مقالات

"خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" (2)

04/07/2025, 13:59:31

في أول اجتماعٍ حزبي كنا خمسة أو ستة أعضاء، ولم يكن بينهم أحد من قريتي، لكن خوفي كان قد تبخّر، وكان المسؤول الحزبي شخصاً في غاية اللطف، يقول كلامًا بسيطًا عن الظلم والعدالة وعن الحزب، وكنت قد بدأت أستلطفه.

لكنهم نقلوني إلى حلقةٍ أخرى وإلى مسؤولٍ آخر، وكان المسؤول الجديد مزهوًّا بنفسه وبالمصطلحات التي يحفظها ويرددها.

ومثلما كنت أضيق في المدرسة وأفرح حين أسمع صوت الجرس وهو يعلن انتهاء اليوم الدراسي، كنت في كل اجتماعٍ حزبي أشعر بضيقٍ شديد، وأنتظر اللحظة التي سوف يعلن فيها المسؤول انتهاء الاجتماع.
وكذا كنت أفرح حين يتم إبلاغنا بأن الاجتماع القادم تأجّل لأسباب أمنية أو لأسباب أخرى.

وفي ذات اجتماع، وزع علينا المسؤول الحزبي كتبًا وطلب منا أن نلخّصها في ورق ونتكلم عنها في الاجتماع، وكان اسم الكتاب الذي أعطاه لي:
"خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء" لفلاديمير لينين.

وبعد أن سلّمنا الكتب أخبرنا، كوننا أعضاء جدد، بأن هذه الكتب ممنوعة وعلينا أن نخفيها عن الأعين ونحافظ عليها.
وقبل خروجي، وضعتُ الكتاب تحت حزام بنطلوني ما بين سرتي ومثانتي، وفي الشارع رحت أقرأ نفسي في وجوه المارة، وكنت أجدني مختلفًا عنهم ومتميزًا، كوني صرت عضوًا في حزبٍ ثوري، وصار لي رفاق من مناطق مختلفة، بعد أن كنت لا أعرف سوى أبناء قريتي.

وكان ذلك الشعور، شعوري بأنني عضو في حزبٍ ثوري ممنوع وملاحَق من قبل النظام، يرفع معنوياتي ويضخّم ذاتي، ويشعرني بالفخر والزهو.

ثم إنّ ذلك الكتاب المحشور بين سرتي ومثانتي، بعنوانه المثير:
"خطوة إلى الأمام.. خطوتان إلى الوراء"، أشعرني بأن دخولي الحزب كان بمثابة خطوة خطوتها إلى الأمام.

ولأن الاجتماعات كانت تتم في المساء، فقد خرجت من الاجتماع وذهبت إلى مطعم "الفيلق" في شارع صنعاء، وبعد أن تعشيت عدت إلى شارع المطراق، وسحبت سريري من بين الأسرة ونصبته في الرصيف لصق عمود الكهرباء، واستلقيت على السرير وأخرجت الكتاب، ورحت على ضوء عمود الكهرباء أقرأ فيه، وشعرت وأنا أقرأ كما لو أني أحسَكُ شوكًا؛ ليس لأن الكتاب كان صعبًا، ولكن لأنه كان مملًا، ويتحدث عن أشياء لا علاقة لي بها، ولا تلامس شيئًا في نفسي، ولا تثير دهشتي.

ورحتُ بيني وبين نفسي أتساءل:
"ما دخلي أنا بالمناشفة والبلاشفة هؤلاء؟! وما علاقتي بهم وبخلافاتهم؟!".

وبالكاد قرأتُ عشر صفحات، وكانت روحي تكاد تطلع مع كل صفحة.

ولشدة مللي وقرفي من الكتاب، وضعته جانبًا وفتحتُ كتابًا كنت قد اشتريته من مكتبة الثقافة في باب مشرف، وكان بعنوان:
"الوجودية مذهب إنساني" للفيلسوف جان بول سارتر.

