مقالات

جثة مصلوبة على المدرّعة.. عنف بلا كوابح وأمن خارج القانون

14/04/2025, 18:40:03

المشاهد المصوّرة، التي أظهرت جثة المواطن اليمني همّام اليافعي وهي مربوطة على مقدّمة مدرّعة أمنية في محافظة أبين، أثارت موجة استياء وغضب واسع، وبعثت رسائل سلبية عن واقع المؤسسة الأمنية، ومستقبل مشروع الدّولة.

الجريمة، التي نُفذت على أيدي قوات 'مكافحة الإرهاب' التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، لم تتوقف عند حدود القتل خارج إطار القانون، بل تجاوزت ذلك إلى التمثيل بالجثة علنًا، وتجوالها في شوارع المدينة، في مشهد صادم هزّ الضمير الجمعي.

هذه الواقعة لم تكن حدثًا عابرًا، أو مجرد تجاوز فردي، بل بدت أقرب إلى استعراض مدروس للعقاب والإذلال، وبقدر ما حملت من بشاعة في صورتها المباشرة فإن ما هو أكثر خطورة يتمثل فيما تُخفيه من منطق داخلي يحرّك هذه الممارسات، سواء على مستوى الدافع الشخصي، أو على مستوى العقيدة الأمنية التي تتشكَّل داخل الأجهزة المسلّحة غير النظامية.

في المستوى النفسي والسلوكي، يمكن قراءة مثل هذا السلوك باعتباره تعبيرًا عن حاجة مفرطة لإثبات السيطرة والتفوّق الرَّمزي، إذْ لا يكتفي الفاعل بقتل الخصم بل يسعى إلى سحق ما يمثله من معنًى، وتدمير صورته أمام جماعته وبيئته، عبر سحب جسده في الشوارع وتحويله إلى أداة للعرض، هذا السلوك ينطوي على رسالة موجَّهة إلى "الجمهور الخَصم" أكثر ممًا هي موجّهة إلى الجثة ذاتها.

كما أن هناك في الغالب رغبةً ثأريةً تتحكَّم في سلوك المنفِّذين، خاصةً في البيئات التي يختلط فيها الأمن بالانتماء المناطقي أو القبلي، يتغذّى هذا الدافع على سرديات سابقة، وربّما على حوادث فقدان أو صدامات دامية، ما يُحوّل الضحية -أيًا كان- إلى "رمزٍ للعدو"، ويُفرغه من فرديته وحقوقه، فيصبح قتله والتنكيل به ردًا على منظومة أكبر، لا على فعل شخصي.

بحسب خبراء، لا يمكن تجاهل الأثر التراكمي للعنف في سياقات الحروب الداخلية المُمتدة، حيث يُنتج هذا العنف بيئة نفسية واجتماعية مختلّة تُعرف بظاهرة "بلادة الإحساس الأخلاقي"، وهي حالة تفقد فيها الجماعات المسلّحة، ومعها بعض المجتمعات المحلية، حساسيتها تجاه مشاهد الدَّم، والقتل، والتمثيل بالجثث، فتتحول هذه الأفعال من كونها حالات استثنائية تثير الذهول أو الغضب إلى "تفاصيل ميدانية" يُتعامل معها كجزء من روتين القوَّة والانتصار.

في هذه البيئة، لا يُنظر إلى الجثة ككائن بشري انتهت حياته، ويستحق احترام موته، بل كمادة صامتة تُستخدم في تثبيت الهيمنة الرمزية والسياسية، هذا التبلّد الأخلاقي لا يظهر فجأة، بل هو نتيجة تراكم الانتهاكات دون عقاب، وغياب المساءلة، وتراجع الخطاب القانوني والحقوقي أمام صعود الخطاب التعبوي والعقائدي أو المناطقي.

يقول خبراء إن هناك مدارس أمنية -وإن كانت غير رسمية- ترى في الإفراط في العنف وسيلة لتحقيق الردع، تُعرف هذه المقاربة بـ"عقيدة الإرهاب الرمزي"، وهي تقوم على فكرة أن إظهار الوحشية بشكل علني قد يُرهب الخصوم، ويمنع تمرّد السكان، هذه المقاربة استخدمتها أنظمة استبدادية عبر التاريخ، وكذلك جماعات متطرِّفة مثل 'داعش'، التي لم تكن تسعى فقط إلى الانتصار العسكري، بل إلى هزيمة نفسية ومعنوية للطرف الآخر.

في سياق مشابه، تعتمد بعض التشكيلات المسلَّحة على ما يُسمى "عقيدة التفوّق الوحشي"، حيث تُمارس أعمالًا مبالغًا فيها من التنكيل؛ لتوجيه رسالة مفادها أن الجهاز الأمني لا يخضع لأي قواعد، وأن من يعارضه لن يُعامل كخصم، بل كمادة للتمزيق، هذه الرسائل لا تُرسل فقط للخصوم، بل أحيانا تُوجّه للداخل ذاته، لإثبات الهيمنة داخل الجهاز وتبرير وجوده.

