الساؤلات، التي لا جواب يقيني عنها، مبثوثة في دواوينهم التي يتناقلها المثقفون والقُراء العاديون، وأساتذة الجامعات والباحثون، ولعلَّ قصيدة أبي القاسم الشابي (فلسفة الثعبان المقدَّس) من القصائد الملهمة التي تتناول موضوع "الخلود"، وغيرها من القصائد.
وإلى جانب أبي القاسم الشابي، هناك شعراء من مصر، وهم: صالح الشرنوبي، وصالح الهمشري، ومحمد رشيد رضا، ومن السودان التيجاني يوسف بشير، وإدريس جمّاع، ومن لبنان فوزي المعلوف، ومن سوريا عبد السلام عيونه سود، ولا ننسى الشاعر بدر شاكر الشياب من العراق "وهو الوحيد الذي وصل عمره إلى الثامنة والثلاثين"، وقصته مع المرض والحب المبذول للفاتنات اللواتي كان ديوانه يتأرجح فوق نهودهن وحيدا بدون صاحبه.
كانت كذلك ظاهرة الحزن منتشرة في كل نماذجهم الشعرية، ودرسنا هذا الكتاب من خلال ملازم مأخوذة منه، ولسبب ما لم أقتن هذا الكتاب، ولكن بعد التخرَّج من الجامعة أحسسنا بالخطأ الفادح الذي ارتكبناه، ولاحقا حصلنا على الكتاب من أحد الزملاء الذين لم يكن في اهتمامهم إعادة النظر أو قراءة الكتاب.
وفي أحد الأيام من تلك السنوات، وردني اتصال من كاتبة يمنية معروفة، تسأل عن كتاب ينفعها لتحضير دراسة عن "ظاهرة الحزن في شعر حسن الشرفي"، لم أفكِّر حينما قالت إن زميلة لها تحتاج هذا الكتاب كإعارة وستعيده بكل تأكيد لاحقاً، لم تكن ثقافة تصوير الكتب والاحتياط لضياع الكتب قد توفّرت بعد، لكنني أدركت بعد إرسال الكتاب إليها في صنعاء أن زوجها هو الباحث؛ باعتباره من حجة، وهو مهتم بشعر حسن الشرفي، لا مشكلة حتى الآن، المشكلة أن هذا الكتاب الرائع لم يعد، والكاتبة الكبيرة رحلت من اليمن بعد دخول الحوثيين إلى صنعاء، وزوجها الباحث مات، ومازال في نفسي من هذا الكتاب الأيقونة الرومانسية، وكيف فقدته إلى الأبد.
مؤلفه الدكتور طلعت أبو العزم مات قبل أربع سنوات في أسيوط، الكتاب غير موجود على النت، ولم يبقَ منه سوى الذكريات الجميلة، والأبواب البحثية الاستثنائية.
هذا مثال بسيط، أو قصة مختصرة لأحد الكُتب المُعارَة، الذي اقتصرت فائدته على عدد محدود من الناس.
هذه قصة أحد الكُتب، ولا شك أن هناك الكثير من القصص لكُتب فقدناها عن طيب خاطر، أو عن غير خاطر، ولم نستطع استردادها عن طيب خاطر، أو غيره.
وهناك مقولات كثيرة كُتبت وقيلت عن الذين يعيرون كتبهم، وكمثال يقال: "أحمق من يعير كتابه، والأحمق من يعيده"، وهذي مقولة فيها كمية كبيرة من الأنانية والحمق؛ لأن الحياة عطاء والمعرفة عطاء.
هل أنانية القراءة بشعة إلى هذا الحد؟
ماذا نقول عن أولئك الملائكة الذين يهبون، أو وهبوا مكتباتهم للمدارس والجامعات ومراكز الأبحاث لتكون منحة عظيمة لأجيال جديدة من القُراء؟!!
خلال السنوات العشر الماضية، لا بُد أن نحشر المليشيات في كل شيء يتعلق بالثقافة والقراءة والمعرفة، لم يعد أحد يجرؤ أن يهدي جامعة أو مكتبة عامة أو مدرسة مكتبته قبل أن يفارقها في رحلة الموت الأخيرة دون كتبه؛ وهي سُنة الحياة، إذا لم يكن للأب ابناً محباً للكتب والقراءة مثله.
