مقالات
ثورة 14 أكتوبر اليمنية وتحرير الجزيرة العربية
لا يعتبر يوم الرابع عشر من أكتوبر 1963م يوما خالدا في حياة اليمن وحدها، بل هو يوم عظيم في تاريخ المنطقة العربية بأسرها، فثورة أكتوبر الخالدة لم تحرر جنوب الوطن اليمني، لكنها حررت أيضا بقية بلدان الخليج العربي، وأرغمت الاحتلال البريطاني على الخروج من عُمان والإمارات والبحرين وقطر، ومن هنا فإن الاحتفاء بها، والاحتفال بعظمة هذا اليوم، وإحياء هذه المناسبة يجب ألا تقتصر على اليمن بمفردها، بل وعلى بقية إمارات الخليج العربي، فإخراج المستعمر الإنجليزي من عدن مهزوما مدحورا على يد أبطال ثورة أكتوبر، أرغمته على الانسحاب من بقية المناطق التي كانت خاضعة له في بقية أرجاء الجزيرة العربية.
لقد قامت الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر ضد نظام الحكم الداخلي المستبد، والمستند على الدين، والمدعوم من قبل الرجعية، والاستعمار، وفي الوقت نفسه ضد المستعمر الأجنبي الغاصب.
ومن أهم دروس ثورة 14 أكتوبر أنها علمتنا أن نجاحنا في التصدي للعدو الخارجي، يبدأ بالتغلب على حكم المستبد المحلي.
لقد استقر لدى الأحرار والمناضلين من أبناء الوطن أن غياب أرضية وقاعدة ثابتة داخل البلد، لانطلاقهم في مواجهة المستبد المحلي، والغاصب الأجنبي، يعد أحد العوائق الكبيرة في تحقيق أهدافهم السامية، وأن وجود قاعدة مستقلة في أحد شطري الوطن حينها يمثل خطوة أولى ومهمة لتحقيق الهدف في الشطر الآخر، فقد كان نظام الإمامة الكهنوتي الآثم في شمال البلاد، والاستعمار البريطاني في جنوبه، يعزز كلاهما من وجود الآخر، ويدعم حظوظه في البقاء، وكانت هذه الحقيقة واضحة أمام اليمنيين منذ فشل ثورتي 1948، وحركة 1955، اللتين قامتا ضد الإمامة، وخلال الانتفاضات والتمردات القبلية التي شهدتها العديد من المناطق في جنوب الوطن قبل قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
أدرك البريطانيون من خلال خبرتهم التاريخية أن بقاءهم في سواحل اليمن الجنوبية، كان مرتبطا بوجود النظام الإمامي، حيث كانت الإمامة هي من تمدهم بالبقاء. فقبل ثورة سبتمبر الخالدة، كان الشطر الجنوبي من الوطن قد شهد العديد من الانتفاضات القبلية والتمردات في الريف، والمظاهرات والإضرابات في عدن، بحيث ظلت بين فترة وأخرى تشب في منطقة وما إن تنطفئ حتى تشتعل في بقعة أخرى، وهكذا، وعلى سبيل المثال شهدت مدينة عدن حوالي (30) إضراباً عمالياً خلال شهر مارس 1956م ، وفي خريف 1956م أثار العدوان الثلاثي على مصر من قبل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا - غضب الشعب اليمني، فازدادت وتيرة العمل الوطني، ضد التواجد الإنجليزي في المستعمرة عدن، والمحميات الشرقية والغربية، وشهدت المناطق القبلية العديد من الانتفاضات في الضالع وردفان ولحج ويافع والصبيحة والعوالق العليا والعوالق السفلى والفضلي، وكان الاستعمار يستخدم القوة والقسوة في إخمادها، الأمر الذي كان يدفع بزعماء الانتفاضات، وقادة التمردات للهروب واللجوء إلى شمال الوطن، غير أن الإمام أحمد والبريطانيين أدرك كل منهما مخاطر ذلك على سلطاتهم في شطري البلاد، وأن الأحداث قد تتطور، وتستهدف كلا الطرفين، الأمر الذي دفعهما للتوصل إلى اتفاقات تمنع تقديم العون والمساعدة للثوار، وما يؤكد ذلك أن زعماء القبائل الذين واجهوا الاستعمار البريطاني وأرادوا أن يكون الشمال منطلقا لمهاجمته "تحصلوا على بعض الأسلحة من مصرَ عام 1960م، لكن الإمام لم يسمح بخروج هذه الأسلحة من ميناء الحديدة". [محمد عباس ناجي الضالعي حقائق جديدة عن الانطلاقة الأولى لثورة 14 أكتوبر]
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا سارعت بريطانيا بعد ثورة سبتمبر للوقوف ضدها، وعملت على دعم الإمامة بالسلاح والأموال، وإرسال المرتزقة للتدريب والقتال في صفوف الملكيين، فقد كانت تدرك يقينا، أن ما جرى في صنعاء لن يتوقف عند الحدود الوهمية بين شطري الوطن، بل سيمتد حتما إلى عدن، وبقية المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وقد رأت منذ الأيام الأولى التفاعل الكبير لأبناء جنوب الوطن في الانخراط مع بقية إخوانهم في الشمال للدفاع عن ثورة سبتمبر، وقد صدق ما توقعه الإنجليز حيث أشرقت شمس اليمن متألقة من قمم جبال ردفان يوم الرابع عشر من أكتوبر 1963 لتعلن على مسامع الدنيا بداية أفول إمبراطورية كانت تجد في عدن قاعدتها الأهم لحراسة ما تبقى من أملاكها في منطقة بالغة الحساسية، كانت من خلالها تؤمن دعم هيمنتها وبقائها على مستوى القمة في النصف الثاني من القرن العشرين، وما إن طردت من عدن حتى اضطرت للمغادرة والخروج من بقية أرجاء الجزيرة العربية.