من أخطر ما في هذه الممارسات هو نزعة "نزع الإنسانية عن الخصم"، حيث يتم تصوير الضحية على أنه كائن دوني لا يستحق احترام الحياة أو الموت، هذا النوع من التجريد العقلي يُسهّل ارتكاب أبشع الجرائم دون تأنيب، ويُحوّل العنف من استثناء إلى ممارسة يومية مؤسساتية، في مثل هذه العقليات، لا تُصبح الجريمة موضع مساءلة، بل وسيلة لبناء المجد.

لكن ما قد يظنّه الفاعلون نصرًا دعائيًا، أو استعراضًا للهيبة، قد يكون في حقيقته بداية انهيار مشروعهم السياسي والأخلاقي، فالممارسات التي تُستخدم لإرهاب الخصوم لا تؤدي بالضرورة إلى تعزيز الرَّدع، بل غالبًا ما تُشعل دوامات من الكراهية والثأر يصعب احتواؤها لاحقًا.

حين تتحوّل الجثث إلى رسائل، والقتل إلى مشهد جماهيري، كما حدث اليوم في أبين، وحدث من قبل في إب وصنعاء وعمران، فإن المشروع الأمني يفقد قيمته بوصفه أداة لبناء الاستقرار، ويتحوّل إلى آلية لإنتاج الرُّعب والاضطراب، كل جثة يُمثّل بها ليست فقط ضحية فردية، بل إهانة مباشرة لحق المجتمع في العدالة، ولحق الدولة في احتكار استخدام القوّة ضمن إطار القانون، وما هو أخطر من الجريمة نفسها هو أن تجد من يبررها ويمنحها الشرعية باسم "الضرورة الأمنية"، ما يقتل أي احتمال لقيام عقد اجتماعي حقيقي، يحفظ الحقوق ويصون الحريات.

لا يمكن عزل هذه الجريمة عن السياق الأوسع الذي أنتج الأجهزة الأمنية التي نفَّذتها، فهذه التشكيلات لم تنشأ عفويًا، بل جاءت ضمن هندسة إقليمية معقَّدة تقودها دول مثل الإمارات، التي لعبت دورًا مباشرًا في إنشاء وتمويل وتدريب قوات مكافحة الإرهاب التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، هذه الدِّول لم تكتفِ بتقديم الدَّعم اللوجستي، بل ساهمت في صياغة العقيدة القتالية لهذه الوحدات، وأشرفت على توجيهها المعنوي والإعلامي، بل ورعت خطابًا قائمًا على الحسم الميداني والرَّدع العنيف كبديل عن القانون.

في ظل انكشاف النتائج الكارثية، التي أنتجها هذا المسار، وما أفرزه من ممارسات تسيء للمجتمع والقيم والدولة على السواء، فإن الدّول الراعية لهذه الأجهزة لا تزال تملك فرصة واقعية لإعادة تقييم المسار وتصحيحه، بمقدورها أن تراجع صياغة العقيدة الأمنية لهذه التشكيلات، وتُعيد تعبئتها بمنظومة قيم تنسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية والقانون الدَّولي، وبما يحفظ كرامة الإنسان بدلًا من التعدّي عليها.

إن المسؤولية الأخلاقية والسياسية تقع على عاتق هذه الدِّول؛ لأنها لم تكن ممولًا محايدًا، بل شريكًا مباشرًا في صناعة هذا الوضع المختل، وفي استثماره ضمن حسابات النفوذ على هامش الأزمة السياسية الأوسع.

إذا كانت هذه الدِّول حريصة فعلًا على استدامة نفوذها وتأثيرها في اليمن، فإن الاستثمار في أدوات أقل توحشًا، وأقل إضرارًا بالنسيج المجتمعي، سيكون خيارًا أنجع على المدى الطويل، فالقوة المستندة إلى الرُّعب والإرهاب لا تدوم، بينما النفوذ المبني على احترام القانون والعدالة يعمّر أكثر ويترسَّخ في الوعي العام بوصفه صديقًا لا جلادًا.

مقالات

الزمن كطقس: عودة الإنسان إلى جذره الحِميري

في الأول من شهر "ذو ثابة" اليمني الحِميري، ترتجف الأرض من فرط الخصوبة، وتبدأ الرِّيح في هدهدة السنابل الأولى، ينطق الزّمن بلغة المسند، معلنًا بداية السنة الحِميرية، لا بوصفها رقمًا يُضاف إلى جداول النسيان، بل باعتبارها لحظة انبثاق لهوية اعتُصرت طويلًا بين فكي النسيان والاستلاب

مقالات

اليمن تفتقد مثل زياد بن أبيه!

كان للحارث الثقفي جارية تسمى سمية، وعبد رومي يسمى عُبيداً، فزوَّج عبيداً بسمية، فأنجبت له غلاماً فسمَّاه زياداً، وظهرت عليه مخائل النجابة وهو صغير، فتعلم في كُتاب في الطائف فأعجب به المعلم، وجعله موضع ثقته، فقال وسنه في الثالثة عشرة: "حين أعلم أصغر مني فإني أتعلم لأني بذلك أذكر ما نسيت وأتدبر ما حفظت".

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.