ما أكثر من ماتوا من أكاديميي جامعة صنعاء وماتت كتبهم معهم!! وأمسى مصيرها عند الباعة على الأرصفة بعد انتقالهم إلى دار البقاء.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل تموت الكتب بموت أصحابها؟ أين مكتبة الدكتور عبد العزيز المقالح؟ أين مكتبة الشيخ محمد إسماعيل العمراني؟ وأين مكتبة البردوني رغم أن ثقافة البردوني كانت سماعية أكثر من كونها ورقية؟ وأين كل المكتبات الشخصية في طول اليمن وعرضه؟ وأين مكتبات زبيد وبيت الفقيه، ومكتبات أعلام تهامة وتعز وحضرموت وعدن وصنعاء.. الخ؟
سمعنا، قبل وقت قصير، أن مكتبة الشاعر سلطان الصريمي تم إهداؤها لمقر الحزب الاشتراكي في تعز، وهذا يوحي أنَّ أكثرها كتب سياسية، وهو خبر من الأخبار.
المعرفة إذا تقيَّدت بالأنانية ماتت!!
لم أقابل مثقفاً بعد نادما على إعارة كتاب أو مكتبة ما دام العطاء قد أصاب المكان الصحيح، كأنْ استفادت من العطاء أجيال جديدة، وتكوّنت أرواح شابة، وشحذت عقول مبدعة.
يندم الواحد عندما يهدي أو يعطي كتابه لمثقف أو قارئ يكتفي بوضعه على الرف، أو يذهب لمن لا يستحقه، يتمنى الواحد لو أحرق هذا الكتاب أو ذاك.
لا ننسى ذكر أبي حيان التوحيدي، الذي قام بإحراق مؤلفاته؛ احتجاجاً على ما صار إليه من فقر وذلٍّ وحاجة وبؤس نفسي، وأن ليس هناك من يستحق أن يقرأ كتبه حسب اعتقاده، وكان هذا الإحراق تعبيرا رمزيا أكثر من كونه حقيقة؛ لأنه أحرق الكتب التي بحوزته، وفي الحقيقة كانت كتبه قد انتقلت من أيدي الورَّاقين إلى أيدي القُراء ومثقفي عصره.
الكتب هِبة سماوية لعقول البشر!!
لعلنا قد خرجنا من الموضوع الواحد إلى موضوعات متعددة؛ يجمع بينها الكتاب والكتب والإعارة والاستعارة، وهذه من الموضوعات التي تقترب روحانياً من مناسبات رمضان ومثاقفاته قبل أن تتحول ثقافة القراءة والكُتب في رمضان إلى مسلسلات؛ مثل السيل، جرفت في طريقها الكتاب والكاتب والقارئ إلى أدغال النسيان والثقافة الموجَّهة، فتكونت أجيال تتلقى بلا نقد أو تمحيص، مثل أوعية فارغة جوفاء ليس فيها سوى الضجيج والثقافة الاستهلاكية والإعلانات.
نختتم هذا المقال الافتتاحي لرمضان بقصة صاحب إحدى المكتبات الشخصية الكبيرة في مدينة الحديدة، حيث فتحها في دور علوي لمكتبته التجارية في شارع الميناء، وفتح أبوابها للطلاب الباحثين والباحثات.
وبعد شهور، اكتشف أن الطلاب والطالبات لم يكتفوا بالبحث والاستعارة، بل كانوا يدخلون المكتبة ويقلِّبون الكُتب، بحثا عن مواضيعهم، ويقومون بانتزاع الأوراق المتعلقة بالبحث من الكُتب التي تقع في أيديهم، ثم يعيدون الكُتب إلى أماكنها.
وعندما اكتشف صاحب المكتبة الموضوع العبثي هذا، قام بإغلاق مكتبته إغلاقاً نهائياً، وهو يشعر بحزن عميق لا حدود له حتى اليوم.