ومع أن الكتاب كان صعبًا لواحدٍ مثلي تخرّج من صف ثاني إعدادي، إلا أنني شعرتُ به رغم صعوبته، وشعرتُ بأنه يلامس شيئًا في نفسي ويثير فيّ حنينًا إلى أشياء لم تتضح لي بعد، لكنها أشياء كامنة وموجودة داخلي وأحس بها رغم عدم معرفتي بها.

يومها لم أكن أعرف ما هي الوجودية، ولا من يكون سارتر هذا.

وفي الاجتماع سألتُ مسؤولي الحزبي عن الوجودية، فقال بأنها فلسفة مثالية وفلسفة برجوازية عدمية، وراح يتحدث عن عيوبها، ويحذرنا من الاقتراب منها ومن قراءة كتبها.

وعندما حان وقت الحديث عن الكتب التي تسلمناها في الاجتماع السابق، راح كل واحد يتكلم عن كتابه، ومثلما في المدرسة، عندما يبدأ الأستاذ يسأل الطلبة عن الواجب وتعرف أنه بعد أن ينتهي منهم سوف يسألك، شعرتُ، وهم يتكلمون عن كتبهم، بأنه سوف يسألني بعد أن ينتهي منهم.

كنت أنا آخر واحد، وكان قلقي يتفاقم كلما اقترب مني، وحيرتي تزداد، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي:
"ماذا أقول له؟! هل أقول إن الكتاب ممل ومضجر ولم يعجبني؟! أم أقول إنه صعب؟! أم ماذا؟!".

وحين أتى دوري قلت له وأنا مرتبك:
"ما قرأتُ الكتاب".

فاستغرب المسؤول الحزبي وقال لي: 
"ليش ما قرأته؟".

قلت: "قرأت عشر صفحات، وما قدرت أواصل القراءة".

وراح مسؤولي الحزبي ينتقدني ويوجه لي النقد، ويقول لي كلامًا شبيهًا بالكلام الذي يقوله المدرسون للطالب الذي قصّر في واجبه، مع الفارق هو أن مسؤولي الحزبي لم يكن بيده عصا ليضربني بها، لكن ذلك لا يعني أنه لم يعاقبني؛ فقد عاقبني يومها مرتين:
"مرة لأنه قال لي كلمات أوجعتني أكثر من وجع الضرب بالعصا". والعقوبة الأشد هي أنه أعطاني كتابًا لنفس المؤلف "فلاديمير لينين"، وكان بعنوان: "ما العمل؟".

ويومها ذهبتُ للشخص الطيب الذي كسبني للحزب، وطلبتُ منه أن ينقلني إلى حلقةٍ أخرى، وحين سألني عن السبب استحييت أن أقول له إن مسؤولي الحزبي يعاقبني بقراءة كتب لا تعجبني.

ولأنه كان طيبًا ومؤدبًا، لم يُلحّ عليّ لأخبره بالسبب الحقيقي، وفي الوقت نفسه لم يعدني بنقلي إلى حلقة أخرى.
وعندما بُلِّغت بموعد الاجتماع القادم، ذهبتُ إليه وأنا قلق، وسألته عما فعله بشأن طلبي الانتقال إلى حلقة أخرى، فكان جوابه هو أن ذلك غير ممكن، وأن "عليَّ كعضوٍ في الحزب أن أنفذ ما يطلبه مني الحزب، وليس على الحزب أن ينفذ طلباتي".

وعندما قال لي ذلك، شعرتُ بأنني تورّطتُ بدخولي الحزب، وندمتُ لأنني استعجلت ووافقت.

لكنني، وقد دخلتُ وخطوتُ خطوةً إلى الأمام، صار من الصعب أن أرجع خطوتين إلى الوراء.

ثم، وقد عرفتُ من الشخص الذي كسبني استحالة نقلي إلى حلقة أخرى، أخرجتُ ليلتها كتاب لينين "ما العمل؟"، ورحت أقرأه غصبًا عني، وأتجرّعه كما نتجرّع الدواء، وكما تُجرّعنا أمهاتنا "شُربة سَنة".

