مقالات
ثقب في زجاج الذاكرة
في إصداره الشعري الخامس المعنون بـ"بيدق أسود في يد الجنرال"، الصادر عن منشورات مواعيد ـ ٢٠٢٤ ـ صنعاء -الذي احتوى بين دفتيه ما يقارب من ٣٠ قصيدة نثرية- يواصل الشاعر محمد اللوزي التحليق في سماء الشعر عبر أجنحة النثر.
وتأتي هذه المجموعة بعد تجربة ورحلة شعرية خاضها الشاعر اللوزي مع الكتابة الشعرية، منذ مطلع الألفية الأولى؛ أنجز خلالها أربعة إصدارات شعرية؛ هي: "الشباك تهتز العنكبوت يبتهج"، و"إجازة جيري"، و"حبة خال في ساق الفراشة"، و"قهقهات الفتى الأخرس"، والشاعر محمد اللوزي -الذي جمعتني به الاهتمامات الشعرية والأدبية مطلع الألفية- يعد من القلائل الذين عرفتهم من شعراء ذلك الجيل، الذي استمر مبحرا في على قوارب الكتابة الشعرية، يخوض غمارها دون انقطاع، أو توقف.. خلافا لعدد من أصدقائه من شعراء هذا الجيل، هذا الجيل الذي شهد موجات من عواصف وأعاصير التقلبات السياسية والحروب، تلك الحروب التي تطايرت شظاياها بكل الاتجاهات، وتركت أثرها على مجمل مناحي الحياة في البلد عموديا وأفقيا، ولم يكن المشهد الثقافي والأدبي بمنأى عن ذلك.
لقد استطالت موجات تلك الحروب المتلاحقة بتعدد شظاياها، وامتدت أظافرها لتترك خدوشا متباينة على شتى وجوه ومناحي الحياة، وخاصة على المشتغلين بالمشهد الثقافي والأدبي عموما، وأضاف وضع البلد تحت الحصار في السنوات الأخيرة عبئا إضافيا؛ كل هذا كان لا بُد أن يترك ندوبه وجراحاته على جسد القصيدة، ويترك النزيف يسترسل في قلب الشعراء، ويرسم شروخاته على جدران حياتهم؛ كونهم الفئة الأشد تحسسا، والأكثر تفاعلا مع البُعد الإنساني، وتأثرا بما حولهم.
فلا غرابه أن يطالهم الإحساس بالوجع، وتسكنهم الدهشة، وتبتلعهم غصص الألم، ويمضغهم الحزن؛ جراء ما حدث ويحدث، وجعل بعضهم يعتزل الكتابة، ودفع آخرين إلى الانزوى في ركن قراهم القصية، كما غيّب المرض والموت آخرين.
لقد كسرت الحروب زجاج أحلامهم، وأطفئت قسوة الظروف المعيشية ما تبقى من أمل بالانفراج، ووجد البعض منهم ملاذا في العزلة، وانشغل وانصرف البعض بحثا عن لقمة العيش، واضطر آخرون إلى الهجرة خارج البلد؛ بحثا عن فرصة أو فسحة للبقاء على الحلم والأمل.
أما آخرون فقد أرهقتهم مشقة الصعود على سلالم الشعر والحلم بحثا عن المدينة الفاضلة، في أزمنة الحروب.
وتضاعف هذا الإحساس لدى معظمهم؛ جراء تراجع الدور المؤسسي الثقافي، وإغلاق العديد من المؤسسات الثقافية، والأندية الإبداعية، والمجلاّت والصحف ودُور النشر أبوابها، حيث كان أغلبها يشكِّل مصدراً وسنداً ومُعيناً مادياً وفكرياً للعديد منهم.
إن ذلك هو جزء من الصورة، فثمة من ظلوا واقفين رغم كل هذا الحطام، ممسكين بأقلامهم وقلوبهم، يتحسسون ضوء الشعر والكتابة، منهم الشاعر محمد اللوزي، الذي تحاول القراءة الطواف في مجموعته الشعرية االصادرة مؤخرا (بيدق أسود بيد الجنرال).
