مقالات
حشيشة الاعتزاز وأفيون الاطمئنان
لطالما فخرَ اليمنيون بتاريخهم الذي يرونه موغلاً في المجد ومُكلّلاَ بالهيلمان وفائضاً بالسؤدد، وتأسيساً على هذا الفخر يتعاطى اليمنيون حشيشة الاعتزاز وأفيون الاطمئنان. وبالتالي لا يجرؤ أحد على أن يهزّ هذا الاعتقاد الراسخ لدى اليمنيين بعظمة تاريخهم، بأن يشير إلى أن جزءاً حميماً من هذا التاريخ زائف من الأساس .
إن كتابة التاريخ اليمني كانت في جانب منها إما يعتريها الزيف الخالص أو تكتنفها المبالغة الشديدة أو المكيجة البليدة، يستوي في ذلك التاريخ السياسي والحربي والديني والثقافي.
وثمة دراسات علمية كشفت الكثير من جوانب هذه الحقيقة، وتصطف اليوم في عديد مكتبات وجامعات العالم، عدا مواقع الشبكة العنكبوتية.
كما أن العديد من القراءات التاريخية - حالها حال معظم الكتابات التاريخية - لم تكن أمينة مع مبادئ العلم ومعاييره في ما يتصل بالدّقة والأمانة والمسؤولية والموضوعية.
فقد أخفى عدد من الباحثين والمؤرّخين عديداً من الأسرار التي تكشّفت لهم أثناء دراساتهم أو قراءاتهم، إيغالاً في التمويه على زيف هذا التاريخ أو زيف مؤلفيه!
وقد استمر الأمر على هذا المنوال إلى زمننا التاريخي الحديث والمعاصر، إذْ راحت عملية كتابة التاريخ تتلوّى تحت سيطرة عدد من أصحاب الولاء لمعتقدهم السياسي أو الأيديولوجي، أو ذوي الانقياد لمصالحهم الطائفية أو السلالية أو الجهوية، أو ممن اقترن بمصلحة نفعية ما على حساب حقائق التاريخ وقواعد العلم وحق الأجيال في المعرفة.
إن معظم تاريخ ثورتَيْ 1962 و1963 - على سبيل المثال - الملقى قبالة بصر الأجيال موغل في الزيف. وقِسْ على ذلك معظم المعطيات التاريخية المتصلة بأحداث ووقائع تاريخية جسيمة أخرى، مثل استقلال 1967، ووحدة 1990.
فالكثير من وثائق وحقائق تلك الأحداث وغيرها لا تزال في حالة من ثلاث: إما مطموسة، وإما مدسوسة، وإما مُلتبسة.
ويتعمّد البعض - ممن شاركوا في صنع تلك الأحداث أو اطَّلعوا على مجرياتها - أن تظل هذه الحالات قائمة في الوعي الجمعي اليمني، لأغراض موغلة في الذاتية أو متصلة بالبراجماتية أو مرتبطة بالمرجعية.
والأمر ذاته ينطبق على تاريخنا في عهدَيْ الاحتلالين التركي والبريطاني، أو في ظل المملكة المتوكلية والأحداث التي شهدتها بعض المناطق والطوائف فيها.
وفي الوقت نفسه، تجري اليوم في مناهج التعليم ووسائل الثقافة والإعلام حملة محمومة إاعادة كتابة وتكريس محطات جديدة في التاريخ اليمني، على هوى السلطات القائمة اليوم على المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، مما يجعل مُدخلات هذه العملية تغدو - بعد زمن ليس بالبعيد - مفاهيم وحقائق تاريخية مغروسة في وعي ووجدان الأجيال القادمة، وإلى عهد لا يعلم أمده وأثره أحد.
إن أولى الخطوات اللازمة لغسل الدِّماغ الجمعي للأمة تبدأ من غسل أدمغة النشء.
وليس أنجع وسيلة لتحقيق ذلك من زرع أفكار ومفاهيم ورؤى وتعاليم تتحوّل إلى حقائق راسخة في نسيج الوعي والوجدان الجمعي للجيل الجديد، بما يتصل بعقيدته الدِّينية وثقافته التاريخية وموروثه الوطني، على غير ما درجت عليه الأمة وأجيالها المتعاقبة طيلة العقود بل القرون الماضية.
والحق أن ثمة محاولات تتأسَّس منذ زمن قريب لكشف النقاب عن كثير من جوانب الزيف في هذا المحمول التاريخي، ما يطال الأحداث والوقائع والأشخاص وغيرها من الحقائق التاريخية.
وإذا كتب الله عمراً مديداً -لي وللقارئ الكريم- سنستطيع أن نقرأ نسخة من كتابنا التاريخي خالية من الشوائب والزوائد والنواقص والجراثيم الضارة العالقة بعقل ووجدان الأجيال.
غير أن البلاء العظيم يكمن في المحمول الجديد الذي لا يزال يتأسس ويتجذر في هذه اللحظة.