وأثناء ما كنت أقرأ الكتاب، رحت أفكر وأسأل نفسي:
"ما العمل؟ وماذا عليّ أن أفعل؟! هل أبقى في الحزب؟ أم أغادر؟".

وفيما كان صوت في داخلي يغريني بالمغادرة، كان صوت آخر يخوّفني ويقول لي:
"انتبه لو تخرج، با يزعلوا الرفاق منك".

وكان الرفاق الخمسة الذين معي في الحلقة يحبونني، ويسألون عني، ويمرّون ليطمئنوا عليّ، وكنت أنا أحبهم وأشتاقهم، كوننا في حزبٍ واحد، وأشعر حين أكون معهم بالدفء وبالأمان.

ولخوفي من أن أخسرهم، أخذني الحماس، وأخذتُ القلم، ورحتُ ألخّص الكتاب.
ولأن الاجتماع القادم كان في مساء اليوم التالي، فقد سهرتُ ليلتها للفجر أقرأ وألخّص وأكتب.

وفي الاجتماع، لم أكتفِ بتقديم الملخص المكتوب، وإنما تكلمتُ "عن الطبقة العاملة، وعن حاجتها -بحسب قول لينين- إلى حزبٍ ثوريٍ طليعي يقود نضالها نحو الثورة الاشتراكية، على أن يتشكل هذا الحزب  -بحسب قوله- من المثقفين الثوريين الماركسيين؛ لأن أقصى ما يمكن أن تصل إليه الطبقة العاملة في نضالها ضد الرأسماليين المستغلين هو الوعي النقابي، أما الوعي الاشتراكي والوعي الماركسي الثوري، فيرى لينين أنه أتى إليها من خارجها، من المثقفين الماركسيين الثوريين".

وعندما انتهيت، راح مسؤولي الحزبي يثني عليّ أمام الرفاق، وشعرتُ يومها وأنا أغادر الاجتماع بشيءٍ من الزهو، وبأنني واحد من أولئك المثقفين الماركسيين الثوريين الذين تكلم عنهم فلاديمير لينين.

مقالات

الحوثي.. وحشية بلا هوادة تفتت النسيج اليمني

لم يعد بيننا وبين الحوثي مساحة يمكن البناء عليها. لا رابط نقي يمكن ترميمه، ولا أرضية أخلاقية تصلح لحوار. ما فعله بهذه البلاد تجاوز حدود الخلاف، هوى بها إلى درك من الوحشية والتفكك، مزّق النسيج الاجتماعي، وحوّل الروابط إلى رماد. ارتكب مجازر لم توثقها كل الكاميرات، وقتل الآلاف بدم بارد. مارس انتهاك الكرامات، وسحق الحقوق، وزرع الخوف داخل كل بيت. من السجون خرجت صرخات لا تجد من يصغي، ومن البيوت خرج الناجون بلا ذاكرة، محملين بألم لا يُحتمل. لا يمكن توصيف الحوثي كجماعة مسلحة فقط، هو منظومة متكاملة لصناعة الرعب.

مقالات

فؤاد الحِميري: فبراير الذي لا يموت

عندما تتأمل قصائد وكتابات وأشعار فقيد الوطن وأديب فبراير، الأستاذ الثائر فؤاد الحِميري، تجد أنها جميعًا تصب في ينابيع مبادئ الحرية والكرامة ومقاومة الظلم. هذه المبادئ هي ذاتها الأهداف السامية لثورة 11 فبراير، ثورة الشباب السلمية اليمنية، التي كان الحِميري أحد أبرز شبابها وشاعرها الملهم.

مقالات

للورقة الباذخ بالشجاعة في جبال السلفية

أعتقدُ جازمًا أن طبيب الأسنان قد فخخ ضرسي تمامًا ببقايا تلك الهدايا التي أرسلها القذافي كعطيةٍ نفطيةٍ كريمة، ليجود بالحياة على من تبقّى بيدٍ واحدة أو بقايا أقدام، وهو يحتفل بأن النبض لا يزال فيه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.