.....
- تنهض نصوص المجموعة الشعرية للشاعر محمد اللوزي على بنية سردية تتصف بالاقتصاد والتخفف من الإطالة والإطناب والبساطة بعيدا عن التكلف في تركيب الجملة الشعرية، وتنزع نحو التخلي عن الخطابة والتقليد، إذ يبدو فيها الشاعر ملتصقا بتجربته الكتابية الخاصة أسلوبا ولغة.
ـ تنتظم المجموعة، وتنتظم بناءً نصيا، يمتزج فيها الخاص بالعام، والذاتي بالموضوعي، ضمن تقنية أسلوبية تتلمس طريقها لواقعها المحسوس، وتجريده من المعنى الواحد. تنفتح نصوص المتن الشعري، وتدور حول عدد من الانشغالات كـالطفولة، والصداقة، والحرب، والحرية، والغربة، وتشكل هذه الانشغالات أرضية تتكئ عليها الرؤية الشعرية في المجموعة، وعلى مرآة النصوص في المجموعة، التي تأتي كمحصلة للتأمل والتفاعل والانفعال بين الذات الشعرية وواقعها في الخارج، الذي يتجلى في النصوص واقعا يموج بالتناقضات والمفارقات، مما يجعل المفارقة والسخرية هما إحدى أدوات الفنية التي يلجأ إليها الشاعر محمد اللوزي في تخصيب النص جماليا.
ويكاد موضوع الحرب يحتل موضوع حضور محوري وفاعل في إنتاج الدلالة في معظم
النصوص مركز كثافة.. ويجي عنوان المجموعة كـ عتبة نصية أولى، ومفتاح لبوابة المتن النصي للمجموعة، و تكثيف دلالي لذلك.
تطل المفارقة عبر العنوان (بيدق أسود في يد الجنرال)، إذا اقترن في العنوان عنصري الموت والحياة؛ فالبيدق هو قطعة لعبة الشطرنج (الجندي) قطعة ميتة، أما الجنرال فهو أعلى رتبة عليا يتم منحها لأحد الضباط، وقائد الجيوش الذي يقود الحرب.
لقد استقدم الشاعر اسم البيدق ليدلل على اللعبة (قطعة جماد)، واستقدم اسم الجنرال كوظيفة -وهي الحرب- لإنسان "من لحم ودم".
-تحاول الذات الشعرية في المجموعة إقامة جسور حوارية مع عالمها الخارجي، وما يحيط بها، وما يموج بها من أحداث ومواقف تستدعي دهشة الشاعر حينا، وسخريته حينا آخر.
وفي ظل هذا التفاعل، تستشعر اختلال الواقع من حولها، مما يكثف الوحدة والاغتراب والشعور بالجدوى والعبث تجاه واقعها المختل.
وتشكّل الحرب، بتعدد شعاراتها في المجموعة، إحدى روافع هذا الشعور باختلال علاقة الذات بواقعها، الذي في وجوده تنكمش الذات الشعرية ويتقلص وينطفئ معها إحساسها بالزمن والوقت، وفقدانها الإحساس بالجهات، فيتساوى فيها الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، هكذا يوحي إحالة دلالية إلى عتبة العنوان "بيدق أسود في يد الجنرال"، في علاقة الذات الشعرية بالزمن منذ أن اخترقت رصاصتها الأولى زجاج ذاكرتها، إذا تستدعي هذه العلاقة إحساسا متموجا في الذات؛ تارة بالدهشة، ومرة بالتناقض، ومرات بالمفارقة والشعور بعدم الاكتراث، والعبث واللا جدوى؛ ويحضر هذا الملمح في نص "الشيخوخة" - ص٨٦:
لتكن الشيخوخة
من ينتظرني خلف الباب
ليكن الخراب البطيء والهلع
ليكن الشعر الأبيض
أو السير بعصاة..
ما عدت أكترث
منذ اخترقت رصاصة الحرب
زجاج ذاكرتي..
وطارت القذائف في الفضاء.